دمشق وطهران.. أبعد من دبلوماسية الجوار
العلاقة بين طهران ودمشق لا تسير على سكة "دبلوماسية الجوار" فحسب، لا لشيء إلا لأنَّ تاريخ العلاقة بين الطرفين تجاوز أساساً ما هو أبعد من أهداف هذه الإستراتيجية.
منذ وصول إبراهيم رئيسي إلى الرئاسة في إيران، ركّز في خطاباته وتصريحاته على إستراتيجية "دبلوماسية الجوار" التي عملت بشكل معاكس لإستراتيجية "التخويف والضغوط" التي تبنتها الولايات المتحدة في المنطقة ضد طهران.
استندت إستراتيجية دبلوماسية الجوار إلى المزيد من الانفتاح الدبلوماسي الإيراني على الدول العربية، ومحاولات رفع نسب التبادل التجاري معها، والدعوة إلى تأسيس نظام أمني تصوغه دول المنطقة، سواء في الخليج أو في البر الممتد إلى العراق والشام، وكذلك التخلص من شوائب ثقافية سميكة روّجت لها ماكينات إعلامية ضخمة بهدف وضع إيران في خانة "العدو".
يمكن القول إنَّ العلاقة مع دمشق لا تسير على سكة "دبلوماسية الجوار" فحسب، لا لشيء إلا لأنَّ تاريخ العلاقة بين الطرفين تجاوز أساساً ما هو أبعد من أهداف هذه الإستراتيجية، ومن ذلك:
1. في الحرب المحرّكة غربياً ضد الثورة الإسلامية في إيران، وبعد انتصارها مباشرة، كان الانحياز السوري إلى إيران إستراتيجياً ضد سياسة صدام حسين في العراق. كانت سوريا قبل شهور من انتصار الثورة الإسلامية ترسم الخطوط النهائية لميثاق العمل القومي المشترك مع العراق، إلا أن وصول صدام حسين إلى الرئاسة أجهض التحالف العراقي السوري الذي راهن عليه الكثيرون.
سدّت إيران الفراغ الذي تركه العراق لسوريا. ومن جانب دمشق، كان الانحياز إلى جانب إيران في الحرب يعني حماية طهران من الدعاية التي شنّت ضدها إبان انتصار الثورة مباشرة، وتحمّلت سوريا بدورها ضريبة هذا الموقف، إلى الحد الذي اتهمها فيه البعض بأنها تخلت عن خطها القومي.
وقد صمّمت سوريا آنذاك على موقفها، وكانت أهم نافذة بالنسبة إلى إيران، لتفهّم موقفها وسماع روايتها عربياً، ولا سيما أنّ دول الخليج ومصر وقفت إلى جانب صدام حسين بشكل كامل.
2. في ثمانينيات القرن المنصرم، عاشت المنطقة، إضافة إلى الحرب العراقية الإيرانية، تداعيات التطبيع الذي دشنه أنور السادات في كامب ديفيد. كانت سوريا تبحث عن شريك في استكمال المواجهة ضد الاحتلال، وسدّت إيران جزءاً كبيراً من الفراغ الذي تركته مصر لسوريا في هذا الملف.
بعد خروج مصر من الصراع مع "إسرائيل"، باتت العلاقة السورية الإيرانية هي الحامل الرئيس في المنطقة لمواجهة خيارات التطبيع مع العدو. وقد أدركت سوريا أن إيران الثورة الإسلامية هي الشريك المحتمل لسد الفراغ العربي في المواجهة مع "إسرائيل".
3. إذا كانت لحظة الانهيار السوفياتي قد خلّفت وراءها عالماً أحادي القطبية على المستوى الدولي، فقد خلّفت وراءها في منطقتنا انتعاشاً للأطراف السياسية الداعية للتطبيع، وحققت إزاحات مؤلمة في مدريد وأوسلو ووادي عربة. يمكن القول إن التحالف السوري الإيراني هو الأساس في كبح هذا المدّ وطرح البديل الموضوعي له: "رفض التوقيع ودعم حركات المقاومة".
4. عندما أطلقت إدارة بوش الابن شعارات "الحرب على الإرهاب" و"محور الشر"، أحيطت إيران بحربين كبيرتين شرقاً وغرباً، في أفغانستان والعراق، وكانت سوريا معرّضة لتهديدات عسكرية أميركية جدّية.
التحالف الإيراني السوري تمكن من تجاوز تلك المرحلة بنجاح في مواجهة مدروسة ضد الاحتلال الأميركي للعراق، وكذلك أفغانستان. من دون إثارة رد فعل أميركي لا يمكن احتماله في تلك الحقبة، تمكن الثنائي السوري الإيراني من جعل إقامة القوات الأميركية غير مريحة في البلدين (العراق وأفغانستان).
5. في عشرية النار، كان الموقف الإيراني هو دعم الدولة السورية سياسياً وميدانياً، وهو ما صرّح به المرشد الإيراني علي خامنئي في أكثر من مناسبة: "هناك مؤامرة في قضية سوريا، والكيان الصهيوني سيقطف ثمارها. فلنقاوم من هذا الموقع. إنهم لا يهدفون إلى إسقاط النظام في سوريا فحسب، بل يريدون أن يقصموا ظهر المقاومة أيضاً".
على امتداد هذه المحطات الخمس، لم تستبدل سوريا علاقاتها مع المحيط العربي بالتحالف الإستراتيجي مع طهران، إلا أن المسافة كانت أقرب إلى طهران في محطتين حاسمتين؛ الأولى بسبب إدانة عدد من الدول العربية للمقاومة في لبنان في حرب تموز 2006، والأخرى بسبب الدعم الخليجي الإعلامي والمالي لعدد من التنظيمات المسلحة في سوريا في السنوات الأولى من العشرية.
اليوم، ضمن مناخ التفاهمات الجديد والحركة الدبلوماسية النشطة باتجاه دمشق، ما العوامل التي يمكن أن تدفع بمزيد من تعميق العلاقة بين الطرفين في مرحلة السلم بعدما تعمّقت في مرحلة الحرب؟
1. المساهمة الإيرانية المباشرة في جولات إعادة الإعمار السورية، وتحديداً قطاعي الطاقة والكهرباء. يظهر ذلك في تشكيلة الوفد الذي رافق الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، والذي يضم وزراء الطرق والنفط والاتصالات، وهي 3 قطاعات أساسية في مرحلة إعادة الإعمار.
2. إذا كان هناك إجماع روسي إيراني سوري على ضرورة خروج القوات الأميركية من سوريا، إلا أنّ الطرف الروسي أقل تشدداً فيما يخص القوات التركية (على الأقل بالنسبة إلى التوقيت والآلية)، ودمشق بحاجة إلى الدعم الإيراني في موقفها الرافض للتفاهم مع تركيا قبل خروج القوات التركية من أراضيها.
3. يمكن لعدد من النوافذ التي فتحت لسوريا من عدد من الدول العربية ودول الخليج أن تساهم في تخفيف أزماتها المالية، ولكن ما تحتاجه سوريا هو المساعدة الاقتصادية خارج إطار عالم الدولرة، مثل دول البريكس ومنظمة شنغهاي. وهنا، يمكن لإيران أن تساهم في تعبيد الطريق لسوريا في هذا الاتجاه.