صراع على المياه.. هل يقود العطش إلى مواجهة حتمية مع "إسرائيل"؟
الهيمنة الإسرائيلية على المياه العربية لاستكمال حاجتها المائية قد تكون لها تبعاتها في المستقبل القريب مع زيادة الشح المائي في البلدان العربية.
تغطّي المياه العذبة العابرة للحدود نحو 45% من مساحة أراضي العالم، وتُعرف بأنها الأنهار والبحيرات العذبة والمسطحات المائية التي تصل بلدين أو أكثر، وطبقات المياه، سواء فوق سطح الأرض أم تحته كمياه جوفية. وتصنّف النزاعات بشأن تخصيص الموارد المائية وتقاسمها، وأيضاً تقاسم الفوائد، أنها أمور معقدة للغاية، وأكثر صعوبة في التفاوض والحسم، حيث تتدخل فيها السياسات الدولية حتى من الدول البعيدة، وأيضاً النزاعات التاريخية والحالية والخلافات السياسية، سواء كانت بسبب المياه أم غيرها، بما يؤدي إلى تفاقم هذه الأزمات وصعوبة حلها.
وطبقاً لمعاهدة الأمم المتحدة للأنهار الدولية غير الملاحية الصادرة في الـ21 من أيار/ مايو عام 1997، عُرّف المجرى المائي بأنه نظام من المياه السطحية والمياه الجوفية يشكل وحدة كاملة تتدفق بصورة طبيعية باتجاه مخرج مشترك. أما المجرى المائي الدولي فيعني مجرى مائياً تقع أجزاء منه في دول مختلفة. ويعرّف الأمن المائي لأي دولة "بأن يكون لدى الدولة كمية كافية من المياه تكفي لإحداث تنمية اجتماعية واقتصادية والحفاظ على البيئة".
تعيش مناطق الشرق الأوسط حالة من التوتر بسبب التنافس في الحصول على المياه وتحقيق أقصى استفادة منها، سواء في "إسرائيل" ومحاولتها السيطرة والاستئثار بمياه أنهار الجنوب اللبناني ونهر الأردن وبحيرة طبرية، أم بمنابع نهر النيل في إثيوبيا.
ويرجع الدعم الأميركي لـ"إسرائيل" في مسألة المياه إلى مراحل تاريخية تسبق إنشاء "دولة إسرائيل" عام 1948، حيث إنّ هذا الوجود مرهون بحاجته إلى المياه لاستقبال المستوطنين الجدد وإسكانهم في فلسطين. كما أن هذا الدعم المستمر حفّز "إسرائيل" على العدوان على العرب عام 1967 واحتلال أراضٍ عربية جديدة واستثمار مياهها، لتضمن بذلك حزاماً أمنياً مائياً، وهو ما أكده الإسرائيليون في كل المباحثات مع العرب، بأن التفاوض يكون على الأرض لا على المياه.
وتعتمد "إسرائيل" في تحقيق أمنها المائي على ذراعها العسكرية المدعومة من أميركا، وأصبحت تستحوذ بالقوة على أنصبة مائية من نهر الأردن، وهو المجرى المائي الدولي المشترك بين فلسطين وسوريا والأردن ولبنان، رغم أنها تعتبر فعلياً خارج حوض النهر الذي من المفترض منع نقل المياه خارجه، إضافة إلى استيلائها على أنصبة من أنهار جنوب لبنان والليطاني وأيضاً بحيرة طبرية.
ويعتبر تأمين مصادر أكبر وأكثر وفرة من المياه هدفاً استراتيجياً لـ "إسرائيل" بعد ظهور بوادر أزمة المياه وشحّها في تسعينيات القرن الماضي، حيث يقدّر العجز المائي في "إسرائيل" بأكثر من 4.5 مليارات متر مكعب من المياه، وحيث وصل عدد سكان "إسرائيل" إلى 9.5 ملايين نسمة في نهاية عام 2021، طبقاً لما أعلنته دائرة الإحصاء الإسرائيلية المركزية في نهاية كانون الأول/ ديسمبر 2021، بينما لا تزيد مصادرها المائية على خمسة مليارات من الأمتار المكعبة فقط.
