قراءة في تحديات الأمن القومي الأميركي
مع التطورات الجديدة في الساحة الدولية، تفكّر واشنطن في مراجعة استراتيجيتها بشأن الأمن القومي.
منذ بداية عهد الرئيس الأميركي، جو بايدن، حدّدت الإدارة الجديدة تحديات الأمن القومي الأميركي خلال المرحلة المقبلة، التي تمتد أربعة أعوام، في ستة أبعاد مركزية خارجية، يتحتّم العمل على مواجهتها وإيجاد حلول لها، سواء كلية أو جزئية، وجسّدت هذه الأبعاد كوابح الطموح الأميركي، الهادف إلى استمرار الهيمنة العالمية. وأمام التطورات التي حدثت خلال الأشهر الأخيرة، تتجه الإدارة الأميركية إلى مراجعة استراتيجيتها وتعديلها، وخصوصاً بعد الحرب الروسية الأوكرانية.
وآخر استراتيجية منشورة عن تحديات الأمن القومي الأميركي، كانت تتحدث عن ستة أبعاد، هي: النزعة السلطوية في كل من روسيا والصين (داخلياً ودولياً)؛ عودة النزعة القومية إلى مناطق كثيرة في العالم؛ انتشار السلاح النووي، وإمكان توسع الدول التي تمتلكه؛ التغيّر المناخي؛ ثورة الذكاء الصناعي وحوسبة الكم؛ جائحة كورونا.
خلال الفترة الحالية، ومع التطورات الجديدة في الساحة الدولية، تفكّر واشنطن في مراجعة استراتيجية الأمن القومي لها، عبر إعادة ترتيب الأولويات، لتصعد أوروبا وروسيا، من حيث الأهمية، على حساب التركيز على آسيا والصين، التي كانت تعدّها الاستراتيجية الأميركية الأخيرة أهمَّ تهديد يواجه الهيمنة الأميركية على مستوى العالم، وفق صحيفة "بلومبيرغ".
إن صحّت المعلومات، التي نقلتها "بلومبيرغ"، فإن هذا لا يعني أن الصين لم تعد تصنَّف تهديداً استراتيجياً أولَ لمكانة الولايات المتحدة في النظام الدولي، ولن تتراجع واشنطن عن تطوير استراتيجياتها من أجل مواجهة الصعود الصيني.
وهذا الأمر يحتّم استدارة ستكون لها تبعاتها على الأمن القومي الأميركي، ويمثّل تحدياً جديداً وخطَراً استراتيجياً آخر يواجه الهيمنة الأميركية المطلقة على المشهد الدولي.
ولعلّ تطورات جديدة قد تشهدها الاستراتيجية الأميركية، التي سيعلَن عنها خلال الفترة المقبلة، تتمثل بالتّشديد على أن التحديات من جانب روسيا في أوروبا، ومن جانب الصين في آسيا، لا يمكن أن تتعامل معها واشنطن وحدها، وأنه يجب إشراك مختلف الأطراف الحليفة للتصدي لها.
مَن يقرأْ تحديات الأمن القومي الخارجي لواشنطن، والتي نُشرت بعد بدء ولاية بايدن مباشرة، والتسريبات التي تتناول المراجعات الجديدة لتحديات الأمن القومي التي ستنشَر خلال الفترة المقبلة، يدركْ، على نحو واضح، تراجعَ المكانة الاستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط لدى الولايات المتحدة، إذ أصبحت في المرتبة الرابعة، بعد تركيز الولايات المتحدة جهودها على أربع قضايا.
الأولى هي زيادة وتيرة تطبيع الدول العربية مع الاحتلال الإسرائيلي، وتشكيل تحالف بين العرب والاحتلال، على نحو يقلّل العبء الأميركي في المنطقة، ويهدف إلى تسخير هذا التحالف لخدمة الأهداف الأميركية في الصراع الدولي، وليس لحل قضايا الشرق الأوسط.
أمّا القضية الثانية، التي تعمل عليها الإدارة الأميركية، فهي مضايقة التمدّد الصيني الاقتصادي في منطقة الشرق الأوسط، والتضييق على حركة نقل البضائع الصينية، وخصوصاً مبادرة الحزام والطريق الصينية، والتي تعمل عليها الصين مع عدد من الدول الآسيوية لتسهيل حركة التجارة، وذلك نتيجة اعتبار واشنطن الصين أهمَّ وأبرز تهديد استراتيجي منافس.
يمكن القول إن الصراع الأميركي الصيني مقبل، وقد يتطور في ضوء استمرار الولايات المتحدة في تطوير سياساتها وعقد تحالفات واتفاقيات غير تقليدية لمواجهة الصين، باعتبارها تهديداً جيوسياسياً ضد مصالحها. وبناءً عليه، فإن الأولوية لهذا الملف ستكون على حساب كثير من القضايا، مثل منطقة الشرق الأوسط، لكنها ستتوازى مع التحرك لمواجهة التهديد الروسي لأوروبا.
