قراءة في توجّهات نتنياهو لتطويع القضاء
لا شك أنّ إضعاف المحكمة العليا في كيان الاحتلال، والتدخّل في تعيين القضاة، سيؤدي إلى واقع غير مسبوق، وسيعطي أي حكومة القدرة على تمرير قوانين تضرّ بأطراف وشرائح كبيرة ممن ليست ضمن الائتلاف الحكومي.
مع تصاعد التظاهرات في "دولة" الاحتلال ضد حكومة نتنياهو والمتطرفين الذين معه ووصول عدد المتظاهرين إلى قرابة 150 ألفاً، وتحرّك القضاء والمحكمة العليا لمواجهة المخاطر المحدقة بالسلطة القضائية في الكيان؛ يتجّذر الشرخ داخل كيان العدو بشكل أكثر وضوحاً، وسط مساعٍ من نتنياهو وائتلافه لتنفيذ إصلاحات تمكّن حكومته من تجاوز المحاكمات وتدخلات المحكمة العليا التي أصدرت مؤخراً حكماً بإقالة أرييه درعي رئيس حزب "شاس" من منصبَيْه الوزاريَيْن في الحكومة؛ نظراً لإدانات قضائية سابقة بحقه، فيما تدرس المُدَّعِية العامة في الكيان، غالي باهراف-ميارا، إعلان نتنياهو "غير لائق" لرئاسة الوزراء.
"دولة" الاحتلال على عكس دول العالم ليس لها دستور؛ وذلك نتيجة للخلافات التي كانت بين الأحزاب في مرحلة تأسيس الكيان والمراحل التي تلتها، إذ توصّلت الأحزاب إلى تسويات يتمّ من خلالها سنُّ شيء بديل عن الدستور يوضع في عدّة فصول ويسمّي "القوانين الأساسية"، وهي مجموعة قوانين رئيسية يمكن إجراء تعديلات عليها لكن من دون الحاجة إلى إجراء استفتاء عام كما في دول العالم، بل يمكن تعديلها بأغلبية بسيطة لا تقل عن 61 عضو كنيست، على أن تخضع التعديلات إلى 3 قراءات في الكنيست.
وعلى مدار العقود الماضية كانت هناك ثوابت تتعلق بقوانين الأساس، وبخاصة ما ينظّم العلاقة بين السلطات الثلاث، على الرغم من أنّ الائتلاف الحكومي لديه السلطة التشريعية التي مكَّنته من تغيير تلك القوانين، وقد كانت طريقة عمل القضاء واختيار القضاة وطريقة عمل المحكمة العليا ضمن الأمور التي لا يتمّ المساس بها.
في الوضع الحالي، وضمن اتفاق الائتلاف الحكومي الجديد نصّت الاتفاقية على تأييد جميع أحزاب الائتلاف تمرير مشاريع قوانين سيقدّمها وزير العدل لإجراء تعديلات في قوانين أساس الدولة تتعلّق بآلية انتخاب القضاة، وتنظيم العلاقة بين الكنيست والحكومة وبين الجهاز القضائي والمحكمة العليا.
أخطر ما في التعديلات ما يطلق عليه "قانون التغلب" وهو القانون الذي سيتيح الحق للكنيست بإعادة سنّ قوانين أو بنود منها، وهو قانون كانت المحكمة العليا قد شطبته باعتباره مخالفاً لمبادئ الدولة الأساسية فيما يتعلق "بحقوق الإنسان والقيم الديمقراطية" أو أنّه يتمثل تغوّلاً على حقوق الأقلية، وهذا الأمر ينظر له من الناحية العملية بأنّه إفراغ للمحكمة من مضمونها ومهامها، إضافة إلى إنهاء أي مبدأ للفصل بين السلطات، إذ إنّ هذه التعديلات ستؤدي إلى سيطرة الحكومة على جميع السلطات الثلاث.
من ناحية ثانية، فإنّ الخطر الثاني في التعديلات يتمثّل في سيطرة الحكومة على تعيين القضاة، عبر جعل السيطرة في تشكيل لجنة اختيار القضاة للكنيست وأحزاب الأغلبية؛ وهو ما يعني إمكانية التلاعب في الملفات القضائية وبخاصة في محاكمة المسؤولين السياسيين، إذ استطاع نتنياهو إيقاف قضية فتح تحقيقيات جديدة من خلال إعطاء وزارة الأمن الداخلي إلى إيتمار بن غفير الذي يُعدُّ مرجعية لطريقة عمل الشرطة وحق الضبطية وفتح التحقيقات بحق المستوى السياسي وغيره.
