مصالحة السعودية وإيران.. علاقة متينة أم مجرد هدنة؟
الاستعجال في الاحتفال بهذه المصالحة وكأنها حل لكل قضايانا العالقة، وباب للخروج من كل أزمات المنطقة، استعجال في غير محلّه، وقراءة ناقصة للتعقيدات التي تقف في طريق الاستراتيجيتين المختلفتين بين البلدين.
أمر طبيعي أن تأخذ المصالحة بين السعودية وإيران زخماً كبيراً في الأوساط كافة وعلى صعد عديدة، لا لأن الجليد قد ذاب بين الخصمين اللدودين وحسب، بل لأن المصالحة جاءت مطبوخة على قوة دبلوماسية صاعدة تمثلت في بكين، الوسيط الذي نجح في جمع الخصمين، بعد سنوات من الشراكة الاقتصادية الوازنة بين الصين من جهة والسعودية وإيران من جهة أخرى.
الوساطة الصينية أحدثت زلزالاً سياسياً في العالم، ستظهر ارتداداته على النفوذ الغربي عموماً والأميركي بشكل خاص، فالاتفاق بين الرياض وطهران، أياً يكن شكله ومستواه ومدة بقائه فهو لا يسير في مصلحة الكيان الصهيوني، الذي يعاني أصلاً من مشكلات عديدة، و بدأ فعلياً بالتآكل الداخلي، من جراء خطوات غير مدروسة لحكومة نتنياهو إزاء تعديلات قانون القضاء.
في هذا الإطار، ثمة ثلاثة أسئلة نحتاج أن نمعن فيهم بحثاً وتنقيباً؛ سعياً لتنضيج الرؤية تجاه هذه المصالحة:
السؤال الأول: لماذا قبل الطرفان المصالحة الآن؟
السؤال الثاني: ماذا تعني المصالحة للصين، وماذا تعني للبلدين المتصالحين؟
السؤال الثالث: ما مدى قدرة هذا الصلح على البقاء؟
أولاً، هدنة لا بد منها:
في السؤال الأول: لماذا قبل الطرفان المصالحة الآن؟ نستذكر الجولات الخمس بين البلدين، والتي استضافتها جمهورية العراق على مدى شهور عديدة أبان حكومة مصطفى الكاظمي، لكنها لم تنجح، ولم تستطع الوصول إلى نقطة التقاء عملية.
في الجهد الأخير الذي قامت به الصين، جمعت شتات تلك الجولات الخمس في العراق، وبالتالي احتاجت إلى الوسيط العراقي، كما استثمرت وزن الوسيط العُماني وقربه من الطرفين، لتكون المحصلة عودة العلاقة الدبلوماسية بين الدولتين الإقليميتين المهمتين.
لطهران نظرة استراتيجية إلى المنطقة تتمثل في تشابك المصالح، وخفض التوترات، وبذلك تحصل طهران من خلال هذا البُعد على مساحة اقتصادية من جهة، وتكون مساحة المناورة أكبر في صراعها مع الكيان الصهيوني والحرب غير المباشرة معه، من جهة أخرى.
السعودية، وفي ظل الملفات المتراكمة على كاهلها، وعدم اهتمام واشنطن بورطتها الحقيقية في اليمن، اختارت أن تولي اهتماماً أكبر بحليفها الجديد المتمثل في جمهورية الصين الشعبية، وتعتني بما يقوله الرئيس الصيني شي جين بينغ بشكل جيد، فالاستثمارات الهائلة في السنوات الأخيرة بين بكين والرياض هائلة جداً، وتعطي زخماً ملموساً لأي حديث سياسي.
كما لم تستفد السعودية كثيراً من خصومتها مع طهران، الأمر الذي دفع الرياض إلى التفكير ملياً في مصلحتها القومية، في ظل تورط الغرب بأكمله في حربه مع روسيا على الأراضي الأوكرانية.
فهذه المصالحة، على أقل تقدير، هي هدنة لا بدّ منها، يحتاجها الطرفان.
