سموتريتش والمناطق العازلة في الضفة.. هل يفعلها الكيان الإسرائيلي؟

يستبيح الاحتلال الضفة الغربية منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، عبر أسلوب القتل البطيء أو الصامت، بالاغتيالات والتوغلات والاعتقالات، في مراهنة خاسرة على قضم الضفة في أقل مكتسباته.

  • وزير المالية الإسرائيلية بتسلإيل سموتريتش.
    وزير المالية الإسرائيلية بتسلإيل سموتريتش.

عميقة عقلية الجُدُر في النفسية الإسرائيلية، وهي انعكاس للشعور الدائم بالعزلة عن المحيط، منذ خيبر وعزلتها كقلاع حصينة في قلب صحراء الحجاز، مروراً بأحياء الغيتو الاجتماعي والجغرافي المغلق يهودياً في أوروبا، حتى أول مستعمرة صهيونية في قلب فلسطين.

اعتاد الإسرائيلي العيش في ظل جزر صحراوية، وسبق أن لاحظ نجاح فرسان الهيكل البروتستانت، في مستهل النصف الثاني من القرن التاسع عشر، في إقامة سبع مستعمرات ألمانية، كانت أُولاها قرب حيفا، في ظل الدولة العثمانية، وهو ما حفّزه على التأسّي بها، بعد أن لمح نجاحها في العزلة عن الوسط العربي، فاستلهم عزلتها ليقيم لاحقاً أولى مستوطناته في بتاح تكفا وريشون لتسيون وروش بين وزخرون يعقوب، وغير ذلك، قبل المؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897.

ولأنهم "شعب الله المختار"، وليس أيّ بشرٍ ممن خُلق، فلا يجوز لهم الاختلاط بالشعوب والأعراق الدونية. وأعمق ما يظهر هذا الحمق النفسي، عند وزير المالية الإسرائيلية، بتسلإيل سموتريتش، وهو زعيم الصهيونية الدينية، الحزب الأكثر تطرفاً في الكيان الإسرائيلي، وهو يلحّ على رئيس حكومة الكيان، بيبي نتنياهو، مطالباً بإقامة مناطق عازلة حول مستوطنات الضفة الغربية، والذي بدوره أحال المقترح على الفحص الرسمي.

يأتي مقترح سموتريتش هذا بشأن إقامة مناطق عازلة حول مستوطنات الضفة، في ظل محرقة وحشية يشنها الكيان ضد غزة، ويهدف من خلالها إلى تحقيق عدة أهداف، أحدها إقامة منطقة عازلة شمالي غزة، على حساب الوجود العمراني لبلدتي بيت لاهيا وبيت حانون، واللتين تخضعان حالياً لاحتلال الدبابات الإسرائيلية، في ظل التحام ميداني مباشر بالمقاومة فيهما طوال الوقت.

وسبق لسموتريتش أن طالب بإحراق بلدة حوارة الفلسطينية، بعد تكرر العمليات الفدائية فيها، وهو ما ترجمه أتباعه بإحراق الشارع الرئيس في البلدة، ليأتي اليوم في مقترحه بشأن إقامة مناطق عازلة حول المستوطنات، وتسلّح بجملة من العوامل المواتية:

أولها: تذرعه بالعامل الأمني مستدلاً بعبور السابع من أكتوبر، في مستوطنات غلاف غزة. فلو كان هناك مناطق عازلة بحسب زعمه، لما نجح هجوم الطوفان، متناسياً أن غزة مخنوقة بجدر شاهقة ومنغرزة في عمق الأرض، وأسلاك شائكة على امتداد مسافات ومساحات واسعة، بالإضافة إلى أن عبور المقاومة امتد حتى جنوبي عسقلان.

ثانيها: تأكيده خطورة موسم قطف الزيتون عند الفلسطينيين، انطلاقاً من أن الأراضي الفلسطينية محاذية للمستوطنات، متناسياً أن هذه المحاذاة نتجت في الأصل من تغول الاستيطان على حساب القرى الفلسطينية.

ثالثاً: التأييد الغربي الواسع للحرب الإسرائيلية على غزة، في ظل ضعف السلطة الفلسطينية في الضفة وهشاشتها، مع التواطؤ العربي الرسمي. وهو ما شجع سموتريتش على استغلال هذه اللحظة التاريخية الفارقة، لتوسيع الحرب على الضفة، وهو ما ابتدأه كابينت الكيان بتوسيع العمليات الأمنية في الضفة بموازاة المحرقة في غزة.