في المقابل، لا يُعلَم إلى أي حد ستحافظ الصين على مبدأ "الصعود الآمن"، الذي يتجنب أي مواجهة عسكرية مباشرة وتقليدية مع الولايات المتحدة وحلفائها، والاستمرار السري في بناء القدرات العسكرية والتقنية، والإصرار على عقد شراكات اقتصادية استراتيجية مع الدول في مجالها الحيوي (شرقي آسيا وجنوبيّ شرقيّها)، ومع الاتحاد الأوروبي والشرق الأوسط، والاستمرار في تنفيذ مشروع خط الحرير التجاري.
الهدف الثالث هو تحجيم التمدد الروسي، باعتبار أن ما حدث في الحرب الأخيرة مع أوكرانيا جعل روسيا عاملاً معطِّلاً ومعوِّقاً قوياً للاستراتيجية الأميركية، التي خطّتها إدارة بايدن، والتي تهدف إلى التفرّغ للصعود الصيني، بحيث أجبرت روسيا الولايات المتحدة على الاستدارة مرة أخرى إلى القارة الأوروبية، وإعادة ترميم علاقتها بدولها، من أجل صياغة استراتيجية جديدة وملائمة للتصدي للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، والتي أظهرت أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لا يملكان حلاً سحرياً أو استراتيجية واضحة لذلك، وما زالا منقسمَين بشأن عدد من الإجراءات، منها العقوبات على واردات الطاقة الروسية، وإمداد أوكرانيا بالأسلحة الاستراتيجية.
ويُعَدّ الملف الإيراني رابع التحديات، من حيث الأهمية، لدى الإدارة الأميركية، والأول من حيث الاهتمام لدى الاحتلال الإسرائيلي، إذ تسعى واشنطن لخنق الطموح النووي الإيراني، عبر التوصل إلى اتفاق نووي يحدّ أيضاً الطموح الإقليمي لإيران، بينما تسعى دولة الاحتلال لجعل هذا الأمر الهدفَ الأول للإدارة الأميركية.
وبحسب الاستراتيجية الأميركية، فإن معالجة الملف النووي الإيراني يجب أن تتمّ عبر "استخدام المبادئ الدبلوماسية"، على الرغم من أن الدليل الاستراتيجي الموقّت للأمن القومي الأميركي يصف إيران بأنها "تشكل خطراً، ودولةٌ مزعزعة للاستقرار، لكنها في الوقت نفسه ليست الأولوية القصوى أو الأولى في هذا التوقيت، بالنسبة إلى الإدارة الأميركية".
ترتيب تحدّيات الأمن القومي الأميركي وأولوياته يمثّل معضلة للكيان الإسرائيلي، الذي يرى أنه في حاجة إلى سد فراغ تراجع الدور الأميركي في المنطقة، خلال الفترة المقبلة. وهنا، يتجلى ضغط اللوبي الصهيوني على واشنطن لدعم اتفاقيات التطبيع، وتطويرها لمصلحة التحالف الحقيقي في مختلف المجالات، بما في ذلك العسكري، الذي يمكن من خلاله مواجهة إيران وحلفائها في المنطقة، ومنع محور المقاومة من استخدام أدوات جديدة لاستهداف الكيان، بما فيها الطائرات المسيَّرة.
ختاماً، الولايات المتحدة التي ما زالت تعاني داخلياً (اجتماعياً وسياسياً) بسبب سياسات الرئيس السابق، دونالد ترامب، والتي كشفت حجم الانقسام الداخلي، بالإضافة إلى شبح الركود الاقتصادي الذي بدأ يُطِلّ رأسه بعد جائحة كورونا، ولم يتعافَ منه اقتصادها تماماً، وخارجياً تعاني بسبب اندلاع الحرب في أوكرانيا، إذ قلبت سياستها الخارجية من أجل المحافظة على الهيمنة والنفوذ الاستراتيجيَّين على المشهد الدولي، بحيث إنها لا تمتلك رؤى واستراتيجيات واضحة للتعامل مع الصعود الصيني والتحول الروسي. وهذا برمته سينعكس على نفوذها ووجودها في الشرق الأوسط، الذي تراجع الى المرتبة الرابعة ضمن الأولويات الأميركية، الأمر الذي يخلق فرصاً للقوى الإقليمية التي ترغب في التخلص من الهيمنة المطلقة للولايات المتحدة على سياستها، داخلياً وخارجياً، ويضع "إسرائيل" أمام تحديات كبيرة، بحيث إن حليفها الاستراتيجي منشغل عنها، وهذا ما يفسّر مساعي "إسرائيل" الحثيثة لإنجاز اتفاقيات التطبيع، بما فيها مع السعودية، وذلك بهدف توفير الأمن وضمان "النجاة" في المنطقة، التي لا تمتلك مقوّمات منطقية للبقاء فيها.