كينيا حليفاً رئيساً للولايات المتحدة خارج الناتو: أي دلالات جيوسياسية؟
خوفاً من تكرار سيناريو النيجر وتشاد في كينيا دفع الولايات المتحدة إلى تحصين علاقتها معها ووجودها هناك، وهي إذ تحصّنهما إنما تستبق كل تقدّم روسي محتمل نحو فضاءات نفوذها التقليدية.
في 24 جوان/يونيو المنصرم، أصبحت كينيا رسمياً أوّل دولة أفريقية تنتمي إلى كتلة دول جنوب الصحراء الكبرى تحظى بصفة "حليف رئيس خارج منظمة حلف شمال الأطلسي" (Major non-Nato Ally MNNA) ورابع دولة في القارة الأفريقية تُمنح هذه الصفة بعد كلّ من مصر (1987) والمغرب (2004) وتونس (2015).
وقرر الرئيس الأميركي جو بايدن الارتقاء بعلاقة بلاده بكينيا إلى مصاف "التحالف" خارج الناتو خلال الزيارة التي قادت ويليام روتو، الرئيس الكيني، إلى واشنطن يوم 22 مايو/أيـّار الفائت قبل أن يُصدر قراره في مذكرة رسمية وجّهها إلى وزارة الخارجية الأميركية بموجب المادة 517 من قانون المساعدة الخارجية لعام 1961 بصيغته المعدلة (22U.S.C. 2321k)، والذي نشر في السجل الفدرالي يوم 07 جويلية/تموز 2024.
ما من شكّ في أنّ منح كينيا هذه الوضعية الاستراتيجية المرموقة حيال الولايات المتحدة الأميركية، وحيال حلف شمال الأطلسي تالياً، يتجاوز مبرّر "تقدير استعدادها لقيادة التدخّل في هايتي" الذي قدّمه بايدن تعليلاً لقراره نحو علل أخرى من طبيعة جيوسياسية تنشأ عن موقع كينيا الاستراتيجي شرق القارة الأفريقية، وعلاقاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة منذ ما يربو على عقد، ناهيك باعتبارات المنافسة الجيوسياسية التي تخوضها الأخيرة مع الصين وروسيا في القارة الأفريقية وحوض الكاريبي.
ما وضعية "الحليف الرئيس خارج منظمة حلف شمال الأطلسي"؟
أنشأت حكومة الولايات المتحدة وضعية "الحليف الرئيس من خارج منظمة حلف شمال الأطلسي" لأوّل مرّة عام 1987 كامتياز استراتيجي وسياسي تمنحه للدول غير الأعضاء في الحلف التي تربطها علاقات عمل استراتيجية مع القوّات المسلّحة الأميركية.
وخلاف ما يحظى به أعضاء الحلف بنصّ الميثاق المنشئ له، لا تؤسّس وضعية الحليف الرئيس خارج الناتو لعقد دفاع مشترك مع الولايات المتحدة، لكنها تعطي في المقابل حزمة من المزايا العسكرية والمالية الأميركية للدولة الحاصلة عليها لا تحظى بها كل الدول غير الأعضاء في الناتو. إنها باختصار حالة وسيطة لا تعدّ الدولة التي تُعطى إياها عضواً في الحلف، لكنها تصبح مقدّمة في علاقاتها الأمنية والعسكرية مع الولايات المتحدة أكثر من كل الدول التي لا تحوزها.
حالياً، تتمتع 20 دولة خارج الناتو بهذه الوضعية موزّعة على 4 قارات: 11 في آسيا، 4 في أفريقيا، 3 في أميركا الجنوبية، و2 في أوقيانوسيا. وفي عالمنا العربي، تحظى بصفة الحليف الرئيس خارج حلف الناتو كلّ من مصر والأردن والبحرين والكويت والمغرب وتونس وقطر.
وينصّ القسم A2350 -المعروف أيضاً باسم تعديل سام نان (Sam Nunn Amendment)، والذي أضافه الكونغرس إلى الباب 10 من القانون الفدرالي للولايات المتحدة المحدّد لمهام وتنظيم وزارة الدفاع الأميركية- على إمكانية إبرام وزير الدفاع اتفاقيات بحث وتطوير في إطار التعاون مع الحلفاء من خارج الناتو بموافقة وزير الخارجية.
وعام 1996، أضيف القسم 2321K إلى الباب 22 من القانون المذكور، والذي سُمح للرئيس الأميركي بموجبه تعيين دولة ما باعتبارها "حليفاً رئيساً خارج الناتو" بعد 30 يوماً من إخطار الكونغرس. وبموجب التعديل نفسه، تستفيد الدول المتمتعة بهذه الوضعية من إعفاءات من قانون مراقبة تصدير الأسلحة لا تستفيد منها إلا الدول الأعضاء في حلف الأطلسي.
