ذاكرتي على جبهات أفغانية.. "الطريق إلى وادي بنجشير"
ذاتَ مساء، قلت لمرافقنا الأفغاني حميد أن يجهّز نفسه لأنني أريد أن أزور وادي بنجشير في اليوم التالي، من أجل إجراء تحقيق عن تلك المنطقة. فوجئ حميد بطلبي! وقال لي: لكن الطريق إلى هناك صعبة جداً.
قُيِّض لي أن أزور أفغانستان في عمل صحافي، في الخامس والعشرين من شهر كانون الأول/ديسمبر من عام 2001. وبقيتُ في هذا البلد الذي أحببته، بسبب طيبة أهله وجمال طبيعته، مدةَ شهرين، أمضيت معظم أيامها في العاصمة كابول بعد أن اُخرج منها تنظيم "القاعدة" وحركة "طالبان"، ودخلتها قوات "التحالف الغربي"، الذي قادته الولايات المتحدة، ترافقها الفصائل الأفغانية المناوئة لـ"القاعدة" و"طالبان".
لم يكن عملي الصحافي مقتصراً على كابول آنذاك، بل زرت أيضاً عدداً من المناطق الأفغانية.
كان وادي بنجشير إحدى هذه المناطق التي زرتها، واكتسب آنذاك أهميةً، كما اليوم، بسبب نجاحه في وقف تقدم تنظيم "القاعدة" و"طالبان" وبقائه تحت سيطرة قوات أحمد شاه مسعود، الذي كان تعرّض لعملية اغتيال قبل ذلك بعدة أشهر على أيدي انتحاريَّين اثنَين من "القاعدة". أمّا اليوم، فإن الأضواء مسلّطة عليه بعد أن أعلن نجلُه أحمد مسعود المقاوَمة ضدّ "طالبان".
ذاتَ مساء، قلت لمرافقنا الأفغاني حميد أن يجهّز نفسه لأنني أريد أن أزور وادي بنجشير في اليوم التالي، من أجل إجراء تحقيق عن تلك المنطقة. فوجئ حميد بطلبي! وقال لي: لكن الطريق إلى هناك صعبة جداً. أمامنا أكثر من 130 كيلومتراً، بينها نحو 80 كيلومتراً غير معبَّدة، وبعضها وَعِر وخَطِر، لكني أقنعته لاحقاً بالمشروع، وانطلقنا في صباح اليوم التالي إلى وادي بنجشير.
بات الجميع يعرف أن كلمة "وادي بنجشير" تعني، في اللغة الفارسية، "الاُسود الخمسة"، لكن قلائلَ هم مَن يعرفون لماذا سُمِّي بهذا الاسم. بحسب رواية أبناء المنطقة، فإن القصة تعود إلى القرن العاشر، بحيث تمكّن خمسة إخوة من وضع سد أمام مياه الفيضانات المتدفقة إلى الوادي، في عهد السلطان محمود غزنة، فأُطلق على الإخوة الخمسة لقب "الأُسود الخمسة".
كان الطريق من كابول إلى وادي بنجشير طويلاً وشاقّاً، لكنها كانت رحلة جميلة مَرَرْنا فيها بعشرات القرى المنتشرة على طول النهر، وهي قرى صغيرة، بيوتها مبنية من الطين، وقام أهلها ببناء جسور خشبية بدائية، كي يستطيعوا الوصول إلى قراهم. استمرّ مَسيرنا نحو 3 ساعات قبل أن نصل إلى ممر ضيّق بين جبال شاهقة، هو المدخل الرئيسي إلى الوادي. كان حميد مضطراً إلى أن يسير بسرعة لا تتعدّى 30 كيلومتراً في الساعة بسبب وعورة الطريق وعدم تعبيدها. وعلى طول هذه الطريق، كانت مَشاهد الحرب واضحةً من خلال مئات الآليات المحترقة والمنتشرة هنا وهناك، ومن خلال آلاف المقاتلين الأفغان المناوئين لـ"طالبان"، ومئات الآليات العسكرية السوفياتية التي كانت هي أيضاً موزَّعة على التلال المحيطة. وهي آليات استولى عليها المقاتلون الأفغان خلال الحرب الأفغانية ـ السوفياتية (1979-1989)، قبل أن تقع في أيدي "طالبان" و"القاعدة"، اللذين اضطرّا إلى تركها بعد انسحابهما من هذه المناطق.
