مسيرات الأعلام الإسرائيلية والصراع على القدس

كان حرياً بالفصائل الفلسطينية أن تدرك أن وضع حكومة بينيت اختلف هذه المرة، ولم يكن لديها ما تخسره.

  • عوامل كثيرة ساعدت على تحويل مسيرة العام الماضي بالذات إلى هبة شعبية فلسطينية عارمة ضد مختلف أوجه الاحتلال الإسرائيلي.
    عوامل كثيرة ساعدت على تحويل مسيرة العام الماضي بالذات إلى هبة شعبية فلسطينية عارمة ضد مختلف أوجه الاحتلال الإسرائيلي.

"مسيرة الأعلام" ليست أمراً عابراً أو طارئاً في حياة "إسرائيل" السياسية والاجتماعية، بل هي حدث احتفالي يجري تنظيمه سنوياً في ذكرى احتلال الكيان الصهيوني للقدس الشرقية إبان حرب حزيران/يونيو 1967، وما أعقبها من عملية توحيد لشطري المدينة التي تم إعلانها "عاصمة أبدية موحدة لإسرائيل". 

إنَّ إقامة حفل سنوي كبير بهذه المناسبة، في شكل "مسيرة أعلام"، لم يبدأ إلا في عام 1974، فضلاً عن أنه تقليد لم يتمتع بالانتظام والاستمرارية على الدوام، بدليل توقفه خلال الفترة الممتدة من عام 2010 وحتى عام 2016، ثم عودته من جديد ليصبح بعد ذلك أحد أهم المظاهر الدالة على تغلغل تيار الصهيونية الدينية المتطرف، وخصوصاً جناحه الاستيطاني، في مفاصل الدولة والمجتمع الإسرائيليين. وهنا، قد يكون من المفيد أن ننصح بالتمييز بين أمرين لا يجوز الخلط بينهما:

الأمر الأول: يتعلق بسياسة "إسرائيل" الرسمية تجاه مدينة القدس، وهي سياسة ثابتة تحتوي مجموعة من المكونات التي التزمت بها مختلف الأحزاب والتيارات التي تعاقبت على الحكم في "إسرائيل"، أياً كان موقعها على خريطتها الفكرية والسياسية، بدءاً من أقصى اليمين وحتى أقصى اليسار. أهم هذه المكونات:

1-   التزام اتخاذ كل الإجراءات التي تكفل توحيد شطري المدينة، واعتبار المدينة الموحدة عاصمة أبدية لـ"إسرائيل".

2-   العمل على تغيير معالم القدس الشرقية، وخصوصاً المدينة القديمة، وتهويد كل مظاهر الحياة المعاصرة فيها.

3-   تغيير الوضع الديموغرافي في مجمل المدينة لمصلحة اليهود (بتوسيع حركة الاستيطان وتنشيطها فيها إلى أقصى حد، وضخ أكبر عدد ممكن من المستوطنين اليهود فيها)... 

الأمر الثاني: يتعلق بطبيعة الاحتفالات التي تقام في ذكرى احتلال الجزء الشرقي من هذه المدينة، إذ أصبحت "مسيرة الأعلام" أحد أهم مظاهر الاحتفالات التي تقام بهذه المناسبة وتجلياتها. وقد استطاع اليمين الإسرائيلي المتطرف أن يسيطر تدريجياً على كل الآليات المتعلقة بتنظيم هذه المسيرة وتسييرها، وأن لا يتحكم في تحديد خط سيرها فحسب، إنما أيضاً في تحديد نوعية الأهازيج والأغاني التي تصدح بها الفرق الموسيقية والغنائية في هذه المناسبة القومية والدينية على السواء.

لذا، لم يكن غريباً أن يتصدرها نواب ورموز سياسية، من أمثال ايتمار بن غفير، عضو الكنيست عن تحالف الصهيونية المتدينة وأحد تلاميذ الحاخام المتطرف الراحل مائير كاهانا، وأن يصبح باب العمود بالذات هو النقطة التي يتجمع عندها اليهود الذين يفدون من مختلف مناطق الأرض الفلسطينية المحتلة قبل 67 وبعدها للمشاركة فيها، وذلك قبل أن ينطلق الجمع الحاشد ليجوب شوارع المدينة القديمة وأزقتها، إلى أن يصل إلى مبتغاه عند "حائط البراق"، الذي يطلق عليه اليهود "حائط المبكى"، مقتحماً في طريقه باحات المسجد الأقصى لتأدية عدد من الطقوس الدينية المستفزة لمشاعر المسلمين. 