ويبدو سموتريتش هنا تعجل في التعبير عن شهيته الاستيطانية، فما زالت الحرب في أوارها، على رغم التأييد الغربي والتواطؤ العربي والتقدم الهش للدبابات الإسرائيلية في شمالي غزة، فما زالت المقاومة تقاتل بشراسة، وهي تحتفظ بأسرارها وقدراتها الصاروخية، مع ضبط إيقاع ميداني لافت.

كما أن سموتريتش عجز، قبل طوفان الأقصى، عن تطبيق خططه الاستيطانية، التي صادقت عليها حكومته، لإقامة 4500 وحدة استيطانية جديدة، وزوّدته بتسهيلات قانونية جذرية، وأحالت كامل الملف على سلطاته المطلقة، انطلاقاً من أنه مسؤول عن ملف الضفة الغربية في وزارة الحرب، لكن مواجهات شمالي الضفة في جنين وطولكرم ونابلس، وتردداتها في كامل الضفة والقدس وغزة، أربكت خطط الكيان بالشأن الاستيطاني، على نحو جعله يتعثر.

يأتي مقترح سموتريتش هذا، ليس لتوفير الأمن لمستوطني الضفة، بحسب ظاهر زعمه، ولا لضم الضفة، بحسب تخوفات السلطة الفلسطينية، على رغم احتماليته الواسعة حتى في ظل الحرب الراهنة، لكن سموتريتش يستغل حالة الغلوّ والتوحش وعدم الاتزان التي تسيطر على الكيان الإسرائيلي، من أجل القضاء على الوجود الفلسطيني في الضفة، بصورة كليةّ، في موازاة حرب الإبادة في غزة.

إقامة مناطق عازلة حول مستوطنات الضفة تحمل في أحشائها تغييراً شاملاً للخريطتين السياسية والديمغرافية، وهي مع غيرها تمثل معوّقات حقيقية لهذا المشروع، على رغم الجوّ الملائم على خلفية الحرب المستعرة، انطلاقاً من أن إقامتها تعني:

أولاً: تجزئة كاملة للضفة لتصبح كانتونات منفصلة، من دون أدنى تواصل جغرافي، حتى داخل منطقة واحدة، مثل الخليل أو بيت لحم أو نابلس، على نحو يفوق جنون صفقة القرن التي طرحها ترامب، والتي ماتت في أرضها حتى عند أهلها.

ثانياً: القضاء على بدهية الحل السياسي، الذي تتنفس منه السلطة وأجهزتها، كما أنظمة التطبيع. وهو حل لن يبقى له مع مقترح سموتريتش أدنى فرصة، حتى في المستوى الاقتصادي المحلي، وربما الإقليمي.

ثالثاً: إقامة "دولة" المستوطنين لتصبح منافسة لـ"تل أبيب" و"غوش دان"، وهو ما يسبب شرخاً بنيوياً في الكيان، على المستويين الأفقي والعمودي، على نحو يهدد نفوذ التيار اليميني الليكودي مع التيار الليبرالي لأحزاب الوسط، فضلاً عن اليسار، ويعطي الصهيونية الدينية سلطة مطلقة في الكيان على حساب كل التيارات.

يستبيح الاحتلال الضفة الغربية منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، عبر أسلوب القتل البطيء أو الصامت، بالاغتيالات والتوغلات والاعتقالات وقمع الأسرى الوحشي، في وقت يلقي أطنان المتفجرات على غزة ليبيد مئات العوائل، بصورة كاملة، في مراهنة خاسرة على قضم الضفة في أقل مكتسباته، وهي الأهم بالنسبة إليه في كل الأحوال، في ظل عجز البحر عن ابتلاع غزة، وفشله في تحييدها السابق عن الصراع، ليحاول اليوم قتلها بالضربة القاضية، أو فصلها عن الخريطة الفلسطينية في كل حال.

لكن الضفة ـ كما غزة ـ تعوّل بدمها النازف كالشلال، على استعصاء أهلها، والقتال حتى الرمق الأخير، وهي تقف على أبواب تحولات، يستشعر فيها الكيان متلازمة الثمانين من سقف عمْرِ كل حقبه التاريخية، بينما هي، كما غزة، تعبُر على أشلاء حاضرها لتبتلع وحشية المحتل، وكل خطط عزل مدنها وأريافها عن وريد تواصل ينابيعها الأصيلة، فلا أرئيل ولا قدوميم يمكنهما أن تعزلا زيتون سلفيت وقلقيلية عن نبض هذا الشعب، وهو اليوم يقرر مصير العالم.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.