مأزق نتنياهو وأزمة "إسرائيل".. منحدر من دون مكابح
بدت الحكومة الإسرائيلية أمس كأنها وقعت في فخ استراتيجي، بحيث لا ينفصل مأزق نتنياهو عن أزمة "إسرائيل" الوجودية.
تضع التطورات الأخيرة فرضية هروب بنيامين نتنياهو من مأزقه الداخلي نحو إشعال حرب، موضع الاختبار. كل المؤشرات الصادرة حتى الآن، سواء بعد بدء "إسرائيل" عدوانها على غزة ولبنان أو خلال الساعات التي أعقبت انطلاق الصواريخ من جنوبي لبنان، تؤكد أن "آخر ملوك إسرائيل" ملجوم.
لا يغيّر كثيراً في المشهد وفي السيناريوهات المطروحة مستقبلاً، طبيعة القيود التي تلجمه ومصدرها، سواء أكانت سياسية داخلية، أم ضغوطاً خارجية، أم أمنية وعسكرية مرتبطة بتقديرات الأجهزة الإسرائيلية، ذلك أن المشهد العام المسيطر على الصراع عموماً يحيط بكل هذه القيود، ولا يترك لنتنياهو أو لأي حاكم آخر غيره سوى خيارات محدودة.
في السنوات الأخيرة، بدت "إسرائيل" في المسار العام كأنها تتجه نحو منحى انحداري. ربما لم يكن الأمر جليّاً بهذا القدر عندما بدأت "عشرية النار" في سوريا، لكن لاحقاً بعد فشل المشروع، انجلت توازنات القوى، وبدأت طريق المستقبل تتكشف رويداً رويداً.
جاءت معركة "سيف القدس" محطة بالغة الدلالة على هذا الطريق، وخضّت الوعي الإسرائيلي بسؤال القلق الوجودي. لم يكن ينقص "إسرائيل" جبهة لبنان بكل ما فيها من حرية حركة وصواريخ دقيقة وأسلحة كاسرة للتوازن وعديد، حتى تصل إلى القناعة المرة: المشروع القائم على ثلاثية الأمن والهجرة والاستيطان وصل إلى نهايته. إذا كان الأمر على هذه الحال مع جبهة واحدة (داخل فلسطين التاريخية) أو جبهتين (لبنان وفلسطين)، فكيف الحال إذا ما انضمت دول وجبهات أخرى؟
مأزق نتنياهو لا ينفصم في هذا السياق عن أزمة "إسرائيل" الوجودية. لم يعد المشروع الصهيوني في الآونة الأخيرة ينزلق إلى منحدر التاريخ بشكل متسارع فحسب. تدلّ الأحداث والاختبارات الميدانية التي خبرها وجرّبها والتحديات التي ما زال يواجهها على أنه فقد المكابح. ليس هناك أفق مشرق أمامه ولا يقين. تبدّد الحلم، وتغيّر الزمن الذي ينقل فيه المعركة إلى أرض العدو من دون أن يتلقى رداً موجعاً أو ضربة قاضية. تلاشى النصر الحاسم والسريع على أرض العدو، وتقزّم "الجيش الذي لا يُقهر". إضافة إلى ذلك، بدأ يتأكّل من الداخل.
لم يكن وصول الحكومة الفاشية المتطرفة إلى الحكم وما نجم عنها من تداعيات سوى أحد تجليات هذا المشهد. عندما تفشل الأخيرة، فسيكون المشروع قد اقترب أكثر نحو زاوية تضيق فيها الخيارات: إما أن يتفكك من الداخل، وإما أن ينتهي بحرب "يوم الحساب".
