شرعيّة الوجود الروسيّ في سوريا من وجهة نظر القانون الدّولي العام
إنّ مفهوم الاحتلال، بحسب قواعد القانون الدولي العام، ينصرف إلى اعتبار أرض الدولة محتلةً حين تكون تحت السلطة الفعلية لجيش العدو.
أثار تنديدُ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتواجد القوات الأجنبية على الأراضي السورية ردّ فعلٍ لدى بعض المواقع الإخبارية العربية والتركية التي بادرت إلى استنكار هذا التنديد، متهمةً إياه بتجاهل وضعية القوات الروسية في سوريا كـ"قوة احتلال".
كما نعلم، إنَّ الوجود الروسي ليس وليد ظرف معيّن أملته رياح "الربيع العربي"، بل يعود إلى الحقبة السوفياتية، وخصوصاً بعد وصول الرئيس السوري أحمد حافظ الأسد إلى سدّة الحكم في سوريا في العام 1970، إثر الثورة التصحيحية التي قادها، والتي أفضت إلى عزل الرئيس السوري الراحل الفريق أمين الحافظ عن السلطة.
لقد كان لتلاقي المصالح بين الجانبين السوري والسوفياتي أثرٌ في هذا التواجد، لأنَّ سوريا خرجت من حرب حزيران/يونيو 1967 منهزمة، وفقدت في إثرها هضبة الجولان لمصلحة العدو الصهيوني، وكانت تحتاج إلى الاتحاد السوفياتي لإعادة بناء قواتها المسلحة وتدريبها وتسليحها من جديد، بينما كان الاتحاد السوفياتي السابق يحتاج إلى موطئ قدم له في المياه الدافئة (البحر الأبيض المتوسط).
وفي العام 1971، تم توقيع أول اتفاقية لإنشاء قاعدةٍ بحريةٍ في ميناء طرطوس، وكان الهدف منها إصلاح سفن السرب الخامس التابع لقوات البحرية السوفياتية وتزويدها بالوقود والإمدادات، ولكن مع انهيار الاتحاد السوفياتي، تم وقف العمل بهذه القاعدة حتى العام 2008. حينها، وافق الرئيس السوري بشار الأسد - إثر لقائه الرئيس الروسي آنذاك ديميتري ميدفيديف - على إعادة بناء هذه القاعدة من جديد، لتكون مركزاً للقوات البحرية الروسية.
ولأنَّ روسيا هي وريثة الاتحاد السوفياتي السابق الذي كان مرتبطاً بعدة معاهدات، منها معاهدة "الصداقة والتعاون" المبرمة مع سوريا في العام 1980، وكذلك معاهدة 1983 التي تسمح بدخول السفن وسفن الإمداد السوفياتية إلى المياه الإقليمية السورية وتشييد مركز لوجستيكي في ميناء طرطوس، فإنَّ آثار هذه الاتفاقيات امتدت إلى روسيا للسبب الذي أشير إليه سابقاً. زد على ذلك الاتفاقيات الجديدة المتعلقة بالتعاون العسكري بين روسيا وسوريا، وتأجير روسيا مؤخراً ميناء طرطوس لمدة 49 سنة.
بعد اندلاع الأزمة السوريّة، طلبت الحكومة السورية من روسيا التدخل العسكري، إذ باشر الطيران الروسي بقصف قواعد المتشددين وتقديم الاستشارة الميدانية للجيش السوري، ما سمح للأخير باسترجاع حوالى 90% من الأراضي السورية.
إنّ مفهوم الاحتلال، بحسب قواعد القانون الدولي العام، ينصرف إلى اعتبار أرض الدولة محتلةً حين تكون تحت السلطة الفعلية لجيش العدو. ولا يشمل الاحتلال سوى الأراضي التي يمكن أن تمارس فيها هذه السلطة بعد قيامها، كما حدّدته اتفاقية لاهاي للعام 1907، في حين نصت المادة الثانية المشتركة من اتفاقيات جنيف الأربع للعام 1949 على أنّ "هذه الاتفاقيات تسري على أيّ أرض يتم احتلالها أثناء عمليات عدائيةٍ دوليةٍ، كما تسري في الحالات التي لا يواجه فيها احتلال أرض دولة ما أيّ مقاومة مسلّحة".
يُفْهَمُ من نصّ المادتين أنّ مضامينهما لا تنطبق على الحالة الروسية، أولاً لكون الأراضي السورية لا تخضع للسلطة الفعلية لروسيا، كما يحاول البعض أن يروج، وثانياً لأن روسيا لم تقم بعمليات عدائية ضد سوريا، ولكن وجودها جاء بطلب من الحكومة السورية، كما أسلفنا سابقاً، وثالثاً لأن الاتفاقيات تمت وفقاً لقواعد القانون الدولي العام وأحكامه.
قد يجادل البعض - استناداً إلى آراء بعض فقهاء القانون الدولي - في كون طلب التدخل الذي قامت به القيادة السورية غير مُؤَسَّسٍ قانوناً، لأنه يخالف القانون الدولي، ويقمع تطلع الشعب السوري إلى تقرير مصيره واختيار السلطة التي يرتضيها، ما يفرغ الحكومة من شرعية وجودها، فهناك اتجاه آخر يناقض ما ذهب إليه هؤلاء الفقهاء، ومن بينهم "الفقيه كونديك" الذي أجاز مبدأ التدخل إذا كان بناءً على طلبٍ، شرط أن يأتي من طرف الحكومة الفعلية.
وإذا كان تواجد تركيا في شمال سوريا يأتي ضمن تفاهمات سوتشي بين الرئيسين إردوغان وبوتين، فهذا لا ينفي عنها كونها "دولة" احتلال، إذا سلّمنا بمنطق القانون الدولي، فقد انتهكت حرمة الأراضي السورية، ودعمت الإرهابيين الذين وفدوا من كل أصقاع الأرض، وأمدتهم بكل الوسائل المادية واللوجيستية والاستخبارية، بدعوى نصرة الشعب السوري.
ولم تكتفِ بذلك، بل قامت بعمليات نهب وسرقة لمقدرات الشعب السوري، من نفطٍ وآلياتٍ صناعيةٍ وتحفٍ أثريةٍ تشهد على عراقة هذا البلد، وقس على ذلك الاحتلال الأميركي لشمال شرق سوريا وما قام به من نهب تحت ذريعة حماية الكرد.
من هنا، يتضح أن الاتفاقيات المبرمة بين سوريا وروسيا تمت في إطار القانون الدولي العام الذي يسمح بمثل هذه الاتفاقيات، بصرف النظر عن نيات روسيا المعلنة وغير المعلنة. أما الحديث عن قوات احتلال روسية، فهو قول يفتقد إلى الدقة، للاعتبارات التي أسلفنا ذكرها.
في الختام، إن الوجود الروسي وقبله السوفياتي كان، ولا يزال، لدواعٍ استراتيجية وحيوية بالنسبة إليهما، ولتلاقي المصالح مع الحكومة السورية، سواء في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد أو الرئيس الابن بشار الأسد. وقد تم في إطار القانون الدولي العام. وإذا ما قورن التواجد والتدخل العسكري الروسي في سوريا بالتواجد الأميركي والتركي في الشمال السوري، فإنَّ هذا الأخير يبقى احتلالاً، أياً كانت المبررات والمسوغات التي تساق له.