ماذا بعد 11 عاماً على انطلاق "الميادين"؟

تبنّت الميادين مهمة نقل "الواقع كما هو"، وابتعدت مسافات كبيرة عن البروباغندا التي اعتمدتها القنوات الفضائية العربية المهيمنة، والتي عملت على قلب الموازين. 

  • ماذا بعد 12 عاماً على انطلاق
    ماذا بعد 11 عاماً على انطلاق "الميادين"؟

إذا كان البعض تحدّث عن وجود التفسير الإعلامي للتاريخ، كما يوجد التفسير المادي والتفسير السيكولوجي له، فلا شك في أن نشوء الفضائيات في العالم العربي هو محطة مهمة ومفصلية في الفهم والتفسير لكثير من الأحداث التاريخية التي مرّ فيها العالم العربي. وبالتالي، لا يمكن الفصل بين نشوء الفضائيات العربية وتطورها، منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي، وبين المشروع السياسي الرسمي العربي، الذي بدأ في تلك الفترة، من خلال مؤتمر مدريد، مروراً بأوسلو، وصولاً إلى مشروع أبراهام. في كل تلك المحطات، ساهمت هذه الفضائيات، من خلال التركيز على جوانب معيَّنة للأحداث والتغاضي عن جوانب أخرى، في تشكيل وجهات نظر المواطن العربي وفي فهمه للأحداث، وفق طرائق تعكس آراء الأنظمة العربية وأجنداتها، من جهة، والمصالح الغربية، من جهة ثانية.

فالفضائيات العربية، كالأنظمة المالكة والمموِّلة لها، تشكّل امتداداً للمشروع السياسي والإعلامي والثقافي الغربي، الذي وجد فيها أداة إضافية للسيطرة والهيمنة على منطقتنا. 

وعبّر نعوم تشومسكي عن السلطة التي تمارسها وسائل الإعلام، نيابةً عن المؤسسات السياسية والاقتصادية العالمية المهيمنة، في تشكيل الرأي العام، وتوجيه النقاش العام، وتأثيرها في صنع الواقع السياسي، بالقول "إن تحكُّم وسائل الإعلام فيما تعرضه للجمهور هو شكل جديد من أشكال السيطرة السياسية. فهي تمارس السلطة، بصورة فعّالة، عن طريق تحديد حدود النقاش، وتوجيه التفكير العام، وتشكيل آراء الناس بشأن الأحداث السياسية. إنها تقوم بتصوير العالم بأساليب معينة تعكس مصالحها ومواقفها السياسية". إلّا أن تشومسكي نفسه لا يرى أن هذا الواقع الإعلامي هو قدر لا يُرَدّ، ويعتقد أن هناك إمكاناً للمواجهة، فيقول: "إن كنت لا تشارك في عملية صنع الأخبار، فإنك ستكون ضحية لها".

في هذا السياق المواجه للهيمنة الغربية، إعلامياً وسياسياً، وامتداداتها العربية، انطلقت الميادين. واستطاعت بسرعة قياسية أن تحجز لنفسها مكاناً مهمّاً في التاريخ الإعلامي للعالم العربي، أو في عملية التفسير الإعلامي للتاريخ العربي. وشكّلت محاولة جدية لتقديم نموذج مغاير وبديل مما هو سائد. صحيح أن أعوام عمر الميادين قليلة نسبياً، لكن يمكن القول إنها أحدثت فارقاً، وتركت بصمة، وإن تجربتها تحتاج إلى الدراسة والتحليل، انطلاقاً من المعطيات والملاحظات التالية:

أولاً: جاءت الميادين بعد أعوام طويلة على بداية الإعلام الفضائي العربي (عام 1991)، والذي أدى، ولا يزال، دور الناطق باسم الأنظمة العربية والمروج للسياسات المعتمَدة والمشاريع الناشئة، وأبرزها مشروع التسوية مع العدو الإسرائيلي.

