سوريا وتركيا ومستقبل حاكمية الجغرافيا والتاريخ (2)
الثقافة التركية تعتبر الشمال السوري كله جزءاً من الأراضي التركية. بدأت أولى خطوات تركيا مع ضم لواء إسكندرون عام 1939، وتتابعت مع احتلال الجيش التركي أجزاء من شمال سوريا.
لم تنتهِ ارتدادات عاصفة تصريحات وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو عن إمكانية التعاون مع سوريا في مكافحة "الإرهاب"، حتى بادرت القوات التركية إلى قصف مواقع الجيش السوري في الشمال، والتسبّب باستشهاد 3 جنود سوريين وجرح 6 آخرين، ما أثار أسئلة أساسية عن إمكانية التلاقي بين البلدين، وتجاوز ما تسببت به الحرب على سوريا، وخصوصاً في ظل الصمت الرسمي السوري حتى الآن.
أسئلة التاريخ التي تفرض نفسها، والتي ما زالت تُلقي بظلالها على العلاقات بين الترك والعرب عامةً، وعلى السوريين بشكل خاص، لم تبدأ مع تفكّك الإمبراطورية العثمانية التي استندت في شرعية وجودها إلى عامل الإسلام، بل سبقتها مع ظهور حزب "تركيا الفتاة"، بقيادة أنور وطلعت وجمال "باشا"، مع نهايات القرن التاسع عشر، وغلبة الطابع القومي الشوفيني عليها، ما أحدث ارتداداً ذا صبغة قومية في بلاد الشام، بعنوان اليقظة القومية العربية.
ترتب على ذلك بعد انهيار الدولة العثمانية ردود أفعال ممنهجة سيطرت عليها ثقافة تخوين العرب بانزياحهم مع بريطانيا ومساهمتهم في إسقاطها. في المقابل، كانت الثقافة القومية العربية الجديدة تُحَمِّل الإمبراطورية العثمانية المسؤولية عن عصر الظلمات الذي لم يبدأ مع الغزو العثماني، بل سبقه بقرون.
لم تتوقف انعكاسات ثقافة الكراهية بين البلدين على المرحلة السابقة، بل عادت من جديد بعد انبعاث العثمانية الجديدة على يد حزب العدالة والتنمية بقيادة الرئيس إردوغان، والتدخل الكارثي في الحرب على سوريا، كفرصة لاستثمار التكليف الغربي في إدارة هذه الحرب، وتحقيق حلم العودة إلى الحالة الإمبراطورية بسلطان جديد، ما تسبّب بانقسام مجتمعي سوري عميق وواسع، نتيجة الرهانات الهوياتية المتعددة وحدّة الاستقطاب السياسي في البلدين، وليس في سوريا وحدها.
أسئلة الجغرافيا؟ لا، البلدان ينظران إلى الواقع الجغرافي القائم بينهما من زاوية الرؤية التاريخية المستندة إلى التصور القومي، وخصوصاً المناطق المتداخلة سكانياً، من العرب والترك والكرد وغيرهم من القوميات، والتي يستحيل تمييز الحدود الفاصلة فيما بينها، فالثقافة السورية المترسخة تعدّ جزءاً كبيراً من هضبة الأناضول امتداداً طبيعياً لسوريا الطبيعية، ولكن من دون فعاليات سياسية للعمل على ذلك.
أما الثقافة التركية وتوجهاتها السياسية الفاعلة كهدف نهائي، فإنها تعدّ الشمال السوري كله جزءاً من الأراضي التركية. بدأت أولى خطواتها مع ضمّ لواء إسكندرون عام 1939، وتتابعت مع احتلال الجيش التركي أجزاء واسعة من الشمال السوري بثلاث مراحل، بدأت باجتياح جرابلس عام 2016، وهي تنتظر الظروف الدولية لاجتياح بقية المناطق.
لن تتوقف الأسئلة عند هذه الحدود، فقد تنوعت وتعددت كعقبات يجب تجاوزها نحو الحل وإقرار السلام اللازم لإحداث التنمية، وهي لا تتوقف على بلد واحد، إنما على البلدين معاً، رغم أنَّ المسؤولية التركية أكبر بكثير من المسؤولية السورية، وهي أسئلة نتجت من تداعيات الحرب على سوريا، فهناك تباين واضح وصريح في أهداف البلدين.
