كوهين والمنقوش.. لقاءٌ عارض أم تطبيعٌ ليبيٌّ مُعلن مع "إسرائيل"؟

الحديث عن تورط مسؤولين ليبيين في التطبيع مع "إسرائيل" أو الدعوة إليه، ليس حديثاً جديداً، فمنذ أن قصف حلف شمال الأطلسي الأراضي الليبية، وهناك أخبار تشير إلى تورط اللاعبين السياسيين المتنافسين على كعكة السلطة داخل ليبيا في أوحال التطبيع.

  • كوهين والمنقوش.. لقاءٌ عارض أم تطبيعٌ ليبيٌّ مُعلن مع
    كوهين والمنقوش.. لقاءٌ عارض أم تطبيعٌ ليبيٌّ مُعلن مع "إسرائيل"؟

أثار الإعلان عن لقاء وزير خارجية حكومة الاحتلال الإسرائيلي إيلي كوهين نظيرته في حكومة «الوحدة الوطنية» الليبية نجلاء المنقوش، الأسبوع الماضي، صدمة لكثير من الأوساط السياسية والشعبية في الداخل الليبي، إذ عبّر العديد من الناشطين والكتاب الليبيين عن رفضهم لأي خطوة باتجاه التقارب مع الكيان الإسرائيلي، كما دانوا، عبر مواقع التواصل والمنصات الإعلامية المحلية، أي مساع حكومية تُفضي إلى منح "تل أبيب" اعترافاً "عربياً رسمياً جديداً".

وكان وزير خارجية الاحتلال قد أشار، أمس الأحد، إلى أنّ لقاءه المنقوش تم بسريّة في إيطاليا، باستضافة وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني، لافتاً إلى أنّ اللقاء استهدف تطوير العلاقات بين "إسرائيل" وليبيا، مؤكداً نية حكومة الاحتلال الاستفادة من الإمكانات الليبية، والتعاون في المجالات الزراعية.

ويؤكد مراقبون أن قادة الاحتلال وعدداً من مؤيدي التطبيع داخل ليبيا دائماً ما يثيرون مسألة "التراث اليهودي داخل ليبيا"، ويُبرزونها كمدخل لتبرير العلاقات بين طرابلس و"تل أبيب"، إذ تتصاعد الدعوات إلى تجديد "المعابد والمقابر اليهودية"، باعتبارها تكأة لتمرير التعاون بين المؤسسات الإسرائيلية وعدد من المنتسبين إلى مجالات الثقافة والفنون.

ولا تختلف الحال في هذا السياق بين ليبيا وغيرها من الأقطار العربية، إذ تسعى المؤسسات الصهيونية لاختراق العمق العربي من بوابة الاقتصاد أو الفنون أو التراث؛ وفي ظل رفض الشارع العربي للتطبيع، يسعى مؤيدوه من النخب المعزولة عن نبض الشارع إلى تمرير التطبيع عبر شعارات مخادعة تسعى للتمويه على عملية الاختراق الصهيوني، وتقديمها باعتبارها لا تتخطى حيز "التعاون الثقافي" أو "المنافع الاقتصادية".

نفيٌ رسمي.. وجدلٌ إعلامي

على الصعيد الرسمي، جاء الرد سريعاً من جانب عبد الحميد الدبيبة رئيس حكومة «الوحدة الوطنية»، إذ تم الإعلان عن توقيف المنقوش عن العمل وإحالتها إلى التحقيق. وبينما نفت وزارة الخارجية الليبية صحة الأخبار الواردة عن اللقاء، جاءت تصريحات أخرى لتؤكد حدوثه مع وصفه بأنه "لقاء عارض غير رسمي وغير معد مسبقاً".

في الجهة المقابلة، أكد الإعلام الإسرائيلي، والذي صعّد من اهتمامه بالملف الليبي على نحو مباغت، أن العديد من الاتصالات الهاتفية بين الوزيرين قد سبقت لقاء روما، وأنه تم الاتفاق عليه مسبقاً على "أعلى المستويات في ليبيا"، كما أشارت صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية إلى هروب المنقوش على متن طائرة حكومية إلى تركيا بمساعدة جهاز الأمن الداخلي الليبي، بيد أن الجهاز نفى الأمر.