ثانياً، الصين ووزنها:
في السؤال الثاني: ماذا تعني المصالحة للصين وماذا تعني للبلدين المتصالحين؟ مروحة من المعلومات الكثيرة التي تنبئ بنمو الصين في المجالين السياسي والعسكري توازياً مع المجال الاقتصادي، فموقعها الدولي جعلها توازن، بطريقة ذكية جداً، موقفها في جملة من القضايا العالمية كالحرب في أوكرانيا، إذ لم تقطع الخيط الواصل بينها وبين الغرب، لكن في الوقت نفسه، لم تترك روسيا وحيدةً، على الأقل، في الجانبين المالي والاقتصادي، كما أن مواقفها السياسية حازمة في صد تمدد "الناتو" إلى حدودها، وكذا في موقفها من قضية تايوان التي لا تريد حسمها -حالياً على الأقل- من خلال الحل العسكري، في ظل قدرة الغرب على إيذائها اقتصادياً، في وقت تشحذ كل الجهود لتعزيز فكرة منع تايوان من الاستقلال.
هذه النماذج من السياسات الخارجية للصين تعطيها سمةً خاصة في التعامل مع الصراع القائم مع الغرب، وعليه فإن تنامي الصين وشبكة علاقاتها الواسعة مع إيران والخليج، جعلا من ثقلها عاملاً مشجعاً في ترطيب العلاقة بين طهران والرياض، كما أن البلدين يحتاجان أن يعطيا الصين هذه النقطة التفضيلية لكي يعززا موقع الصين، فهذا النوع من التعزيز يعود عليهما بالنفع، ذلك لأن وجود متنافسين دوليين بالوزن نفسه أو بأوزان متقاربة، يجعل من خيارات التحفيز من قبل تلك الدول للدول الأصغر منها كثيرة، لذلك يعود تغطرس أميركا طوال عقود ما بعد الحرب الباردة، إلى عدم وجود منافس بوزنها، ما جعلها تطغى في الحسابات السياسية ويزيد من جشعها في النفوذ الدولي.
ثالثاً، هل تصمد المصالحة بين السعودية وإيران؟
يحيلنا السؤال الثالث: ما مدى قدرة هذا الصلح على البقاء؟ على الموانع التي حالت دون حدوث الصلح بين البلدين سابقاً، والأسباب التي ما زالت عالقة بينهما حالياً، نلاحظ، أن بنود الصلح خلت من أي قضية إقليمية، فلا يوجد ذكر لليمن ولا لبنان ولا البحرين ولا العراق، بل نص الاتفاق، بحسب التسريبات، على أن تُرحّل القضايا العالقة إلى مرحلة ثانية تأتي بعد عودة العلاقات وفتح السفارات، واقتصرت المصالحة على عودة الشراكة التجارية والاقتصادية وتبريد التوتر السياسي بينهما.
إذاً، في رأيي، أن علاقة متينة ومستقرة في المدى المنظور لا يمكن الجزم بها، وأن التوترات التي ظلت دائماً تصاحب الطرفين لا تزال قائمة، قد تكون المصالحة طريقاً لحلحلة تلك المسائل العالقة، لكن هذا الاحتمال صعب جداً، إن لم يكن مستحيلاً، وقد تكون المسائل العالقة سبباً في تخريب العلاقة بين إيران والسعودية مرة أخرى.
وعليه؛ الاستعجال في الاحتفال بهذه المصالحة وكأنها حل لكل قضايانا العالقة، وباب للخروج من كل أزمات المنطقة، استعجال في غير محلّه، وقراءة ناقصة للتعقيدات التي تقف في طريق الاستراتيجيتين المختلفتين بين البلدين.
لأن اختلاف الاستراتيجيا، واختلاف نظرة كل بلد إلى طبيعة الصراع الدولي، ومبدئية إيران في قضيتي اليمن وفلسطين، أمور يحتاج حلّها إلى الكثير من المرونة والنضج السياسي،وربما التضحية أيضاً، لدى الطرف السعودي.
كما علينا أن نتذكر جيداً أن العلاقة بين البلدين، وعلى مدى عقود طويلة، مرت بتذبذبات عديدة، وهذا سبب آخر يجعلنا أن لا نستعجل في الاطمئنان إلى استقرار العلاقة بينهما.