بدت الحكومة الإسرائيلية أمس كأنها وقعت في فخ نصبه الصياد على الدرب المتوقع للطريدة. بدت متفاجئة بعملية إطلاق الصواريخ انطلاقاً من جنوبي لبنان وبحجمها. أكّد هذا الأمر معلّق الشؤون العسكرية في "القناة الـ13" الإسرائيلية ألون بن ديفيد. الصحافي الإسرائيلي أشار إلى أن إنذاراً بهذا الحادث لم يكن مطروحاً، رغم توالي إنذارات كثيرة في الأيام الفائتة على وقع الغليان في الحرم القدسي وغزة.
وضع هذا الأمر حكومة بنيامين نتنياهو في حالة إرباك تجلّت في إرجاء انعقاد المجلس الوزاري الأمني المصغّر حتى المساء، ثم تأجيل انعقاده مساءً أكثر من مرة، كما عبّرت عنه التقديرات المتباينة التي توالت طيلة نهار أمس الخميس في وسائل الإعلام الإسرائيلية.
إطلاق الصواريخ من لبنان كان الأضخم منذ عدوان تموز عام 2006. تأكّل الردع عبّرت عنه مراسلة الشؤون العسكرية في "إسرائيل هيوم" بالقول إن "نصر الله رفع مبلغ المقامرة"، في إشارة إلى إطلاق 34 صاروخاً دفعة واحدة. في مقالها، رأت ليلاخ شوفال أن المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية تفهم أن "قصفاً بهذا الحجم من جنوب لبنان لا يمكن أن يتم من دون موافقة حزب الله أو على الأقل من دون علمه".
المعضلة الأساسية التي تواجه صنّاع القرار في "إسرائيل" في هذه المرحلة تكمن في اضطرارهم إلى رد متناسب يضمن ترميم الردع. وفي الوقت نفسه، التملص من احتمال تدهورٍ شامل، سواء مع غزة أو في مواجهة حزب الله أو في حرب متعددة الجبهات. كان واضحاً من بيان "جيش" الاحتلال الذي حمّل حركة حماس المسؤولية عما حدث وتوعدها بدفع الثمن، أنه محاولة لتقييد الرد وتأطيره.
سار نتنياهو أمس بين النقاط، وعمل في ظل معادلات حساسة ومعقدة في وقت كان ينبغي له من موقع المسؤولية أن يتخذ قراراً في النهاية ويتحمّل تبعاته. في حال ردّ بشكل قاسٍ، كما دعا الوزير في حكومته يسرائيل كاتس، أو في حال تجاوب مع دعوة وزير المالية بتسلئيل سموتريتش إلى "توجيه ضربة قاسية إلى الإرهاب وإعادة الردع لإسرائيل"، فإنه سوف يؤجج مستوى المواجهة ويخاطر بتصعيد لا يستطيع لاحقاً أن يسيطر عليه.
أما في حال جاء رده محدوداً ومؤطراً، فإنه سوف يعرّض الردع الإسرائيلي لمزيد من الثقوب، وسيكبّل خياراته لاحقاً، وسيجد نفسه وسط نيران عن يمينه وعن يساره. من جهة، هناك المعارضة التي تتربص به وتطوّقه في الشارع وداخل أجهزة الدولة ومؤسساتها. ومن جهة مقابلة، هناك مكونات الائتلاف الفاشية التي تدفع إلى تفجير الأوضاع، والمُتهمة من وسائل إعلام إسرائيلية بأنها لا تعرف معنى الحرب، ولم يخدم أي من أعضائها في "الجيش"، والتي تفتقر إلى الحس الأمني وإلى تقدير المخاطر.
مع ذلك، حتى لو استطاع نتنياهو أن يتجاوز هذا التحدي من دون الانجرار إلى حرب واسعة، لا يبدو أن جيشه ومستوطنيه جاهزون لها، فإنه لا يستطيع أن يتجاوز واقع ترابط الساحات الذي يتكرّس بجرأة أكبر بين ميادين محور المقاومة. أكثر من ذلك، المسار ارتقى درجات نحو معادلة: أي اعتداء على المسجد الأقصى يساوي حرباً إقليمية.