قراءة في تداعيات إلغاء النيجر للتعاون العسكريّ مع واشنطن
واشنطن لا تزال تعتقد أن بإمكانها التلويح بالتهديدات والإملاءات فيما يتعلق بالشؤون الداخلية في النيجر، ولا سيما ما يتعلق بالانتقال السياسي والتعاون العسكري من دون مراعاة لمصالح النيجر وتطلعاتها.
ألغت النيجر "بمفعولٍ فوريّ"، في 17 آذار/مارس الجاري، اتفاق التعاون العسكري مع الولايات المتحدة الأميركية، والذي يعود إلى العام 2012. وترى نيامي أن الاتفاق الموقّع بين الطرفين "مُجحف"، وقد "فرضته أحادياً" واشنطن عبر "مذكّرة شفوية بسيطة" في السادس من تموز/يوليو 2012.
وقال المتحدّث باسم الحكومة النيجيرية، أمادو عبد الرحمن؛ إنّ "حكومة النيجر، آخذةً طموحات الشعب ومصالحه في الحسبان، لذلك، تُقرّر بكلّ مسؤولية أن تلغي بمفعولٍ فوريّ الاتفاق المتعلّق بوضع الطاقم العسكري للولايات المتحدة، والموظفين المدنيين في وزارة الدفاع الأميركية على أراضي النيجر". وأكد أن الوجود العسكري الأميركي في البلاد "غير قانوني" و"ينتهك كل القواعد الدستورية والديمقراطية".
جاءت حيثيات قرار النيجر بـ "إلغاء التعاون العسكري مع الولايات المتحدة الأميركية" في توقيته وبيئته وظروفه محمّلاً بجملة دلالات وتداعيات باطنها أعمق من ظاهرها؛ أما لجهة التوقيت؛ فأتى القرار عقب زيارة مسؤولين أميركيين، على رأسهم مساعدة وزير الخارجية الأميركي للشؤون الأفريقية "مولي في"، والجنرال "مايكل لانغلي" قائد القيادة الأميركية في أفريقيا.
وبقي الوفد الأميركي في نيامي 3 أيام لم يتمكّن خلالها من لقاء رئيس المجلس العسكري عمر عبد الرحمن تياني. وفي تفاصيل رفض اللقاء قال المتحدّث باسم الحكومة النيجيرية، أمادو عبد الرحمن؛ إن "وصول الوفد الأميركي لم يحترم الأعراف الدبلوماسية"؛ إذ لم يُبلّغ النيجر بتشكيلة الوفد أو موعد وصوله أو جدول أعماله.
أما في بيئة اتخاذ قرار النيجر إلغاء التعاون العسكري مع واشنطن؛ فهو يعكس الجهل الأميركي ولا سيما عقب الإطاحة بالرئيس محمد بازوم في تموز/يوليو الماضي؛ في قراءة حيثيات المشهد الجديد في النيجر المناهض للتدخّل الخارجي والرافض للوصاية الأميركية والغربية؛ والذي يسعى لتثبيت الاستقلالية والسيادة.
يكشف قرار النيجر العقدة الأميركية التقليدية القائمة على الوصاية والإملاءات؛ وذلك في حيثيتين، الأولى: الرواية الأميركية المفسّرة لقرار إلغاء التعاون العسكري، إذ وبحسب صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، فإن المتحدث باسم حكومة النيجر، أمادو عبر الرحمن، قال "إن الوفد الأميركي اتهم المجلس العسكري زوراً بتوقيع اتفاق سري مع إيران، كما أعرب عن استيائه من علاقة النيجر الأمنية مع روسيا".
وكشفت الصحيفة في تقريرها أنه في الأشهر الأخيرة، حصل المسؤولون الأميركيون والغربيون على معلومات تشير إلى أن الحكومة العسكرية في النيجر تدرس إبرام اتفاق مع إيران من شأنه أن يسمح لطهران بالوصول إلى بعض احتياطيات اليورانيوم الضخمة في النيجر.