السؤال الأول يتعلّق بتعريف الإرهاب، فأنقرة تعمل على حصر تعريف الإرهاب بحزب الاتحاد الديمقراطي "الأوجلاني"، وضرورة استئصاله، واستبدال المجلس الوطني الكردي الموالي لها ولأربيل به، فيما الجماعات الإسلامية المتطرفة في إدلب وبقية الشمال السوري هي معارضة "معتدلة"، على عكس رؤية دمشق التي تنظر إلى الأوجلانيين كحزب انفصالي، وسياستها تعمل على تفكيك تجربتهم "الإدارة الذاتية" واستعادتهم كسوريين كرد، فيما تختلف نظرتها كلياً إلى الجماعات الإسلامية التي تدعمها تركيا، وتعتبرها تهديداً دائماً لبنية الدولة السورية واستقرارها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
السؤال الثاني الّذي يحتاج إلى الإجابة هو التباين في الرؤية إلى المستقبل السياسي لسوريا التي تعدّ الطرف الأضعف في المعادلة حتى الآن، فأنقرة تنظر إلى الحل السياسي بعدما فشلت في السيطرة على دمشق بالكيفية التي تعزز نفوذها داخل سوريا، وكيف تصبح صاحبة الدور الأساسي في رسم مسارات مستقبلها، وهي تراهن على قبول كل من روسيا وإيران بذلك، بعدما حصلت على عدم ممانعة أميركية لإنشاء إدارات ذاتية في الشمال السوري تكون مرتهنة لسياسات أنقرة، إضافة إلى السعي لعودة النظام البرلماني الذي يُتيح لها التحكم في القرارات السياسة والاقتصادية، وإشراك المعارضة الموالية لها في السلطة.
أما سياسة دمشق، فهي تعمل على العودة إلى ما قبل 2011، والإبقاء على المركزية الشديدة، والحل السياسي يعني المصالحة مع المعارضة كأفراد، وليس كأحزاب وتيارات وقوى، وهذا أقصى ما يمكن أن تقدمه.
السؤال الثالث يتعلق بمصير اللاجئين السوريين، فأنقرة تعتبرهم الركيزة الأساسية لها في سوريا القادمة، وهؤلاء يمكنهم أن يحققوا 3 أهداف أساسية، أولها التغيير الديموغرافي في الشمال السوري، وتوطينهم بدلاً من الكرد بحجة "المناطق الآمنة"، وثانيها، في حال نجاحها في ذلك، فإنها تكون قد حققت الخطوة الأولى لضم هذه المناطق إلى تركيا بعد سياسات التتريك الواسعة التي تقوم بها، وثالثها تشكيل كتلة وازنة ذات نفوذ اقتصادي وسياسي مؤثر في الحياة السورية.
ترى دمشق أن عودة اللاجئين المرتبطين بالجماعات المسلحة تشكل تهديداً أمنياً وسياسياً للبنية السياسية السورية الحالية، كما أنّ العودة الكثيفة للاجئين بشكل عام تشكل عبئاً كبيراً لا يمكن تجاوزه في ظل دورة اقتصادية طبيعية مُعطلة، ونقص الموارد والأموال، وتغييب إعادة الإعمار والبناء، وغياب التوافق الدولي على إيقاف الحرب، رغم إدراكها أن هؤلاء اللاجئين لا يفكرون في العودة الآن بفعل فقدان مقومات الحياة الأساسية.
السؤال الرابع يتعلق باختلاف أولويات أنقرة ودمشق، فالأولى يمكنها القبول بالمصالحة بين العاصمتين، ولكن بالشروط التركية التي تثبّت الوقائع على الأرض كما هي، وأن على دمشق أن تقبل باستمرارها، والموافقة على "منطقة آمنة" في كل الشمال السوري تحت النفوذ التركي، وهذا ما حملته الرسالة التركية بقصف النقاط السورية وقتل جنود سوريين عمداً.
من جهتها، ترى دمشق أن المصالحة ممكنة إذا ما تخلَّت تركيا عن احتلالها الشمال السوري، وفككت الجماعات الإرهابية التي تدعمها في إدلب، وهي تنتظر مؤشراً أولياً بتنفيذ اتفاق 5 آذار/مارس 2020 في سوتشي بين الرئيسين بوتين وإردوغان، والانسحاب إلى شمال طريق M4، وفتح الطريق بين حلب واللاذقية.
هذه الأسئلة جعلت الصمت يخيم على القرار الرسمي السوري، لترقب نتائج المساعي والضغوط الروسية الإيرانية على الرئيس إردوغان، وتبيان استحالة الرهان على وعوده بالانتقال نحو عودة العلاقات الطبيعية بين البلدين.
لا شكّ في أن المصالحة السورية التركية ستأتي، ولكنها تحتاج إلى الإجابة المتوافقة بين البلدين في الدرجة الأولى، وهي تتطلب من الرئيس التركي والنخب التركية التعاطي مع الواقع الدولي والإقليمي الجديد من خارج مشاريع التوسع والسيطرة الخشنتين، والانتقال نحو تفكير جديد مبني على التعاون الإقليمي من مبدأ رابح-رابح.
كما تتطلّب من دمشق إعادة التفكير في كيفية بناء الداخل السوري بمشروع وطني جديد يُنهي انقسام السوريين ويستطيع استقطابهم لتحقيق التوازن الإقليمي الذي يعيد لسوريا دورها الإقليمي الحامي لها، والمعوقات التاريخية بين البلدين يمكن تجاوزها بسهولة، كما أثبتت تجربة العلاقة بين البلدين بين عامي 2003 و2011، في حال توفرت الإرادات السياسية لدى الطرفين، ضمن بيئة إقليمية ودولية جديدة مبنية على التعاون، وليس الحروب، بعدما عجز العرب عن بناء مشروعهم الخاص الذي يحتاج إلى زمن طويل لظهوره لن تنتظره المتغيرات المتسارعة، ولا يمكن لسوريا أن تنتظره وهي تريد الخروج من كارثتها.