سوريا والمشرق.. لعنة الجغرافيا أم دُرتها؟ (1-3)
على الرغم من سيطرة الثقافة العربية على المجموع العام للسوريين، فإن الحرب في سوريا كشفت أن المجتمع السوري ينضوي على تكوينات اجتماعية مختلفة بحاجة إلى هوية جامعة.
أثارت الحرب المدمرة في سوريا، وما ترتّب عليها من أحداث بتقلباتها، وما استتبعها من تحولات في المواقف الإقليمية، وخصوصاً بعد خطوات التقارب السوري التركي، الكثير من الأسئلة، ما دفع العديد من السوريين إلى إعادة التفكير بما كانوا يعتبرونه من مسلمات في حياتهم الاعتيادية، بإعادة قراءة الجغرافيا السياسية لسوريا، بتمثيل لكلمة شارل ديغول: "إذا أردت أن تفهم السياسة، فعليك أن تَبسُط الخريطة، ولتعلم بأن التاريخ هو ظِلٌ للجغرافيا".
لم تكن سوريا كدولة حديثة بهذه الجغرافيا المعروفة، فهي ككيان سياسي بالحدود المعترف بها دولياً، لا يتجاوز عمره 100 عام ونيفاً، بعد تفكيك وانهيار الإمبراطورية العثمانية على يد البريطانيين بشكل أساسي، وبشراكة الفرنسيين الذين تقاسموا حصص الرجل المريض، الذي أخَّروا انهياره أكثر من 50 عاماً.
أدّت الجغرافيا دوراً أساسياً في رسم أقدار قاطني جغرافيا بلاد الشام، التي تمتد من ماردين، أعلى الجزيرة الفراتية وجبال طوروس من الشمال، إلى مدينة العريش جنوباً، وفقاً للجغرافيين العرب، أمثال الإدريسي، والشيخ العز بن عبد السلام، ومن شرق المتوسط إلى كل المناطق التي تقع غرب ضفة نهر الفرات، فيما كانت تسمى المناطق التي تقع شرق النهر بالعراق.
كان لهذه الجغرافيا التي تُعتبر الأكثر أهمية في العالم القديم، لوقوعها على ملتقى القارات الثلاث، والتي تعتبر جزيرة العالم وفقاً لماكندر، دور أساسي في تحديد معالم الحياة السياسية والحضارية، بتأثيرها في السلوك السياسي والحضاري لسكان بلاد الشام، فهي منطقة موغلة في القدم وسكنها الإنسان الأول، وفيها نشأت المعارف البشرية الأولى، ويعزى اكتشاف الزراعة إلى المناطق الفراتية في الألفية العاشرة قبل الميلاد.
وأدّت الواجهة البحرية لبلاد الشام شرق المتوسط دوراً أساسياً في وجود كنعاني الساحل في بناء دول فريدة في ذلك الزمن، بما يسمى دولة المدينة City stat، كشكل من أشكال ما قبل الدولة الحديثة، بحدود معترف عليها بقوانين ومعاهدات فيما بينها، بحكم اهتمامها بالاقتصاد التجاري، في كامل حوض البحر الأبيض المتوسط، واعتمدت هذه الدول "المدينية" على توسعها، باستخدام القدرة الاقتصادية لترويج البضائع ونقلها فيما بينها وبين العالم المتوسطي، فبنت ما يشبه المستوطنات على شواطئ المتوسط، بقصد التجارة وليس السيطرة ونهب خيرات الشعوب.
كما أن هذا الأمر ينطبق على بقية مناطق بلاد الشام في الداخل، حيث تسيطر الأراضي السهلية على كامل الجغرافيا السورية، شرق الجبال الساحلية وسلسلة جبال القلمون، التي تُسهل حركة الجيوش التي اجتاحتها، وإتاحة السيطرة على الممالك التي بنت جيوشاً بقصد حماية اقتصادها التجاري، وليس بقصد التوسع نحو إقامة إمبراطوريات مركزية واسعة، مما جعلها سهلة الاجتياح من قبل الإمبراطوريات ذات الطابع المركزي، في هضبة الأناضول والهضبة الإيرانية ووادي النيل، وهي في الأساس مناطق جغرافية صعبة التضاريس، تساهم في صياغة الشخصية الإنسانية القوية الطامحة، خاصةً في الشرق والشمال منها، التي تسعى إلى التمدد نحو المناطق السهلية الخصبة وافرة المياه، والوصول إلى شرق المتوسط، بما يتيح أقصى مكاسب اقتصادية للدول المتشاطئة في البحر المتوسط.