وذكرت الصحيفة أن القلق الأميركي يتمثّل في أن المناقشات حول هذا الاتفاق استمرّت في كانون الثاني/يناير 2024، عندما التقى رئيس الوزراء المعيّن من قبل المجلس العسكري علي الأمين زين، الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي وغيره من كبار المسؤولين في طهران. وتحدّث مسؤولون غربيون في شباط/فبراير الماضي، أن المحادثات بين النيجر وإيران وصلت إلى مرحلة متقدمة للغاية. وأن الطرفين وقّعا اتفاقاً مبدئياً يسمح لطهران بالحصول على اليورانيوم من النيجر.
أما في الحيثية الثانية فإنّ واشنطن لا تزال تعتقد أن بإمكانها التلويح بالتهديدات والإملاءات فيما يتعلق بالشؤون الداخلية في النيجر، ولا سيما ما يتعلق بالانتقال السياسي والتعاون العسكري من دون مراعاة لمصالح النيجر وتطلعاتها السياسية التي بدأت تتشكّل عقب الإطاحة بالرئيس محمد بازوم. الذي اعتبرته واشنطن انقلاباً؛ وعلى إثره سنّت قوانين تُقيّد الدعم العسكري والمساعدات الأميركية التي يُمكن أن تقدّمها للنيجر.
لتعود واشنطن في كانون الأول/ديسمبر الماضي، معلنة على لسان المبعوثة الأميركية إلى أفريقيا "مولي في"، وتبدي استعدادها لاستئناف المساعدات والعلاقات الأمنية إذا استوفت ميامي شروطاً معيّنة.
وذلك عقب طرد النيجر للقوات الفرنسية وإلغاء الاتفاقيات العسكرية مع باريس. فحاولت واشنطن عبثاً استدراك خطيئة سوء التقدير ولكنها لم تفلح وانتهى الأمر بإلغاء النيجر للتعاون العسكري مع واشنطن والذي يعني جملة دلالات يمكن إيجازها في الآتي:
- إخراج واشنطن 1100 جندي أميركي من النيجر؛ يعملون في واحدة من أهم القواعد الأميركية في القارة الأفريقية للطائرات المسيّرة تعرف باسم القاعدة الجوية 201 وتوجد في منطقة "أغاديس" وسط النيجر؛ وبلغت تكلفة بنائها ما يزيد على 100 مليون دولار. وصيانة سنوية بكلفة بين 20 و30 مليون دولار، وتعد العمود الفقري للقواعد العسكرية الأميركية في شمال أفريقيا وغربها، فالقاعدة تضم مدرجَ طيران يبلغ طوله 1890 متراً، وحظائر طائرات ضخمة، ومرافق معيشة متعددة الطوابق، ومخازن أسلحة وذخيرة، ومحطة لإنقاذ الطائرات، ويقع كل ذلك ضمن "منطقة أمنية" تمتد بطول 25 كيلومتراً. وبالتالي خسارة واشنطن لوجستياً وعسكرياً واقتصادياً، لأحد أكبر قواعدها العسكرية في القارة الأفريقية.
- قرارا النيجر بإلغاء التعاون العسكري مع واشنطن قد يتمدّد ويمتد لدول أفريقية أخرى؛ ما يعني تحقّق نظرية الدومينو حول الوجود الأميركي في القارة الأفريقية على غرار ما حدث مع فرنسا؛ وهذا يقابله حتماً تمدّد وحضور روسي وصيني. الأمر الذي يقتضي استدراكه من واشنطن بضرورة تغيير تعاملها مع القارة الأفريقية والتخلي عن عقيدة الوصاية والإملاءات.
