لماذا غاب "الرد الإستراتيجي" على الجرائم الإسرائيلية في السنوات الأخيرة؟
يمكن أن تسير المقاومة في اتجاهين معاً، بحيث تقوم بردود سريعة حفاظاً على صدقيتها عند شعبها، وحتى لا يعتقد العدو أنه نجح في ردعها، وفي الوقت نفسه يجري التخطيط بهدوء ورويّة لعمل أو رد طويل المدى ضد أهداف أكثر أهمية.
في السابع والعشرين من آب/أغسطس 2001، أطلقت مروحية أباتشي صهيونية صواريخها على مكتب الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الشهيد أبو علي مصطفى في مدينة رام الله، هذا القصف الغادر والمفاجئ أدى إلى استشهاده على الفور، وهو الذي عاد إلى أرض الوطن بعد 32 عاماً من المطاردة في ربوع الأرض، بناءً على ضمانات وتطمينات تلقاها من قيادة السلطة الفلسطينية آنذاك.
الضربة كانت موجعة إلى الجبهة الشعبية وإلى عموم الشعب الفلسطيني، والخسارة كانت كبيرة بفقدان مناضل كبير من الرعيل الأول للثورة الفلسطينية، ومشاعر الغضب ملأت النفوس والقلوب، وهتف الجميع بصوت واحد مطالبين بالثأر والانتقام.
في ذلك الوقت كانت ردود أفعال فصائل المقاومة الفلسطينية على عمليات الاغتيال تقتصر على إطلاق النار على المستوطنات الصهيونية أو قوات الجيش، وفي بعض الأحيان تنفيذ عمليات داخل المدن المحتلة عام 48، وبعض تلك العمليات كانت استشهادية كما جرى بعد اغتيال الشهيد فتحي الشقاقي عندما ردّت حركة الجهاد بعملية الشهيد رامز عبيد في ديزنغوف بـ"تل أبيب"، أو كما جرى بعد استشهاد الشيخ أحمد ياسين وردّت حماس حينذاك بعملية بئر السبع المزدوجة.
ولكن رفاق الشهيد أبو علي اختاروا طريقاً مختلفاً هذه المرة للرد على اغتيال أمينهم العام، وقاموا بعد تخطيط محكم، وجمع دقيق للمعلومات، واختيار توقيت مناسب، قاموا بتصفية وزير السياحة الصهيوني المتطرف رحبعام زئيفي في فندق ريجنسي بالقدس المحتلة بعد أقل من شهرين على اغتيال الشهيد أبو علي.
صُنّفت عملية تصفية الوزير الإسرائيلي حينذاك وما زالت بأنها إحدى أهم العمليات في تاريخ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، حيث وجهت ضربة قاتلة إلى قلب المؤسسة الأمنية الصهيونية وعقلها، ونجحت في إحداث خرق نوعي في منظومة الوعي الجمعي للمجتمع الصهيوني لا سيما أن المستهدف كان من الشخصيات المهمة التي تحظى برعاية ومتابعة أمنية خاصة.
مثل ذلك الرد الذي دفع أريئيل شارون إلى القول إن كل شيء قد تغير بعد ذلك الاغتيال، نستطيع أن نسميه "الرد الإستراتيجي"، وهذا النوع من الردود تبقى تبعاته ماثلة أمام ناظري الطرف الذي تلقى الضربة إلى أمدٍ بعيد، ويمكن أن يشكّل عامل ردع يمنعه من مواصلة عدوانه، وبالتالي يمكن كذلك أن نسميه ولو مجازاً "ردعاً إستراتيجياً".
وهنا دعونا نتوقف عند هذه النقطة من تاريخ النضال الوطني الفلسطيني لنتساءل: لماذا غابت الردود الاستراتيجية على سلسلة طويلة من الجرائم الصهيونية ضد شعبنا الفلسطيني المظلوم؟ ولماذا اقتصرت الردود على الشكل الكلاسيكي المعهود الذي بات الجميع يحفظه عن ظهر قلب، والذي اقتصر في السنوات الأخيرة على إطلاق الصواريخ من غزة وبعض العمليات في الضفة؟ وهل ساهم هذا الأسلوب التقليدي في فتح شهية الاحتلال على ارتكاب مزيد من عمليات القتل والاغتيال التي طاولت غير مرة قادة من الصف الأول في فصائل المقاومة وتحديداً في السنوات الأخيرة.
وحتى نقترب أكثر من معرفة الأسباب هناك 4 أسئلة رئيسة يجب الرد عليها لنعرف الحقيقة وهي:
أولاً: هل هناك قرار لدى قوى المقاومة للقيام برد ينطبق عليه وصف "الرد الإستراتيجي"؟
ثانياً: هل تملك المقاومة خُططاً إستراتيجية قصيرة أو طويلة المدى للرد على جرائم العدو؟
ثالثاً: هل تتخوّف قوى المقاومة من رد فعل العدو في حال تنفيذ ذلك الرد؟
رابعاً: هل تتوافر الإمكانيات والأدوات اللازمة لتنفيذ رد من ذلك النوع؟
وفي الحقيقة تكاد تكون الإجابة عن جملة التساؤلات الواردة آنفاً شبه مستحيلة لأسباب عديدة، منها حساسية الموضوع، وارتباطه بجانب أمني يخص المقاومة وطرق عملها، وأيضاً لعدم امتلاكنا معلومات مؤكدة وموثوق به نستطيع أن نعتمد عليها.