عند الممرّ الضيّق طلبتُ من حميد أن يتوقّف قليلاً. كان المكان رهيباً، وهو عبارة عن ممرّ، عرضه لا يتعدى أربعة أمتار، نصفها تحت جرف صخري كبير، وإلى يمينك نهر بنجشير. وفي كِلا الجانبين كانت هناك جبال شاهقة، إلى درجة أنها حجبت ضوء الشمس من الوصول إلى هذا الممرّ. جبال هي جزء من سلسلة جبال هندوكوش، التي شكّلت حامياً طبيعيّاً عرف الطاجيك كيف يستغلّونها ويطوّعونها من أجل وقف كل محاولات التقدُّم العسكرية إلى واديهم.
وعلى الرَّغم من أن مساحة هذه المنطقة لا تتعدّى 3610 كيلومترات مربَّعة، وعدد سكانها 200 ألف نسمة، فإنها نجحت، بفضل طبيعتها وصلابة سكّانها ومقاتليها، في أن تبقى في منأى عن الإمبراطورية البريطانية في أثناء محاولتها غَزْوَ أفغانستان في القرن التاسع عشر، وأن تهزم الجنود الروس في إبّان الغزو السوفياتي للبلاد في ثمانينيات القرن الماضي، بالإضافة إلى مقاتلي "طالبان" الذين استولوا على السلطة في أواخر تسعينيات القرن الماضي.
تجاوزنا ممر الوادي بحذر، واستمرّ مَسيرنا نحو نصف ساعة، في طريق ضيّق ووعر، إلى أن وصلنا إلى وادي بنجشير. كانت وجهتي مكانَ دَفْنِ أحمد شاه مسعود، حيث كان هناك بناءٌ يجري العمل على إتمامه فوق القبر. ومن ذلك المكان الفسيح والمرتفع أطْلَلْنا على وادي بنجشير الرائع. كان المنظر خلاّباً جداً. النهر يشقّ قلب الوادي الذي تنتشر من حوله القرى الصغيرة.
أخبرني أحد المقاتلين الطاجيك المخضرَمين بأن الوادي يحتوي على كثير من الأنفاق التي كانت ملاذاً وحصناً منيعَين للمقاومة ضد الأسلحة الجوية، ولاسيما في إبّان مقاومتهم الغزوَ السوفياتي، إلى جانب التضاريس الوعرة والكهوف الكثيرة، حيث لم تتمكّن المروحيات السوفياتية آنذاك من الهبوط في الوادي، فسُرعان ما كانت تسقط تحت تقاطُع نيران من كِلا السفحين، حيث أعشاش الرشاشات.
عامل آخر ساهم في عدم قدرة "طالبان" على دخول الوادي عند سيطرتها على البلاد عام 1999، يتمثَّل بأن أغلبية السكان تنتمي إلى قومية الطاجيك، في حين أن حركة "طالبان" ينتمي معظم قادتها وأفرادها إلى قومية البشتون، وهو ما منعها من بناء قاعدة جماهيرية لها في هذه المنطقة، أو اختراقها.
كان من الصعب أن نعود في اليوم نفسه إلى كابول، فالشمس شارفت على المغيب، والطريق إلى كابول يشوبها كثير من المخاطر، التي خَبِرنا بعضها نهاراً، فما بالك في الليل. أصرّ أحد وجهاء بنجشير على أن نكون ضيفَيه، وهو خيار لم نكن نملك، في الأساس، بديلاً عنه، قبل أن ننطلق صباحَ اليوم التالي عائدَين إلى العاصمة الأفغانية.