- توظيف المجلس العسكري في النيجر لقرار إلغاء التعاون العسكري مع واشنطن، من خلال محدّدين الأول: لتعزيز حضوره شعبياً وسياسياً، ولا سيما أن القرار يحظى باستحسان لدى الشارع في النيجر، ومن بين ما يعنيه اتخاذ القرار من دلالات؛ تجاوز العقوبات الاقتصادية والضغوطات الغربية؛ لجهة رفض التعامل مع المجلس العسكري والمطالبة بإعادة الرئيس محمد بازوم. والثاني: تقوية علاقة النيجر بروسيا والاستفادة من الدعم الروسي من خلال توظيف التنافس الروسي الأميركي في القارة الأفريقية. ولا سيما أن المجلس العسكري في النيجر لا يُخفي علاقاته مع موسكو وسعيه لتقويتها.
- كشف القرار سوء تقدير عسكري لدى الولايات المتحدة الأميركية في التعامل مع النيجر، وشكّل صدمة؛ إذ كان التقدير الأميركي يعتقد ببقاء القوات الأميركية في النيجر، وهو ما عبّر عنه الجنرال في القوات الجوية "جيمس هيكر"، قائد القوات الجوية الأميركية في أوروبا وأفريقيا، عندما سُئل في 13 أيلول/سبتمبر الماضي؛ عما إذا كانت الولايات المتحدة تخطط لإجلاء قواتها من النيجر: "الهدف هو البقاء"، ولذلك فإننا "نستعد لمواصلة البقاء هناك، لأن هذا ما نأمل أن نفعله".
وقد ذهبت "سابرينا سينغ"، نائبة المتحدث باسم البنتاغون، إلى الرأي نفسه، إذ قالت: "لقد استثمرنا مئات الملايين من الدولارات في قواعدنا هناك، وجمعتنا تدريبات مع الجيش"، "النيجر شريك للولايات المتحدة، ونحن لا نريد لهذه الشراكة أن تنهار".
وأكده وزير الدفاع الأميركي "لويد أوستن"، في 26 أيلول/سبتمبر 2023؛ خلال مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره الكيني أدين دوالي في العاصمة نيروبي، نافياً أيّ توجّه لسحب قوات بلاده من النيجر أسوةً بفرنسا. وقال "بالنسبة لقواتنا في النيجر، لم نقم بأي تغيير يُذكر عليها".
- قرار النيجر يوجّه ضربة خطيرة وكبيرة لجهود الرئيس الأميركي "جو بايدن"؛ لاحتواء التمرّد الإسلامي في منطقة الساحل الأفريقي. وأي تعنّت أو رفض أو مماطلة أميركية في تنفيذ القرار سيكشف زيف شعار الرئيس الأميركي "أن الأفارقة أحرار في اختيار شركائهم". كما يعني فشل الولايات المتحدة في تجاوز تبعات التحوّلات الحاصلة في النيجر.
- القرار يعني أن التحوّلات الحاصلة في النيجر الجديدة تعني المضي في طريق الخروج من العباءة الأميركية والغربية، ووضع محددات جديدة لعلاقات النيجر الإقليمية والدولية والبحث عن شركاء جدد، وقد مضت النيجر نحو خطوات عملية في ذلك عندما قام رئيس وزرائها، علي محمد الأمين زين الدين؛ في 15 كانون الثاني/يناير الماضي، بزيارة كل من روسيا وتركيا وصربيا وإيران. يرافقه وفد حكومي ضم وزير الدفاع والنفط والشباب والرياضة والتجارة والصحة.
- النيجر ماضية في قرار إلغاء التعاون العسكري مع واشنطن والأمر ليس مجرد مناورة؛ وإن كانت بعض التقديرات تذهب إلى أن المجلس العسكري في النيجر قد يعود عن قراره؛ إذا تراجعت واشنطن عن شروطها وتدخلاتها في الشأن الداخلي للنيجر واستقلالية قراراه، أو قررت واشنطن الانتقام وفرض عقوبات سياسية واقتصادية أو إشغال النيجر بالمشكلات الداخلية؛ ولكن سيناريو رجوع النيجر عن القرار يبدو مستبعداً؛ ولا سيما أن النيجر طلبت في اليوم التالي 18 آذار/مارس الجاري؛ لإلغاء التعاون العسكري من واشنطن وضع جدول زمني لسحب قواتها من النيجر ومناقشة تفاصيله مع الحكومة.