ومؤخّراً تمّ إقرار قانون خاص بتوسيع صلاحيات بن غفير، وإخضاع الشرطة بشكل تام لسلطته وسياساته، ومن بينها تعليمات وتوجيهات في كل ما يتعلق بالتحقيقات، والتعامل مع الملفات القضائية، والتقديم للمحاكمة، والتفتيشات؛ ما يعني إحباطاً مسبقاً لأيّ تحقيقات جديدة ضد السياسيين، إذ لن تستطيع الشرطة فتح أي تحقيق ضد أي سياسي قبل موافقة الوزير بن غفير.
لا شك أنّ إضعاف المحكمة العليا في الكيان، والتدخّل في تعيين القضاة، ومن قبله التدخّل في فتح ملفات التحقيقات لدى الشرطة، سيؤدي إلى واقع غير مسبوق في تاريخ الكيان، وسيعطي أي حكومة القدرة على تمرير قوانين تضرّ بأطراف وشرائح كبيرة ممن ليست ضمن الائتلاف الحكومي. ولعل أكثر المتضررين من هذا القرار حالياً هم "اليسار" و"العلمانيون" في ظل جنوح المجتمع في الكيان نحو "اليمين"، ومع سيطرة "المتدينين" فإنّ الكثير من القرارات والتشريعات ستمرّر وبخاصة تلك التي تحمل أبعاداً دينية في التعليم والاقتصاد ومختلف الجوانب الحياتية التي ستطلّب تلك الأحزاب بأن تكون موافقة للشريعة اليهودية.
التشريعات الجديدة التي ستمسّ بصورة القضاء السابقة، ستعمل بشكل أساسي على تحصين نتنياهو وحلفائه في الحكومة، إضافة إلى أنّها ستكون الورقة التي سيعمل نتنياهو من خلالها لإلغاء محاكماته بتهم "الفساد وخيانة الأمانة" منذ عدة سنوات. إذ يريد نتنياهو من التشريعات الجديدة إقرار القانون الفرنسي الذي يقضي بحصانة أعضاء الكنيست والوزراء من المحاكمة خلال تولّيهم مناصبهم، وهو القانون الذي يمثّل طوق نجاه لنتنياهو الذي لا يتوقّع أن يغادر رئاسة الوزراء خلال الفترة المقبلة، سواء كان في حكومة مستقرة أو في مرحلة انتخابات.
من ناحية ثانية، فإنّ القانون الجديد سيُلغي بند "الاحتيال وخيانة الأمانة" في القانون الجنائي والعقوبات؛ الأمر الذي سيجعل أعضاء الكنيست والحكومة فوق القانون، من دون أن يتعرّضوا للمحاكمة في حال غلَّبوا مصالحهم الشخصية على المصالح العامة.
بعد إقالة درعي، والخشية من إعلان المدعية العامة نتنياهو غير لائق لرئاسة الوزراء، وتصاعد الاحتجاج والتظاهرات، فإنّ نتنياهو يجد نفسه أمام معضلة مُركَّبة، فخيار تمرير الإصلاحات القضائية سيزيد من الاحتجاجات ويضيّق مساحات التحرك الداخلية والخارجية، وقد يصل إلى اختلال في مكونات الكيان، بينما خيار عدم تمريرها سيجعل حكومته رهينة للقضاء وعدم قدرته على تنفيذ مخططات إنقاذ نفسه من المحاكمة، وعدم القدرة على الإيفاء بالاتفاقيات التي تشكّلت على أساسها الحكومة.
لذلك؛ فإنّ جميع المؤشرات بعد استهداف القضاء من قبل ائتلاف نتنياهو تؤكّد أنَّ الشرخ الداخلي في الكيان يزداد بشكل كبير، وأنَّ الخلافات الداخلية ستكون عنواناً للمرحلة المقبلة، وفي حال استمرت فإنّ التظاهرات والاحتجاجات ستتواصل، وهذا الأمر قد يصل يوماً إلى اندلاع حرب داخلية في الكيان.