وسرعان ما ظهرت السياسات التحريرية المنسجمة مع المشاريع السياسية. كسرت هذه الفضائيات الحواجز النفسية بين المواطن العربي والإسرائيليين، وصار العدو "رأياً آخر" تفتح له الفضائيات العربية الهواء والأثير للدفاع عن وجهة النظر الصهيونية. في هذا المجال، شكّلت الميادين نموذجاً نقيضاً، وهو ما كانت سبقتها إليه قنوات قليلة، أبرزها قناة المنار اللبنانية، التي سرعان ما عوقبت عبر منعها من البثّ عبر الأقمار الاصطناعية العربية.

أتت الميادين لتملأ فراغاً كبيراً في الفضاء الإعلامي العربي. قطعت مع المسار التطبيعي عبر تكريسها القضية الفلسطينية قضيةً مركزية، ومن خلال تبنيها خطاب المقاومة ومحورها، فكان توقيت الميادين هو توقيت القدس. لم تقف الميادين على الحياد على صعيد الصراع العربي الإسرائيلي، ولم تدّعِ هذا الادعاء الفارغ. انحازت، بكل وضوح ومن دون مواربة، إلى جانب قضايا الحق في وجه الباطل، وقضايا الخير في مواجهة الشر، وإلى المقاومة في مواجهة الاحتلال، وإلى القتيل في مواجهة القاتل، متحلية بالمسؤولية، أخلاقياً وإنسانياً ووطنياً وقومياً.

ثانياً: تبنّت الميادين مهمة نقل "الواقع كما هو"، وابتعدت مسافات كبيرة عن البروباغندا التي اعتمدتها القنوات الفضائية العربية المهيمنة، والتي عملت على قلب الموازين. 

على طريقة إدوارد بيرنز، صاحب كتاب "البروباغندا" الشهير، والذي حوّل السيجارة إلى مشعل للحرية ورمز لتحرير المرأة، عملت الفضائيات العربية على تحويل "إسرائيل" إلى صديق، وعلى تقديم التكفيريين، الذين اجتاحوا دولاً وشكّلوا تهديداً وجودياً لمجتمعات وأوطان عربية عريقة كثوار، كما انخرطت في مشروع "شيطنة" الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

تحاول الميادين، في المقابل، تعديل الصورة وتبيان حقيقة ما يسمى "الربيع العربي". واستطاعت، إلى حد بعيد، التأثير في شرائح واسعة من الرأي العام العربي، بشأن هذه المرحلة المفصلية، وتقديم صورة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربتها على حقيقتهما، إيماناً منها بأن بناء جسور التواصل والتفاهم بين العرب والإيرانيين هو شرط لاستقرار المنطقة، انطلاقاً من أن إيران هي "نقطة ارتكاز في المنطقة"، كما يصفها الكاتب محمد حسنين هيكل.

ثالثاً: انطلقت الميادين بإمكانات مادية متواضعة، على عكس فضائيات عربية تخطت ميزانياتها السنوية ميزانيات دول بأكملها. وأثبتت أن المال ليس الشرط الإعلامي الأول، وأن مهنة الإعلام يمكن تصنيفها ضمن "الأمور التي لا تُشترى". ونتيجة ذلك، تحررت الميادين من قيود الممولين الذين يحددون الأولويات والأجندات.

رابعاً: تحرص الميادين على استخدام المصطلحات التي تعكس حقيقة الصراع القائم في المنطقة، وعلى تبني سياسة تحريرية تصبّ في سياق تعزيز الهوية العربية، ثقافياً وسياسياً وفكرياً، على عكس الإعلام الفضائي العربي المهيمن.

يقول الكاتب نبيل دجاني، في كتابه "إشكاليات في الإعلام العربي"، في سياق حديثه عن خطورة اعتماد المصطلحات الغربية، إن "الأبواق الإعلامية العربية أصبحت تستعمل الاصطلاحات الغربية المعادية للشعوب العربية"، مؤكداً أن هذا الأمر متّصل بـ"تبرّؤ المسؤولين العرب من المقاومة". ويشير إلى مساهمة الفضائيات العربية في "إلهاء المواطن العربي عن مشاكله بدل أن تكون معبّرة عن ثقافة الأمة، مؤدية لرسالتها وأداة للتبادل الثقافي". ويذهب إلى حد الكلام على "أن بعض القنوات تحولت إلى أدوات تغريب وتذويب وطمس لشخصية الأمة". 