في السياق ذاته، قال المجلس الرئاسي الليبي إن تطبيع العلاقات مع "إسرائيل" أمر غير شرعي وغير قانوني، كما اتهم مكتب رئيس البرلمان نجلاء المنقوش بالخيانة الكبرى، في الوقت نفسه، أكد جهاز الأمن الداخلي وقوفه صفاً واحداً مع مشاعر الشعب الليبي تجاه القضايا كافة، وخاصةً القضية الفلسطينية، مستنكراً «ما قامت به وزيرة الخارجية بالجلوس مع أحد أفراد الكيان الصهيوني».

ويخشى الدبيبة الذي يقود حكومته من طرابلس من خسارة المساندة الشعبية والقبلية التي يحظى بها، خاصة أنه يواجه منافسة شرسة من حكومة طبرق في شرقي البلاد، والتي يدعمها البرلمان الليبي والمشير خليفة حفتر قائد "الجيش الوطني"؛ إذ تعاني ليبيا، منذ سنوات، من تفتت السلطة بين حكومتين واحدة في الغرب وأخرى تنازعها على الشرعية في الشرق.

رفض شعبي يتصاعد.. وإدانة فلسطينية 

مع انتشار الأخبار التي كشفت عن اللقاء بين كوهين والمنقوش، بدأ الشارع الليبي ينتفض، إذ اندلعت الاحتجاجات في العاصمة طرابلس، وعدد من المدن الأخرى، كما أغلق المحتجون عدداً من الطرق الرئيسية، وأحرقوا الإطارات، ولوّح المتظاهرون بالعلم الفلسطيني، رافعين صور الشهداء ولافتات تشير إلى الانتهاكات الإسرائيلية.

ويُرجع مراقبون محدودية التظاهرات الليبية الرافضة للتطبيع حتى الآن، إلى سرعة استجابة الحكومة للغضب للشعبي، وإعلان إحالة الوزيرة إلى التحقيق، ما ساهم في تهدئة الرأي العام الغاضب، إذ شعر الليبيون على حين غفلة أن بلادهم على وشك الانزلاق إلى خندق التطبيع، فعبّروا عن رفضهم لهذا المسار بشكل عاجل عبر مواقع التواصل وفي الميادين العامة.

ولا تعترف ليبيا بالكيان الإسرائيلي، إذ تؤيد طرابلس الحقوق الفلسطينية، ويُجرم القانون 62 لعام 1957 إقامة أي نوع من العلاقات بين الدولة الليبية و"إسرائيل"، كما عُرفت القيادة الليبية لعقود طويلة قبل عام 2011 بمواقفها المساندة للشعب الفلسطيني، والرافضة لجرائم الاحتلال الإسرائيلي.

وجاء الموقف الشعبي الليبي الرافض للتطبيع، متسقاً مع بيانات الفصائل الفلسطينية، التي دانت لقاء كوهين/المنقوش، ودعت القوى السياسية والشعبية الليبية إلى التشبث بمواقفها المعهودة المدافعة عن "القضية الفلسطينية ومقدسات الأمة".

وكانت حركة حماس قد عبّرت عن رفضها لهذا اللقاء، معتبرة أنه "يشرعن وجود الكيان الصهيوني على الأرض الفلسطينية المحتلة، ويمثل ضوءاً أخضر للاحتلال لكي يستمر في سياساته الفاشية وجرائمه الوحشية".

كما استنكرت حركة الجهاد الإسلامي لقاء الوزيرة الليبية المسؤول الصهيوني، معتبرة ما جرى "ارتداداً خطيراً عن ثوابت الأمة وسقوطاً في مستنقع التطبيع...".

كذلك أكدت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أن اللقاء هو بوابة للتطبيع، و"يعدّ إهانة خطيرة للشعب الليبي الذي سطر تاريخاً من الوفاء لفلسطين وقضايا الأمة العربية".

اتفاقات التطبيع.. ومساع صهيونية لجذب مطبّعين جدد

بعد توقيع الاتفاقات التي عرفت باسم "اتفاقات أبراهام" عام 2020، سعت حكومة الاحتلال إلى إقناع دول عربية أخرى بالاعتراف بسيادتها وإقامة علاقات دبلوماسية علانية معها، وعملت على تحقيق ذلك عبر فتح قنوات اتصال بالمسؤولين في تلك البلدان، ومحاولة إيهامهم بأن التطبيع سيكون بوابتهم لنيل التأييد الدولي والحصول على الدعم الاقتصادي الخارجي.

