سد النهضة.. بين المصالح القطرية والتكامل الثلاثي
من الواضح أن إثيوبيا تمضي في استكمال عملية ملء بحيرة السد وفق خطة أحادية، وتستغل انشغال دولتَي المصب بقضاياهما الداخلية الآنية عن قضاياهما الاستراتيجية.
أكملت إثيوبيا عملية الملء الرابع لبحيرة سد النهضة، من دون حدوث أدنى توافق أو تنسيق مع دولتَي المصبّ السودان ومصر، وقد أكدت خطوات الملء في مراحلها الأربع السابقة، مُضي إثيوبيا في برنامجها الخاص بملء البحيرة وفق تراتيب أحادية الجانب لا تأبه بحقوق دولتَي المصب ومصالحهما ومشاغلهما.
في العاشر من الشهر الجاري، أعلن رئيس وزراء إثيوبيا أن عملية الملء الرابع للسدّ اكتملت بمساعدة الإله، وبفضل وحدة وتعاون الإثيوبيين الذين هنأهم بهذه الخطوة، وشكرهم على مشاركتهم في هذا المشروع بأموالهم وعِلمهم وطاقتهم ودعواتهم..، وأشار إلى أن بلاده تمكنت من تجاوز التحديات الداخلية والضغوطات الخارجية، وقال:" لقد تغلبنا على كل هذه الأمور، وأصبحنا قادرين على الوصول إلى هذه المرحلة"، وحثّ الإثيوبيين على مواصلة دعمهم لمشروع بناء السد حتى اكتماله.
تجدر الإشارة إلى أن عملية الملء الأولى للسد جرت في تموز/ يوليو عام 2020، وخزّنت إثيوبيا خلالها نحو 5 مليارات متر مكعب من المياه، ونفذت في العام التالي عملية الملء الثانية التي خزّنت فيها نحو 13.5 مليار متر مكعب، ثم نفذت عملية الملء الثالثة بتخزين 22 مليار متر مكعب في عام 2022، فيما بلغ حجم التخزين في الملء الرابع نحو 24 مليار متر مكعب.
أدت عمليات ملء السد إلى انخفاض كبير في إيراد المياه الواصلة إلى السودان ومصر، وفي هذا السياق، أكد خبراء أن مصر أجرت تحوطات جيدة خلال السنوات الخمس الماضية، إذ استفادت من الارتفاع المقدر لإيرادات النيلين الأزرق والأبيض والتي تجاوزت المعدلات الطبيعية، وقامت بتخزين المياه الفائضة من إيرادات النيل ومن حصة السودان في السد العالي الذي تبلغ سعته التخزينية 162 مليار متر مكعب، كما وظفت الفائض في سيناء عبر ترعة السلام /ترعة الشيخ زايد، وفي توشكا، وقد حصنت هذه التحوطات مصر من الآثار السالبة لعمليات ملء السد في مراحلها السابقة وفي مراحلها اللاحقة حتى عام 2027 الموعد المحدد من إثيوبيا لإكمال عملية ملء بحيرة السد.
بعد انتهاء عملية الملء الرابعة، عقدت الدول الثلاث إثيوبيا، السودان ومصر اجتماعاً في أديس أبابا الأسبوع الماضي، في إطار الاجتماعات الدورية التي تعقدها هذه الدول من أجل الوصول إلى تفاهمات بشأن القضايا العالقة فيما يخص ملء سد النهضة وتشغيله وفق إعلان المبادئ الموقّع بينها في 23 آذار/مارس 2015، بيد أن هذا الاجتماع قد فشل في تحقيق أي تقدم في هذه القضايا مثلما فشل الاجتماع الذي انعقد في القاهرة في شهر آب/أغسطس 2022، واتفقت الأطراف على عقد اجتماع ثالث في شهر تشرين الأول/ أكتوبر القادم بالقاهرة.