ولأن المشاركين في هذه المسيرة الصاخبة، الذين يقدر عددهم بعشرات الآلاف، لا يتورعون عن توجيه أقسى ألفاظ السباب والكراهية إلى كل من يصادفهم من سكان المدينة من الفلسطينيين والتحرش بهم، فقد كان من الطبيعي أن تتحول مسيرة الأعلام، وخصوصاً في السنوات الأخيرة التي ساد فيها حكم اليمين المتطرف في "إسرائيل"، إلى مناسبة للاحتكاك والصدام بين اليهود والفلسطينيين.

عوامل كثيرة ساعدت على تحويل مسيرة العام الماضي بالذات إلى هبة شعبية فلسطينية عارمة ضد مختلف أوجه الاحتلال الإسرائيلي، شملت كل أنحاء الأرض المحتلة، بما في ذلك الأرض المحتلة عام 1948، وأفضت إلى صدام عسكري واسع النطاق بين "الجيش" الإسرائيلي وفصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة في قطاع غزة. من هذه العوامل:

1-   تصادف وقوع احتفالية ذاك العام مع شهر رمضان المبارك، الذي عادةً ما يتسم باحتكاكات وصدامات متكررة بين الفلسطينيين وجنود احتلال يبذلون قصارى جهدهم لتضييق الخناق عليهم ومنعهم من الوصول إلى المسجد الأقصى وأداء الشعائر الرمضانية فيه.

2-   صدور حكم قضائي بترحيل 7 عوائل فلسطينية من منازلهم الكائنة في حي الشيخ جراح رفضوا تنفيذه وتضامن معهم عدد كبير من المقدسيين.

3-   تكرار عمليات اقتحام المتطرفين اليهود للمسجد الأقصى وتصاعدها، في ظل حراسة الجنود الإسرائيليين، والانكشاف التدريجي لنيات "إسرائيل" الرامية إلى التقسيم الزماني والمكاني لهذا المسجد بين اليهود والمسلمين. 

وإذا أضفنا إلى كلّ ما تقدم أن حكومة جديدة يرأسها مستوطن إسرائيلي متطرف لأول مرة في تاريخ "إسرائيل"، هو نفتالي بينيت، كانت تشكلت قبل أيام أو أسابيع قليلة من الوقت المحدد لمسيرة الأعلام، وأن هذه الحكومة بدت حريصة على إثبات أنها لا تقل يمينية وتطرفاً عن حكومة نتنياهو التي أسقطتها، لتبيَن لنا كيف ساعدت هذه العوامل على خلق حالة من الاحتقان أفضت في النهاية إلى معركة "سيف القدس" التي اشتعلت في مثل هذه الأيام من العام الماضي.

لا يستطيع أحد أن ينكر أن فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة حققت إنجازاً ضخماً في هذه المعركة التي استمرت 11 يوماً متتالية، فقد تمكنت هذه الفصائل، وخلال هذه الفترة القصيرة نسبياً، من إطلاق 4300 صاروخ على عدد كبير من المدن والمستوطنات الإسرائيلية الرئيسية، وصل بعضها إلى مدينة القدس، وإلى "تل أبيب" نفسها، وأجبر ملايين المستوطنين على البقاء في الملاجئ لفترات طويلة، بل إن بعض هذه الصورايخ تمكن من إصابة المطارين المدنيين الوحيدين في "إسرائيل"، الأمر الذي أدى إلى إغلاقهما وإرباك حركة النقل الجوي ككل لبعض الوقت.

وإذا أضفنا إلى ما تقدم أن "إسرائيل"، ورغم ما أحدثته من دمار كبير في قطاع غزة وتمكنها من قتل المئات وجرح الآلاف من المدنيين الفلسطينيين، كانت الطرف الأكثر حرصاً على إنهاء القتال وعلى استجداء الوساطات الإقليمية والدولية من أجل التوصل إلى وقف لإطلاق النار، لتبين لنا بوضوح أن المقاومة الفلسطينية المسلحة خرجت من هذه الجولة المسلحة مرفوعة الرأس، واستطاعت بالفعل فرض قواعد اشتباك جديدة على الأرض، غير أن بعض الفلسطينيين والعرب اعتقد أن ما حدث خلال العام الماضي بات أمراً قابلاً للتكرار في كل مرة يقدم فيها المستوطنون على ارتكاب حماقات واستفزازات من ذلك النوع الذي يرتكب عادة قبيل أو إبان مسيرة الأعلام. 