وقد تمكن قادة الاحتلال من تحقيق ذلك مع الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، خلال الأعوام الأخيرة، لكن رغم ذلك، بقي التطبيع مُحاصراً داخل الدوائر الرسمية، وظل الموقف الشعبي العربي مؤيداً للموقف الفلسطيني، بل وضاغطاً على الحكومات العربية بهدف إدانة أي تعديات إسرائيلية جديدة.

فحتى الأنظمة العربية التي ذهبت في اتجاه الاعتراف بالكيان الإسرائيلي، لم تستطع مناطحة المزاج الشعبي على الدوام، فأُجبرت على انتقاد حكومة بنيامين نتنياهو بسبب بناء المستوطنات في الضفة الغربية، كما دانت الغارات العسكرية التي قام بها "جيش" الاحتلال مؤخراً على مناطق في غزة والضفة الغربية.

رُبّ ضارة نافعة

الحديث عن تورط مسؤولين ليبيين في التطبيع مع "إسرائيل" أو الدعوة إليه، ليس حديثاً جديداً، فمنذ أن قصف حلف شمال الأطلسي الأراضي الليبية، وهناك أخبار تشير إلى تورط اللاعبين السياسيين المتنافسين على كعكة السلطة داخل ليبيا في أوحال التطبيع.

ففي مطلع العام الماضي 2022، نشرت هيئة البث الإسرائيلية أخباراً تؤكد لقاء رئيس حكومة "الوحدة الوطنية" عبد الحميد الدبيبة كبار المسؤولين في حكومة الاحتلال بالعاصمة الأردنية عمان، وكان من بينهم رئيس الموساد.

كما ادعت وسائل إعلام إسرائيلية في تشرين الثاني/نوفمبر 2021، وجود مساع لإقامة علاقات معلنة بين "إسرائيل" وليبيا، على هامش مؤتمر دولي كان قد أُقيم في فرنسا لتناول الشأن الليبي.

على الجانب الآخر، كانت صحيفة "هآرتس"، قد كشفت أنّ صدام، نجل الجنرال الليبي خليفة حفتر، قد زار "إسرائيل" خلال خريف عام 2021، وأنه حمل رسالة من أبيه يطلب فيها دعماً سياسياً وعسكرياً غربياً و"إسرائيلياً" مقابل تعهده بإقامة علاقات دبلوماسية مستقبلية بين بلاده و"إسرائيل".

هذه الأخبار التي ينشرها الإعلام الإسرائيلي على مدار سنوات بخصوص وصوله إلى تفاهمات مع مسؤولين داخل ليبيا، ووضعه أول "لبنة في بناء التطبيع"، دائماً ما يتم نفيها رسمياً من الجانب الليبي؛ وأياً كان الطرف "الصادق" في القصة، فإن أهم ما فيها أنها تكشف عن وجه ليبيا الحقيقي الرافض للتطبيع، الذي يمثّله أبناء ليبيا البسطاء، وهو الوجه الذي يخشاه جميع المسؤولين، لذا يسارعون إلى إنكار ادعاءات الجانب الإسرائيلي.

وكان استطلاع للرأي أجراه «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» مطلع العام الجاري، قد أكد أن 96 في المئة من الليبيين يرفضون الاعتراف بـ"إسرائيل"، وأنه من بين 14 دولة عربية، حلّت ليبيا في المركز الثاني في رفض التطبيع.

ويرى ناشطون في مجال مناهضة التطبيع أن ما أثير عن لقاء المنقوش - كوهين، ربما يكون بمنزلة "الضارّة النافعة"، لأنه أزاح على حين غفلة الستار عن المساعي الصهيونية لتحريض الأطراف المتصارعة داخل ليبيا على التطبيع، وأن تفجّر الأمر على هذا النحو والرفض الشعبي الواسع الذي صاحب هذا الحدث، سيعطّل، بدرجة أو أخرى، تلك المساعي الإسرائيلية المسمومة.