هذا أوّل مكسب ستجنيه كينيا بموجب الوضعية الجديدة التي منحت لها. وفضلاً عنه، ستصبح نيروبي مؤهّلة للاستفادة من حزمة أخرى من الامتيازات المهمّة: تعاون أمني أوثق مع واشنطن، والحصول على أسلحة ومعدات عسكرية أميركية أكثر تطوراً، والمشاركة في مشاريع بحث وتطوير تعاونية مع وزارة الدفاع الأميركية على أساس التكلفة المشتركة وحيازة مخزون احتياطي الحرب من المعدّات المملوكة لها، والأولوية في تسليم الفائض العسكري الأميركي، وإمكانية شراء قذائف مضادّة للدبابات من اليورانيوم المنضب، واستخدام التمويل الأميركي لشراء أو استئجار معدّات دفاعية تحدّدها الحكومة الأميركية، والتدريب المتبادل والمشاركة في بعض مبادرات مكافحة الإرهاب الأميركية، وتسريع عملية تصدير تكنولوجيا الفضاء.
عرفان أميركي بالدور الكيني في هاييتي
في الخطاب الرسمي الأميركي، قدّم العرفان بالدور الأمني الذي أدّته كينيا إقليمياً ودولياً واستعدادها لقيادة قوة أمنية متعددة الجنسيات في هاييتي كمبرّر لمنحها وضعية الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة خارج حلف شمال الأطلسي.
في مؤتمر صحافي مشترك مع الرئيس الكيني ويليام روتو، قال بايدن إنّ وضعية نيروبي الجديدة هي "إنجاز لسنوات من التعاون". وكان وزيره للدفاع، لويد أوستن، قد سبقه إلى تصريح مطابق خلال الزيارة التي قادته إلى نيروبي في 23 سبتمبر/تشرين الأول 2023 حين قال: "الولايات المتحدة ممتنّة لكينيا نظير دورها القيادي في معالجة التحديات الأمنية في المنطقة وفي جميع أنحاء العالم"، وهو تصريح جاء في أعقاب تطوّع كينيا لقيادة مهمة دولية في هاييتي، كما جاء على لسان وزير دفاعها أدن دوالي.
في هذه الأثناء، أيـّد مجلس الأمن الدولي في أكتوبر/تشرين الثاني 2023 عرضاً قدمته كينيا لقيادة قوّة أمنية متعدّدة الجنسيات في هاييتي استجابة لنداء رئيس وزرائها الذي طالب بتدخّل الأمم المتحدة من أجل استعادة الاستقرار في بلاده.
ومعلوم أنّ هاييتي عانت موجات شديدة لعنف العصابات لعقود من الزمن، لكن الموجة التي تصاعدت منذ اغتيال رئيسها جوفينيل مويز في جويلية/تموز 2021 كانت الأشدّ وفقاً للأمم المتحدة التي اعتبر أمينها العام، أنطونيو غوتيريش، أنّ هناك حاجة ملحّة "للاستخدام الشديد للقوة" من أجل نزع سلاح العصابات واستعادة النظام في العاصمة بورت أو برنس وعدة من أخرى.
وفي ما يبدو كأنه تجسيد للعرفان الأميركي بدور كينيا، تعهد الرئيس الأميركي بتقديم تمويل قدره 200 مليون دولار لنيروبي من أجل المهمة التي ستقودها في هاييتي، وسيكون هذا المبلغ أول ما ستستفيد منه كينيا بوصفها حليفاً رئيساً للولايات المتحدة خارج حلف الأطلسي.
دوافع أخرى وراء القرار الأميركي
الواقع أنّ حصر دوافع قرار منح كينيا صفة الحليف الرئيس خارج حلف شمال الأطلسي في تطوّعها لقيادة مهمّة أمنية في هاييتي وإرسال 1000 من رجال شرطتها إلى هناك هو طرح اختزالي يتغاضى عن جملة من الدوافع الأخرى تفوقه أهمّية أسّست لهذا المستوى من الثقة بين الدولتين وجعلت كينيا واحدة من أقرب حلفاء الولايات المتحدة الأميركية في القارة الأفريقية.
لقد برزت كينيا كشريك أمني مهمّ للولايات المتحدة في شرق القارة الأفريقية باحتضانها قاعدتين عسكريتين أميركيتين في مطار واجير ومومباسا؛ المدينة الكينية المطلة على المحيط الهندي. وتعدّ الأخيرة حجر الزاوية في العمليات العسكرية التي يقودها الجيش الكيني بالتعاون مع القوات الأميركية ضدّ "حركة الشباب" الصومالية منذ عام 2011 باعتبارها أكثر فروع "تنظيم القاعدة" نشاطاً في جميع أنحاء العالم وفق تقديرات الجيش الأميركي.