ومن الواضح أن فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة ساعدت بدورها في ترسيخ هذا الوهم، حين قامت هذا العام أيضاً بتحديد "خطوط حمراء" هددت بالرد والعقاب إن تم تجاوزها. ولأن حكومة بينيت تجاوزت هذه الخطوط بالفعل، حين تمكنت من تنظيم مسيرة الأعلام هذا العام في موعدها المحدد، ووفقاً لخط سيرها وإجراءاتها التي تنطوي عادة على الكثير من التجاوزات، فيما لم تتمكن فصائل المقاومة المسلحة من الرد وإنجاز ما وعدت به، فقد حدث نوع من الإحباط الذي وصل إلى حد تساؤل البعض عن المتسبب بـ"كسر سيف القدس في القدس"، وهو ما تجلى بوضوح عبر العديد من الكتابات والتحليلات التي غلب عليها طابع التشاؤم غير المبرر في تقديري!

ربما تكون فصائل المقاومة المسلحة الفلسطينية قد تسرعت هذا العام في رفع نغمة التحدي وبالغت فيه، استناداً إلى ما أنجزته خلال العام الماضي، غير أنها ليست في الواقع مطالبة بالشروع في إطلاق الصواريخ في كل مرة تقع فيها استفزازات إسرائيلية، وخصوصاً أن هذه الاستفزازات يمكن أن تكون فخاً منصوباً لاستدراجها إلى معركة في الزمان والمكان غير المناسبين، وكان الأحرى بهذه الفصائل أن تدرك أن وضع حكومة بينيت اختلف هذه المرة، ولم يكن لديها ما تخسره، وخصوصاً أنها كانت قد خسرت بالفعل أغلبيتها البرلمانية. 

ولأنَّها وجدت نفسها محشورة في زاوية بين مزايدات نتنياهو، الذي يسعى لإسقاطها من خلال إظهار عجزها عن حماية مسيرة الأعلام، وضغوط فصائل مقاومة تسعى لتعديل خط سير هذه المسيرة أو إلغائها، فلم يكن أمام حكومة بينت وسيلة لإنقاذ نفسها من مصير محتوم ينتظرها سوى الإصرار على تنظيم المسيرة في موعدها، ووفقاً لخط سيرها الأصلي، الأمر الذي مكّنها من الفوز بالنقاط في مواجهة الطرفين!

دروس ما جرى في الساحتين الإسرائيلية والفلسطينية خلال الأسابيع القليلة الماضية مقارنة بما جرى في مثل هذه الأيام من العام الماضي كثيرة، فالمعركة مع "إسرائيل" لا تدور حول مسيرة الأعلام، رغم كل ما ترمز إليه هذه المسيرة، ولا حول القدس، رغم كل ما ترمز إليه هذه المدينة المقدسة، ولا حتى حول المسجد الأقصى، رغم كل ما يرمز إليه أولى القبلتين وثالث الحرمين الشرفين، إنما تدور في الأصل والأساس حول احتلال إسرائيلي لكلِّ الأرض الفلسطينية، فإجلاء قوات الاحتلال من كامل التراب الفلسطيني كفيل وحده بتحرير القدس وإنقاذ المسجد الأقصى من خطر الهدم الذي يتهدده، وليس فقط خطر التقسيم الزماني والمكاني الذي تسعى "إسرائيل" بقوة لفرضه وتحويله إلى أمر واقع في هذه الأيام. 

ولأن الأنظمة الرسمية العربية تخلت بالفعل عن القضية الفلسطينية، فقد أصبح عبء تحرير الأرض الفلسطينية ملقى بالكامل على عاتق الشعب الفلسطيني وحده، بدعم من الشعوب العربية المغلوبة على أمرها، والتي يستحيل عليها رغم ذلك أن تتخلى عما تعتبره قضية العرب الأولى.

وقد أظهرت أحداث العام الماضي أن الشعب الفلسطيني بات جاهزاً ومستنفراً للدفاع عن قضيته، ومستعداً لتقديم أغلى التضحيات، لكن موقف السلطة الفلسطينة، وما يرتبط بهذا الموقف من مزايدات فصائلية معتادة، ما زال قاصراً ويحتاج إلى تغيير شامل، فالمطلوب الآن لم يعد قاصراً على إصلاح جزئي أو تغيير موقف هنا وآخر هناك، إنما أصبحت هناك حاجة ماسة لإعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية على أسس جديدة، بكل ما يتطلبه ذلك من ضرورة إعادة تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية لتصبح معبرة، ليس عن كل شرائح الشعب الفلسطيني وفئاته أينما وجد فحسب، إنما أيضاً عن كل تطلعات هذا الشعب المرابط والصبور وأحلامه وأمانيه أيضاً.