من الواضح أن إثيوبيا تمضي في استكمال عملية ملء بحيرة السد وفق خطة أحادية، وتستغل انشغال دولتَي المصب بقضاياهما الداخلية الآنية عن قضاياهما الاستراتيجية، في الوقت الذي تفتح القضايا الآنية لهاتين الدولتين مجالاً واسعاً للتدخلات الخارجية التي تضعف قدرتهما على تقديم الاستراتيجي على الآني، وتمكّن دولاً إقليمية عربية وغير عربية من تنفيذ الخطط الموكلة لها بإضعاف مصر والسودان ومحاصرتهما، مستغلة ظروف الدولتين الداخلية المتفاقمة في فرض الأجندة والخيارات الخارجية عليهما.
إن فشل الدول الثلاث في اجتماع أديس أبابا الأسبوع الماضي هو تكرار لفشلها في الاجتماعات السابقة التي أعقبت اتفاق إعلان المبادئ، ولا يتوقّع أن يحقق اجتماع القاهرة القادم نجاحاً في ظل الطروحات التقليدية الضيقة المتداولة في هذه الاجتماعات، الأمر الذي يقتضي نظرة جديدة من هذه الدول تحوّل سد النهضة من محنة تباعد بين هذه الدول التي يربط بينها تاريخ طويل من المصالح والروابط المشتركة، إلى منحة تستشرف عبرها الدول الثلاث مستقبلها من خلال شراكات استراتيجية تخاطب حاجات هذه الدول وأزماتها في الحاضر والمستقبل.
ويقتضي ذلك استكمال التفاهم والتوافق بين الدول الثلاث من خلال إضافة مبادئ جديدة إلى اتفاق المبادئ، أولها، تأسيس شراكات استراتيجية بين هذه الدول للاستثمار المشترك في الفرص والمنافع الضخمة التي يوفّرها النيل الأزرق ونهر النيل، وثانيها، التوافق على قواعد ملء السد وتشغيله، وثالثها، عدم فتح ملف إعادة اقتسام المياه أو تقنين ما يعرف بالحقوق التاريخية أو الحقوق المكتسبة، تفادياً للإشكالات الكبيرة المترتبة على ذلك والتي تفتح أبواب الخلافات بين الدول الثلاث، على أن يسبق ذلك تفاهم بين السودان ومصر يعزز مضامين اتفاقية مياه النيل الموقعة بينهما عام 1958، ورابعها التزام الدول الثلاث بعدم تمكين أي طرف رابع من الاستفادة من مياه نهر النيل أو من الفرص الاستثمارية التي يوفرها.
وبهذا، تتحوّل طبيعة العلاقات القائمة بين إثيوبيا والسودان ومصر من حالة الصراع على مصالح قطرية محدودة إلى شراكة إقليمية تعود على الدول بمنافع أكبر من تلك التي تدني وتحدّ من سقوفها وآفاقها النظرة القطرية، وتفتح لهذه الدول آفاقاً عظيمة، وطنياً وإقليمياً ودولياً.
إن قضية المياه ونزاعاتها من أهم القضايا التي يجب خضوعها لمقاربات شاملة وعميقة تتمتع بقدرة فائقة على تجاوز التحديات لتفرض قواعد التعاون والشراكة، خاصة وأن فرض هذه القواعد يمكّن الدول الثلاث من استغلال فرص استثمارية كبيرة تتوفر في نهر النيل وروافده، ويمكن أن تخاطب بشكل مقدر قضايا الأمن الغذائي والنقل والمواصلات والتجارة والسياحة والخدمات.
الأمر الذي يعود على الدول الثلاث بمنافع اقتصادية كبيرة ويسهم في تحقيق الأمن والاستقرار، خاصة وأن مصر وإثيوبيا في أمسّ الحاجة إلى اجتراح رؤى جديدة تعالج تداعيات الانفجار السكاني في هاتين الدولتين في إطار شراكات وتكامل استراتيجي بين الدول الثلاث، وهذا لن يتحقق إلا من خلال حوار جاد يعزز العلاقات التاريخية بين هذه الدول، ويفتح الأفق لمسار مشترك يخاطب حاضرها ومستقبلها المشترك.