وبالتالي، وطبقاً لتقسيم الأمم المتحدة للمياه بأن لا يقل نصيب الفرد سنوياً عن ألف متر مكعب حتى يكون فوق مستوى شح وفقر المياه، ينبغي أن تكون موارد "إسرائيل" المائية 9.5 مليارات متر مكعب من المياه العذبة سنوياً، ولكنها واقعياً لا تمتلك أكثر من 5 مليارات فقط، بما يعني وجود عجز صافٍ يزيد على 4.5 مليارات متر مكعب سنوياً، أي بنحو 50% من احتياجاتها. ويُعد العجز المائي في "إسرائيل" أحد أسباب تمسّكها بمرتفعات الجولان والأجزاء المحتلة من فلسطين، وأحياناً مناطق من جنوب لبنان، وخاصة أنها مناطق غزيرة الأمطار وذات تربة خصبة للزراعة.
ويرى البعض أن التحركات الإسرائيلية في منابع نهر النيل، وخاصة في إثيوبيا، المصدر الأكبر لمياه النهر، تتم بدوافع سياسية إسرائيلية لإضعاف مصر ومحاصرتها من الجنوب، ولإجبار مصر على الاعتراف بالمكانة والتغلغل الإسرائيليين في أفريقيا، وثقة الشعوب الأفريقية بمستوى خبرائها، ولا سيما في مجالات تطوير الري واستخدامات المياه وتطوير إنتاج الغذاء والزراعة.
وربما تخطّط "إسرائيل" في المستقبل القريب لشراء المياه من إثيوبيا وتوصيلها إلى "إسرائيل" عبر أنبوب يمر من خلال البحر الأحمر وصولاً إلى ميناء إيلات، وربما أيضاً عبر الأراضي المصرية من خلال مجرى نهر النيل ووصلة "ترعة السلام" التي تأخذ من نيل مصر عند الدلتا وتعبر قناة السويس إلى سيناء وتصل إلى مدينة رفح على مسافة قريبة من الحدود الإسرائيلية، والتي يزعم البعض، من دون دليل، أن الرئيس المصري الراحل أنور السادات قد أنشأها خصيصاً، تحسّباً لتوصيل مياه نهر النيل إلى "إسرائيل" في المستقبل، ضماناً لتدفق المياه الإثيوبية إلى مصر، بسبب استغلال الأراضي المصرية لبيع المياه لـ"إسرائيل"، وربما أيضاً بيعها لمصر في المستقبل، بعد توصية البنك الدولي بحق دول المنابع في بيع المياه، وسابق محاولة "إسرائيل" شراء المياه من تركيا عام 1988، لكنّ الاختلاف في السعر حال دون إتمام الاتفاق.
وبشكل عام، فإن أزمة المياه العربية الإسرائيلية خامدة حالياً، وتخضع للتفوّق العسكري الإسرائيلي، ولكن، مع الزيادة الكبيرة في معدلات الزيادة السكانية العربية، فإن صراعات المياه بين "إسرائيل" والعرب يمكن أن تندلع حين تصبح الحروب هي الوسيلة الوحيدة للحصول على المياه وإبقاء الإنسان على قيد الحياة.
وطبقاً للتقارير المنشورة من Mimi and Samhan 2011; ADA and ADC 2007; Isaac 2004; PWA 2009; World Bank 2000, ، فإنه بعد حرب 1967 ، سيطرت" إسرائيل" على آبار المياه الجوفية في سيناء، وأيضاً على موارد المياه والآبار في جميع أنحاء الضفة الغربية، وعلى شبكة توصيل المياه المرتبطة بشركات المياه الوطنية الإسرائيلية )مكوروت وتاهال). وفي عام 1995، تضمنت المادة 40 من اتفاقية أوسلو الثانية أحكاماً متعلقة بالمياه والصرف الصحي اعترفت بحقوق المياه الفلسطينية غير المعروفة، وعاد بعض موارد المياه وخدماتها في الضفة الغربية إلى مسؤولية السلطة الفلسطينية.
انتهكت" إسرائيل" حقوق المياه الفلسطينية في نهر الأردن منذ عام 1967. وفي بدايات الخمسينيات، بلغ تدفق المياه السنوي لنهر الأردن 1.25 مليار متر مكعب في السنة، ولكن نتيجة لتحويل مياه النهر من بحيرة طبرية إلى صحراء النقب عبر الشركة الوطنية الإسرائيلية لنقل المياه، فضلاً عن المشاريع الإقليمية الأخرى، يجري النهر حالياً مع نسبة ملوحة عالية وجودة متدهورة بتدفق 200 مليون متر مكعب. كما ألقى الإسرائيليون مياه الصرف الصحي في النهر، وحوّلوا مياه الينابيع المالحة إليه، ما لوّث مياه النهر على طول الضفة الغربية.