خامساً: تتحدث الميادين عن قيمة التواضع، معيدةً التذكير بأحد أهم مبادئ المهنة. تجعل التواضع إحدى قيمها التأسيسية في لحظة شهدت تضخماً لأدوار وسائل الإعلام في العالم العربي، وصولاً إلى الانخراط الفاضح والمباشر في مشاريع إسقاط أنظمة وتدمير دول. للأسف، نجح كثير من هذه المحاولات في بعض الساحات، التي اكتفت فيها فضائيات عربية بالتفكيك، ممتنعةً عن المساهمة في البناء، ومشارِكةً في أدوار قذرة دفعت ثمنها شعوب عربية دماءً ودموعاً وانهيارات. في المقابل، تدرك الميادين حدود دور الوسيلة الإعلامية ووظيفتها، مشددةً على أهمية البناء بدلاً من التفكيك، وعلى صناعة ثقافة الثبات والأمل وجدارة الحياة.

سادساً: تعمل الميادين على إعادة الاعتبار إلى التاريخ العربي المقاوم. تستحضر عبد الناصر وبن بلة وياسر عرفات وكل تجارب التحرر الوطني للدول العربية. يقول الكاتب محمد حسنين هيكل إن "الصحافي ليس مكلّفاً بكتابة التاريخ وإنما هو مكلف بقراءته ويكون من شأن روايته أن تُلقي ضوءاً كاشفاً على ما يحدث في الحاضر". وهذا ما تسعى الميادين لأن تكون أمينة له. العودة إلى التاريخ لتعزيز مكونات الهوية العربية، ولفهم الواقع، ولنكون قادرين على تصور المستقبل الأفضل، الذي لا يأتي من المجهول أو الفراغ، وإنما نتيجة تصور الأمة لماضيها والأحداث التي تصنع مستقبلها.

سابعاً: تنفتح الميادين على ساحات بعيدة جغرافياً، وقريبة إنسانياً وسياسياً وثقافياً، انطلاقاً من إيمانها بإنسانية مشروع المقاومة وعالميته، وبأن لشعوبنا أصدقاء في العالم، وشركاء في قضايا مواجهة الهيمنة، أبرزهم شعوب أميركا اللاتينية. تكسر الميادين الحواجز وتعمل على التقريب بين دول الجنوب المستضعَفة، معزِّزةً الشعور بأن التناقض الرئيسَ الذي يجب أن تجتمع حوله أغلبية شعوب الأرض هو مشروع الهيمنة المركزي، المتمثِّل بالولايات المتحدة الأميركية، مركّزةً على وجود نقاط تلاقٍ بشأن مفاهيمَ وقيمٍ إنسانية ونضالية مشتركة.

نتيجة ذلك، تعيد الميادين هذه الدول إلى مجال اهتمام المواطن العربي، بعد أن استبعدتها الفضائيات العربية المهيمنة، وعملت على تشويه واقعها وصورتها.

ماذا بعد مرور 11 عاماً على انطلاق الميادين؟

الطريق لا تزال طويلة، والتحديات كبيرة، إلّا أن ما حققته الميادين حتى اليوم يمنحها قدرة كبيرة على العيش والصمود وتأسيس المستقبل. وإذا كان مجال التفسير الإعلامي للتاريخ يعتمد على مفهوم، مفاده أن وسائل الإعلام ليست مجرد وسائل نقل معلومات، بل لها تأثير قوي في فهم الناس للتاريخ، فإن ما نشهده اليوم من تحولات كبرى تحجز لقناة، مثل الميادين، مكانة كبيرة ودوراً مؤثّراً في الصورة النهائية لهذه التطورات والتحولات التاريخية.