مستجدّات الملف السوري – التركيّ: هل يدخل "العمق العربي" كطرفٍ ضامن؟
سوريّاً، تبدو الأجواء أكثر ارتياحاً في ما يخص عقد لقاءات قريبة "مثمرة" مع الأتراك، ومن الواضح أنّ الوسيط الروسي قد استطاع كسر بعض صفائح الجليد المتراكمة في المسافة بين الطرفين.
شهد ملف العلاقات السورية – التركية زخماً إضافيّاً في الأيام الأخيرة الماضية، خصوصاً بعد صدور عدّة مواقف وتصريحات من أطراف ثالثة على علاقة مباشرة بهذا المسار، وكشْفِ بعض المعلومات والتسريبات التي تتحدّث عن تغيّرات جديدة في المنطقة، سيكون لهذا الملفّ ارتباط وثيق بها.
واقعيّاً، حتى الآن، ورغم كثرة الأخذ والرد طوال الأشهر الأخيرة، وتصاعد السجال الإعلاميّ المتعلّق بتطوّرات هذه العلاقات وآفاقها، وتعدّد التصريحات المتبادلة الصادرة عن بعض المسؤولين في البلدين، وخصوصاً من الجانب التركيّ، فإن الترجمة العملية لكلّ هذا، بقيت بعيدة عن المستوى المأمول، نظراً إلى شدّة تعقيد هذا الملفّ، وتحديداً ما يتعلّق باحتلال تركيا أراضي سورية في الشمال، ودعمها مجموعات وفصائل إرهابية أو خارجة على القانون السوريّ، ومحاولتها إقامة "شريط حدوديّ" يقع بالكامل ضمن سيطرتها وتحت نفوذها، ويؤمّن ما تسمّيه "أمنها القوميّ"، متذرّعة بخطر الفصائل الكردية التي تُدرجها تحت تصنيف "الإرهاب"، وتتّهمها بالسعي إلى إقامة كيان كردي على حدودها في منطقة الشمال الشرقي لسوريا.
على الأرض، أوحت أنقرة مؤخّراً، ومن خلال بعض الاتفاقيات الأمنية مع الوسيط الروسيّ، وبعض الخطوات التي بدت مرتبكة وغير مُنظّمة، أنها بصدد البدء بإحداث تغييرات من شأنها تطمين الوسطاء، وبالتالي دمشق، وأنها جاهزة للمضي في هذا المسار بشكل واقعيّ، لكنها لم تقم، حتى الآن، بفرض أيّ من تلك الاتفاقيات أو "الرؤى" على أدواتها في الشمال.
ذلك على الرغم من تعدّد اجتماعات مندوبيها الأمنيين مؤخّراً، مع قادة الفصائل المسلّحة المنضوية في ما أطلقت عليه أنقرة "الجيش الوطني السوريّ". ولعلّ في مثال عدم تطبيق الاتفاقيات الخاصة بفتح طريق "إم 4" الدولي حتى الآن، ثم فشل عملية فتح معبر "أبو الزندين" مؤخّراً، ما يُشير إلى كلّ هذا.
الجديد هنا، أنّ أنقرة تلقّفت تصريحات الرئيس السوري بشّار الأسد، في كلمته أمام أعضاء "مجلس الشعب" خلال انعقاد دورته الأولى، بإيجابية كبيرة، رغم أنّ الرئيس الأسد كان واضحاً في اعتبار انسحاب القوات العسكرية التركية من الأرض السورية، كمرجعيّة أصيلة في أي عملية تفاوض. وقد عبّر وزير الدفاع التركيّ، يشار أوغلو، عن تلك الروح في تعليقه على حديث الرئيس السوريّ، إذ عدّ تلك التصريحات "إيجابيّة للغاية" ولا تتطرّق إلى شروط مُسبقة.
ولأنّ موسكو هي الوسيط الرئيسي الذي يعمل بقوة على هذا المسار، فقد أتت تصريحات وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، التي أطلقها قبل أيام بخصوص هذا الملفّ، لتفتح آفاقاً جديدة أمام هذا النقاش الدائر منذ أشهر، فقد رأى الوزير الروسيّ أنّ "الصورة إيجابية جدّاً"، وأنّ ثمة تقاطعاً أوّلياً للأفكار، مبيّناً أنّ رؤية الحكومة السورية حول الاستمرار في عملية تطبيع العلاقات، ترتكز على تحديد إجراءات انسحاب القوات التركية من سوريا، لافتاً إلى أنّ الجانب التركي "مستعدّ" لهذا الأمر، على الرغم من عدم وجود اتّفاق على معايير محددة بهذا الشأن، حتى اللحظة.