هذا الأمر حوّل بلاد الشام ومعها العراق إلى ساحة لصراع الإمبراطوريات والحضارات المتعاقبة، والتي بدأت مع الإمبراطورية الإخمينية عام 572 ق م، ثم الإغريقية والساسانية والرومانية والبيزنطية والأموية والعباسية والبويهية والسلجوقية والعثمانية والصفوية، ثم البريطانية والفرنسية، ما جعل بلاد الشام خاصة ذات بنية سياسية واجتماعية خاصة بها، بفعل غياب الدولة المركزية خلال أكثر من 5 آلاف عام، وتحوّلها إلى جزء من إمبراطورية، أو ساحة صراع للإمبراطوريات، وهي التي تؤدي دور المفتاح لنجاح أي إمبراطورية في تحقيق نفسها بتوسعها عبر البوابة الشامية في مركز العالم القديم، حيث المهد الأول للحضارات والإمبراطوريات، على مدى 5 آلاف عام.
انعكست على هذه الجغرافيا المفتاحية آثار تداول الإمبراطوريات عليها، ما جعلهاً مركزاً لتراكم الحضارات بتجاربها المشتركة، بفعل الهضم والتمثيل، بما ساهم في بناء شخصية خاصة فيها تتميز عن محيطها، باجتماع خلاصة التجارب الحضارية، وجعلت منها شخصية قادرة على التكيف مع مختلف الظروف والضغوط، إضافةً إلى قدرتها على الإبداع في كل المجالات، على المستويات السياسية والعلمية والقانونية والفنية، فتسنّم عدد منهم مركز الإمبراطورية الرومانية، منهم فيليب العربي من حوران، وجوليا دومنا من حمص، والملكة زنوبيا التدمرية، التي هددت وجود الدولة الرومانية. كما كان لبابنيان الدور المبدع في تأسيس أول قانون حقوقي في العالم للدولة الرومانية عام 142م، وهو الذي درس في المدرسة الحقوقية في بيروت.
الأسماء التي ذُكرت في كل التاريخ لا يمكن ذكرها في هذه العُجالة، ولَم يتوقف إبداعهم وتكيفهم حتى هذه اللحظة، وخاصةً بعد الكارثة السورية التي دفعت بثلثهم في أرجاء الأرض، فأثبتوا قدرتهم الكبيرة على التكيف بسرعة، والانسجام مع المجتمعات التي هاجروا إليها، وربما تكون تجربتهم في مصر التي احتضنتهم خير مثال على ذلك.
هذا البعد الجغرافي التاريخي هو ما كان له التأثير على بنية المجتمع السوري مما تبقى من سوريا الكبرى، التي تعرضت بحكم موقعها الجغرافي، إلى موجة نزوح سكانية متبدلة ومتغيرة، تبعاً للإمبراطورية الغالبة، وتبعاً للدين أو المذهب الذي تتبناه، ما جعل من المجتمع السوري، كما العراقي، مجتمعاً شديد التنوع والتعقيد، بما يتجاوز 18 هوية إثنية ودينية ومذهبية، بشكل متداخل، لا يتيح المجال لأي منها إمكانية الانفصال عن محيطها.
وعلى الرغم من سيطرة الثقافة العربية على المجموع العام للسوريين، فإن الحرب في سوريا كشفت أن المجتمع السوري ينضوي على تكوينات اجتماعية مختلفة بحاجة إلى هوية جامعة، فعلى المستوى الإثني هناك العرب والتركمان والكرد والأرمن والداغستانيون والشيشان والألبان والسريان والأشوريون، وعلى المستوى الديني هناك المسلمون والمسيحيون والإيزيديون واليهود الذين تعرضوا لخدعة الهجرة إلى الكيان.
هذه الأديان تنقسم بدورها إلى مذاهب وطوائف، فالمسلمون انقسموا إلى سنة (من أصحاب المذاهب الأربعة والمتصوفين والسلفيين)، وشيعة (علويين وإسماعيليين واثني عشرية وموحدين)، والمسيحيون انقسموا إلى أكثر من 14 فرعاً بين الإثنيات والمذاهب. وعلى مستوى القبائل والعشائر العربية والكردية، هناك تكوينات لا تعد، على شاكلة شمَّر الآتية من نجد في الجزيرة العربية، وهناك طي والموالي وبني خالد والجبور والبگارة، وغيرها من القبائل والعشائر، حتى إن البُنية الاجتماعية للمدن السورية تحمل تبايناً فيما بينها، تبعاً لتاريخها ولطبيعة التكوينات القاطنة فيها.