لذلك وجهنا الأسئلة الأربعة الواردة آنفاً إلى مسؤول رفيع المستوى في المقاومة، فأجابني عن الأول والثالث، واعتذر عن الثاني والرابع لدواعٍ أمنية.
وكان ملخص إجابته "أن المقاومة ليس لديها قرار يمنع تنفيذ ذلك النوع من الردود، وأنه عندما تتاح الفرصة لها لا تتأخر، وهذا الأمر يشمل إجابة ضمنية عن السؤال الثالث الذي يعني بوضوح أن المقاومة لا تخشَ رد فعل العدو على أي عمل تقوم به، بصرف النظر عن حجمه ومستواه ونتائجه".
وهنا دعونا نعرّج على أهمية الرد الإستراتيجي، وتأثيره في العدو بدلاً من البحث عن الأسباب الكاملة التي ما زال بعضها غير واضح المعالم حتى هذه اللحظة.
وأنا هنا لا أريد الدخول في جدل حول التعريفات الكثيرة التي يسوقها المختصون في معنى هذا المصطلح، وإنما أرغب في تقديم تعريف بسيط لا يدخلنا في متاهة النظريات المعقّدة وبلغة يفهمها المواطن العادي، وهذا التعريف يقول: "إن الرد الإستراتيجي هو أن تنفّذ عملاً ما ضد عدوك رداً على عدوانه عليك، وهذا الرد يجعله يفكر 1000 مرة قبل أن يكرر ذلك العدوان أو أن يعود إلى مثله خوفاً من العواقب والتبعات".
وهذا التعريف قريب جداً من مفهوم "الردع الإستراتيجي" الذي يعني أن تمتلك قوة ما تجبر عدوك، ولو كان أقوى منك، على تجنّب التصادم معك أو الاعتداء عليك، لأنه يعرف أنك تمتلك تلك القوة ويمكن أن تستخدمها ضده، وهذا ينطبق على الأسلحة النووية التي تعدّ ردعية من الدرجة الأولى، وهي تضع كل الأطراف التي تملكها أمام خط أحمر لا يمكن تجاوزه ولا القفز عنه، ولنا في دولة نووية صغيرة ككوريا الشمالية خير دليل على ذلك، إذ إنها تملك ما يجعل أقوى دول العالم تتجنبها، ولا ترغب في التصادم معها.
وأنا هنا عندما أتحدّث عن الردود الإستراتيجية للرد على جرائم العدو، لا أعني أنني أرفض أو أقلل من أهمية الردود الكلاسيكية أو التقليدية التي تحقق في كثير من الأحيان جملة من الأهداف لا بد منها، وإنما أدعو إلى تطوير فكرة الرد لتكون ذات تأثير طويل المدى، وتحقّق عامل ردع يمنع العدو من الاستمرار في عدوانه، أو على أقل تقدير، الحد من ذلك العدوان والتقليل من أثره السلبي في المقاومة وبيئتها وحاضنتها الشعبية.
إضافة إلى ذلك، يمكن أن تسير المقاومة في الاتجاهين معاً، بحيث تقوم بردود سريعة حفاظاً على صدقيتها عند شعبها ومناصريها، وحتى لا يعتقد العدو أنه نجح في ردعها، وفي الوقت نفسه يجري التخطيط بهدوء ورويّة لعمل أو رد طويل المدى على أهداف أكثر أهمية.
ويمكننا أن نفترض على سبيل المثال أن يجري اغتيال رئيس حكومة العدو في مقابل اغتيال قائد أو أمين عام لإحدى حركات المقاومة، أو استهداف وزير حرب الاحتلال أو قائد أركانه رداً على اغتيال شخصية بحجم الشهيد أحمد الجعبري أو الشهيد بهاء أبو العطا، على سبيل المثال.
طبعاً أنا لا أنكر أن هناك فارقاً كبيراً في الإمكانيات لصالح العدو، والأدوات التي تملكها "إسرائيل" على المستوى التكنولوجي والاستخباري والعسكري لا تقارن على الإطلاق بما تملكه المقاومة في فلسطين وربما خارجها أيضاً، ولكن ربما ببعض التخطيط السليم، وباتباع سياسة النفس الطويل، يمكن للمقاومة أن تنجح في مسعاها الذي هو بالتأكيد ماثل أمام أعين قادتها.
ختاماً أعتقد أن الخروج من نظرية نفّذ السهل واترك الصعب إلى وقت آخر سيخدم كثيراً قوى المقاومة، وسيدفع هذا الكيان المجرم إلى العدّ حتى المائة قبل تنفيذ أي عملية عدوانية خصوصاً من الوزن الثقيل، ويمكن بكل تأكيد أن تنجح محاولات عدة كما نجح البطل عاهد أبو غلمة ورفاقه في مسعاهم صبيحة يوم السابع عشر من تشرين الأول/أكتوبر 2001.