تكمن أهمية تصريحات الوزير الروسيّ، في أنها تصدر عن الجهة الأكثر معرفةً بتفاصيل هذا المسار، بل والأكثر رغبة في تحقيق تقدّم عليه، لأنّها ترى في ذلك مصلحة كبيرة لها ولشريكيها السوريّ والتركيّ، وضربةً للخطط الأميركية في الإقليم، وفي أنها تشير بالفعل إلى "أجواء جديدة" على صعيد الاستعداد للانتقال إلى الحيّز العمليّ لتطبيق التفاهمات التي تشدد دمشق دائماً على بنودها المتوجّبة أو المقبولة. كما يؤكّد كلام لافروف وجود مساعٍ جدّية لعقد لقاءات قريبة على مستويات عالية بين الجانبين، قد يُعلَن عنها في أيّ لحظة.
ولدى البحث في المعلومات والمعطيات الخاصّة بالجديد في هذا الملفّ، يتّضح أنّ "اتفاق أضنة" هو الركيزة الأنسب التي يجري العمل للانطلاق منها في هذه المرحلة، فالاتّفاق الذي أُبرِم في العام 1998، وافتتح عهداً جديداً من العلاقات رفيعة المستوى بين البلدين، بعد سنوات عصيبة كادت توصِل إلى اصطدام عسكريّ بسبب الخلاف حول "حزب العمال الكردستاني" ووجوده في سوريا، هو ما ترى دمشق أنّه يُحدّد الإطار العملي الأفضل لهذه العلاقات، لكنّ الأمور أكثر تعقيداً بكثير من مسألة العودة إلى هذا الاتفاق من دون تفاهمات جديدة وخطوات عملية كبيرة على الأرض، وكلام الرئيس الأسد حول "إزالة أسباب الخلاف"، يوضح تماماً هذه التعقيدات ويختصرها في جملة واحدة. وانسحاب القوات التركية، وتفكيك الفصائل والجماعات التي تدعمها أنقرة، وتقيم من خلالها حالة غير مقبولة في أي بلد من العالم، وكذلك الاتفاق على تعريف الإرهاب ومحاربته، هو ما تريد دمشق أن يكون واضحاً في أيّ تعديل على "اتفاق أضنة".
أما أنقرة، فيهمّها بالدرجة الأولى تعديل هذا الاتّفاق بالطريقة التي تسمح لقواتها بالتوغّل أكثر داخل الأراضي السورية، بل ثمّة معلومات تفيد برغبة أنقرة بأنّ يكرّس أي تعديل جديد، مسألة وجود قوات عسكرية تركية داخل الحدود السورية، لغرض "حماية الأمن القومي"، ومحاربة "الإرهاب الكرديّ". ويُعزّز جدّية هذا "المطلب"، كونها مشابهة تماماً لما طلبته أنقرة من بغداد مؤخّراً. كما تريد تركيا أنْ تضمن مسألة تحريك ملفّ اللاجئين السوريين وإعادتهم إلى تلك المناطق، في أسرع وقت ممكن.
وتتطلّب صياغة "اتفاق أمنيّ" جديد ومقبول من الطرفين، بما في ذلك تعديل "اتفاق أضنة" ذاته، الكثير من العمل والمباحثات المباشَرة الطويلة والحثيثة قبل كل شيء، إلى جانب العمل التركيّ الجاد مع الأدوات المسلّحة في الشمال وإرضاخها للواقع المستجد. لكنْ، ثمّة ما يمكن أنْ يؤدّي إلى تسريع العمل على كل هذا في المرحلة القريبة القادمة، وحدوث ما يمكن تسميته "خرقاً مفاجِئاً" على هذا المسار. فالمتوقّع هنا، بحسب المعطيات، أنّ ثمّة تفاهمات أولية جدّية على بدء العمل على "حلّ" حقيقيّ لهذا الملفّ، يكون جزءاً من صفقة كبرى في المنطقة، لن يكون الجانب الروسيّ هو الضامن الوحيد فيها، بل ستدخل، وبرغبة سوريّة، مصر والإمارات والسعودية، إلى جانب إيران بالطبع، كضامنين أساسيين وشركاء في العملية كلها.