حالياً، تعدّ كينيا طرفاً في ائتلاف مجموعة الاتصال الدفاعية الأوكرانية التي تجتمع للتنسيق حول كيفية تسليح كييف ضدّ موسكو، كما تشرف على اتفاق السلام الذي أنهى الحرب الأهلية التي دامت عامين في إثيوبيا في منطقة تيغراي الشمالية.
وفي الوقت ذاته، يضطلع الرئيس الكيني ويليام روتو بمهمة الوساطة بين دول منطقة البحيرات العظمى التي تعاني من تأزّم مستعصٍ في علاقاتها بسبب التمرّد المزمن في شرق الكونغو الديمقراطية.
من الواضح إذاً أنّ ثمة أدواراً أمنية واستراتيجية تؤديها هذه الدولة الأفريقية تتماشى مع أهداف الاستراتيجية الأميركية وتتقاطع معها ضمن الفضاء الممتدّ من تخوم القرن الأفريقي شمالاً نحو منطقة البحيرات الكبرى جنوباً.
وإذا ما اتخذت تلك الأدوار مداخل لفهم رؤية الولايات المتحدة لكينيا مع ربطها بموقع الأخيرة المطلّ على المحيط الهندي غير بعيد عن مضيق الموزمبيق، سيتبين لنا الحساب الجيوسياسي الذي أجراه صانع القرار الأميركي حين اتخذ قرار منح كينيا صفة الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة الأميركية خارج حلف الناتو، وستنجلي صورة هذه الحسابات الجيوسياسية أكثر إذا ما ربطناها بمتغيّر التنافس مع الصين وروسيا في القارة الأفريقية من جهة، ولعبة النفوذ في منطقة الكاريبي من جهة ثانية.
في أفريقيا، تشتد وطأة المنافسة المحمومة التي تخوضها واشنطن ضدّ موسكو وبكين في المحور الممتد من شرق القارة إلى غربها عبر دول الساحل.
من المؤكّد أنّ واشنطن شعرت بتضييق الخناق عليها أكثر في غرب القارة ومنطقة الساحل بعد سحب قواتها من النيجر وتشاد بطلب من الدولتين، وهي تتابع من كثب كيف يتعزّز نفوذ روسيا في وسط القارة ومنطقة الساحل تدريجياً، وكيف انتقل طموحها الجيوسياسي نحو إقامة نقاط ارتكاز بحرية لها عبر مشروع إحياء القاعدة العسكرية الذي يسعى الجيش الروسي إلى إقامته في بورت سودان (السودان)، مهدّدة الهيمنة الأميركية المبسوطة على البحر الأحمر ومنافذه.
لذا، فإنّ خوفاً من تكرار سيناريو النيجر وتشاد في كينيا دفع الولايات المتحدة إلى تحصين علاقتها معها ووجودها هناك، وهي إذ تحصّنهما إنما تستبق كل تقدّم روسي محتمل نحو فضاءات نفوذها التقليدية.
حتى الصين، وعبر المشاريع التي نفذتها في كينيا في إطار مبادرة الحزام والطريق، بما تنشئه من تقارب بينها وبين نيروبي وبما تمنحه لها من أوراق لممارسة التأثير في كينيا وجوارها، تستنفر التوجّس الاستراتيجي الأميركي وتدفع واشنطن نحو ردود فعل استباقية تعزّز تحالفاتها وتجنبها انتكاسات جيوسياسية جديدة.
إنَّ ما يؤجّج توجس واشنطن الاستراتيجي ويدفعنا إلى وضعه في مقدمة الدوافع التي انبثق منها قرار منح كينيا وضعية الحليف الاستراتيجي خارج الناتو تلك المناورات العسكرية الروسية بالذخيرة الحيّة في سواحل كوبا، ثمّ سواحل فنزويلا شهر جوان/حزيران الماضي، غير بعيد عن سواحل الولايات المتحدة الأميركية الجنوبية، على نحو يثبت أن روسيا باتت تبحث عن نقاط ارتكاز جديدة في لعبة التموقع في رقعة الشطرنج العالمية وفق منطق تفكير جديد يكسر قواعد تقاسم مناطق النفوذ التقليدية، فلا غرو من أن تتصاعد حركية الفعل ورد الفعل هذه بين أقطاب القوة العالمية مستقبلاً، ولا شكّ في أنّ قرار واشنطن الأخير حيال كينيا لن يكون الأخير فيها.