ويستهلك الإسرائيليون حالياً نحو 82 في المئة من الإنتاج السنوي الآمن من أحواض المياه الجوفية لتلبية 25 في المئة من احتياجاتهم من المياه، في حين يمثّل استهلاك المياه للفلسطينيين المقيمين في الضفة الغربية نحو 17 في المئة من الإنتاج السنوي الآمن. كما منعت "إسرائيل" إنشاء البنية التحتية للمياه والصرف الصحي وصيانتها في الضفة الغربية، من خلال ممارسة حق الفيتو عبر لجنة المياه المشتركة، التي أُسندت إليها مهمة الموافقة على جميع مشاريع المياه والصرف الصحي في الضفة الغربية.
وفي الضفة الغربية، توزع شركة مكوروت 110 ملايين متر مكعب سنوياً على 1.5 مليون فلسطيني و30 مليون متر مكعب على 140 ألفاً من المستوطنين الإسرائيليين، في حين تحوّل 460 مليون متر مكعب إلى" إسرائيل". ويتدهور أداء المرافق المتواضع بامتياز مع متوسط فقد للمياه يبلغ 34 في المئة. ويبيّن أداء مصلحة مياه القدس، وهي الجهة التي تخدم منطقة رام الله ومنطقة البيرة ومجتمعات شرقي القدس، أنه في ظل الظروف المناسبة يمكن للتشغيل الفلسطيني أن يكون فعالاً. وبالنسبة إلى معظم المرافق الأخرى، فإن ندرة المياه، والبنية التحتية المتهالكة، والمشكلات الأمنية وانعدام استقلالية المؤسسات ونقص القدرات، إضافة إلى قاعدة المستهلكين الفقراء والساخطين، قد أدّت كلها إلى سوء الخدمات الشديد وصعوبات مالية. وقد أدى اعتماد مرافق المياه المتزايد على مكوروت إلى خضوعها للقرارات والتدخلات الإسرائيلية، وربما تعرّضها لمخاطر تجارية ولتكاليف متزايدة. وهناك حاجة قوية إلى التخطيط المتكامل لموارد المياه وخدماتها على المستوى المحلي.
وقد قيّدت السياسات والممارسات المذكورة قدرة السلطات الفلسطينية على توفير الخدمات الملائمة للسكان الفلسطينيين، وفي بعض الحالات، منعت المنظمات الإنسانية من تقديم العون والمساعدة للجماعات المستضعفة. وبوصفها السلطة القائمة بالاحتلال، فإن "إسرائيل" هي المسؤول الأول عن حياة السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية، وهي المُلزمة بتسهيل عمل السلطات الفلسطينية في المناطق المسؤولة عنها، بما يشمل توفير المياه وخدمات الصرف الصحي.
لا يمكن لسلطة المياه الفلسطينية تنفيذ أي إدارة متكاملة لموارد المياه في الضفة الغربية في إطار الحوكمة الحالي. فنظام الحوكمة المنشأ بموجب المادة 40 من اتفاقية أوسلو- 2 يتطلب موافقة السلطات الإسرائيلية على أي مشروع يُقترح داخل الضفة الغربية. وتعطي هذه الترتيبات السلطات الإسرائيلية السيطرة على تخصيص موارد مياه الضفة الغربية وإدارتها. وتعزز هذه السيطرة هيمنة "إسرائيل" على الأراضي في المنطقة ج التي تمثل 60 في المئة من الضفة الغربية، الأمر الذي يجعل التخطيط المتكامل وإدارة الموارد المائية مستحيلين من الناحية العملية. وعلى الرغم من الطلب المتزايد من المستهلكين الفلسطينيين، فقد استخدمت هيئة المياه الإسرائيلية دورها التنظيمي لمنع الفلسطينيين من حفر الآبار في الحوض الغربي، مع زيادة استخراجها هي من طبقة المياه الجوفية لما هو أعلى من المستويات المتفق عليها.
الهيمنة الإسرائيلية على المياه العربية لاستكمال احتياجاتها المائية على حساب العرب تبدو أمراً أنانياً، وقد تكون لها تبعاتها في المستقبل القريب مع زيادة الشحّ المائي في البلدان العربية.