وصحيح أنّ الوزير الروسيّ، لافروف، تحدّث عن عدم وجود اتفاق، حتى الآن، على "معايير محدّدة" للانسحاب العسكري التركي، لكنّ المعلومات تفيد بموافقة تركية على وضع جدول زمنيّ محدّد بهذا الشأن، وذلك ليس أمام الضامنَيْن الروسيّ والإيرانيّ وحسب، بل إنّ مباحثات الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، مع الرئيس التركيّ رجب طيب إردوغان، خلال زيارة السيسي الأخيرة لأنقرة قبل أيام، قد تطرّقت بإسهابٍ إلى هذا الجانب تحديداً، كما إلى علاقات دول المنطقة بعضها ببعض، والأهمية الكبرى لسوريا وموقعها وتأثيرها في إنجاح وصياغة علاقات دول الإقليم كله، وما يتطلّبه ذلك من حلّ سريع ومقبول سوريّاً وعربيّاً لهذا الملفّ. ومن الواضح هنا، أنّ دمشق أرادت أنْ تستند إلى "عمق عربيّ" في هذا الملفّ تحديداً، وذلك لأسباب وطنيّة أولّاً، ثم لإدراكها أنّ إردوغان يتطلّع ويسعى بقوة إلى "تصحيح" علاقاته مع الإقليم العربيّ، لأنّ خياراته الأخرى لم تأت بالنتيجة المرجوّة.
ولا يتوقّف "العامل العربي" المستجدّ عند مسار العلاقات السورية – التركية، بل هناك سعيٌ لدى الجانب الأميركي لإبرام صفقة أشمل وأوسع، يدخل فيها الشرق السوريّ أيضاً. وإذ ترى العديد من الأطراف المحسوبة على المحور الأميركي في المنطقة، أنّ تداعيات معركة "طوفان الأقصى" المجيدة، باتت وخيمة جدّاً على عموم هذا المحور وعلى أدواره وخططه للمنطقة، وأنّ محور المقاومة، بما لسوريا فيه من دور مركزيّ، بات متقدّماً بالفعل وأقوى وأكثر تأثيراً من أي وقت آخر، فالأجدى عقد صفقة كبرى تُخفّف من تلك الخسائر وتحدّ من تداعياتها المستقبلية.
ويُطرح في ما يخصّ سوريا هنا، أنْ تكون عودة الدولة السورية إلى جميع أراضيها، واستيعاب بعض القوى والفصائل العسكرية في الشمال والشرق (قسد) ضمن القوات العسكرية السورية، أحد جوانب تلك الصفقة. ويرى هؤلاء، أنّ واشنطن قد ترغب في المضيّ بهذا الأمر، بما في ذلك انسحابها من الأراضي السورية التي تحتلها في الشرق، وذلك للأسباب والتداعيات نفسها المذكورة أعلاه، لكنّ ظروف الانتخابات الأميركية، هي ما سيُحدّد تسريع هذا الأمر أو إبطاءه.
سوريّاً، تبدو الأجواء أكثر ارتياحاً في ما يخص عقد لقاءات قريبة "مثمرة" مع الأتراك، ومن الواضح أنّ الوسيط الروسي قد استطاع كسر بعض صفائح الجليد المتراكمة في المسافة بين المطالب الوطنية السورية، وبين الرغبات والرؤى والخطط التركية.
ومن المتوقّع أيضاً، وبغضّ النظر عن أي صفقات محتملة أو قابلة للتحقّق على مستوى المنطقة، أنْ يشهد الشمال السوري المزيد من الخطوات والإجراءات التي ستعزّز احتمال نجاح المباحثات البينية المقبلة، أو وضعها على السكّة الصحيحة على الأقلّ.
لكنْ، تبقى مسألة إقدام بعض الفصائل المحسوبة على أنقرة، على القيام باعتداءات متكرّرة على بعض المناطق والنقاط في أرياف اللاذقية وحماة وحلب (كما حدث خلال الأسبوع الفائت)، بحاجة إلى حسمٍ تركيّ سريع، وإلّا سيبدو الأمر وكأنه "تفاوضٌ تركيّ بالنار"، وهذا ما لن تقبله دمشق أو تستكين أمامه، ولن ينجح معها أبداً كعامل ابتزازٍ تستخدمه أنقرة على الطاولة.