حرب "إسرائيل" الصامتة.. هندسة اجتماعية وإعطاب الذاكرة
يجري تصميم واقع جديد في المنطقة متشابك ومتداخل مع "إسرائيل"، ليُقال لاحقاً إن مصلحة شعوبنا تقتضي التعامل معها، وإلا فالفقر والتخلّف.
تراهن "إسرائيل" على إعطاب الذاكرة. ذاكرة الأجيال الجديدة والمستقبلية في المحيطين العربي والإسلامي. يمرّ الزمن فتتباعد المجازر التي ظلّت ملتصقة بالصهيونية طوال أجيال مثل لطخة دم لا تجفّ. طمس الذاكرة أو إعطابها... تلك مهمة صعبة تستلزم سردية إحلالية كخطوة أولى. تكتسب هذه السردية زخمها من خلال وقائع جديدة تسعى "إسرائيل" إلى تكريسها. يمكن فهم النسخة المحدّثة من التطبيع في هذا الإطار. تطبيع يُدشّن مرحلة جديدة من الصراع له أدواته وخطابه وخصائصه.
تستطيع "إسرائيل" أن تبدّل جلدها لبعض الوقت، أن تتكلّم العربية، وتوزّع الابتسامات على إيقاع الدفوف الخليجية. بإمكانها أن تسوّق نفسها بكل ما من شأنه أن يساعد المُطبّعين الجدد على تقديمها كوجبة سهلة الهضم أمام شعوبهم، لكنها لا تستطيع أن تخفي حقيقتها كل الوقت. حقيقة قائمة على عقيدة عنصرية استعلائية، تنظر إلى الآخرين بدونية، وتبيح القتل والاستيلاء والإحلال ما دامت قادرة على ذلك. يُراد لهذه الحقيقة أن تغيب. ولأن تغييبها وإخفاءها صعبان، تُستحضر أدوات ووسائل أخرى لخدمة الهدف المنشود.
يمكن الحديث، اختصاراً وتجاوزاً، عن مرحلتين أساسيتين في تاريخ المشروع الصهيوني في المنطقة. قبل عام 2000 كانت السمة التي لازمت هذا المشروع هي الاحتلال والتوسّع، برز خلالها فائض القوة. بعد هذا التاريخ وصولاً إلى المرحلة الراهنة، وجدت "إسرائيل" نفسها أمام حدود القوة، فاضطرت إلى الانكفاء وراء الجدران والأسوار التي أحاطت نفسها بها تباعاً على مختلف الجهات؛ عند الجبهة الشمالية مع لبنان، وعند الجبهة الجنوبية مع غزة، وعند تخوم الضفة الغربية والقدس.
استراتيجية الجُدر ما هي إلا تعبير رمزي مكثّف عن واقع التحوّل الذي طرأ على العقل الإسرائيلي نتيجة التحوّلات في موازين القوى التي فرضتها قوى المقاومة في المنطقة، رغم كل المحاولات والرهانات على سحق تلك المقاومة بعد الألفية الثانية، بدءاً من حرب تموز 2006، مروراً بعشرية النار في سوريا واستيلاد داعش، وصولاً إلى التتبيع والرهان على الأزمات الاقتصادية في لبنان وسوريا والعراق وغزة، من أجل هندسة واقع سياسي اجتماعي مغاير، من دون أن ننسى الحرب على اليمن منذ أكثر من سبع سنوات، وما سبق ذلك وما تبعه من محاولات ومحطات يضيق الهامش بذكر تفاصيلها.
حدود القوة العسكرية الإسرائيلية التي أصبحت تلازمها كقلق وجودي، باتت تحتّم عليها البحث عن مخارج ووسائل أخرى لإضعاف روح المقاومة في شعوب المنطقة، وإخراج نفسها من وراء الجدران. كيف تفعل ذلك؟ بوسائل وأدوات مختلفة، بعضها ظاهر وأخطرها غير مرئي.
تعوّل "إسرائيل" من دون شك على موجة التطبيع المستجدة التي تمخّضت عن "صفقة القرن" والتحوّلات السياسية والأمنية والعسكرية والثقافية التي أعقبتها. بموجب هذا التحوّل بات يجمعها مع أصدقائها الجدد أعداء مشتركون، يصدف أنهم ليسوا سوى حركات المقاومة!
يمثّل التشبيك الاقتصادي مع دول المنطقة إحدى الوسائل التي يسعى المشروع الصهيوني من خلالها إلى خلق مصالح مشتركة مع الأنظمة المحيطة به، وصولاً إلى ترسيخ هذه العلاقات ببعدها الاقتصادي، وتأبيدها، بحيث يصعب تغييرها في المستقبل حتى لو تغيّرت الأنظمة. من ذلك، منتديات غاز البحر المتوسط وخطوط تصديره، إضافة إلى مشاريع نقل ومدن ذكية مشتركة وتصدير تقنيات تتحكم في عصب الإنتاج في البلدان المستهدفة، وغيرها من المشاريع المخططة للمستقبل، والتي تُضاف إلى المشاريع القائمة حالياً مع مصر والأردن، والموعودة مع دول الخليج. بالتوازي، تحاول إرساء مثل تلك العلاقات عن طريق التحايل والالتفاف مع لبنان (غاز المتوسط)، وسوريا والعراق مستقبلاً، من خلال مشاريع الربط والمشاريع الحيوية. كل ذلك تحت شعار الازدهار لكل المنطقة، والذي يخفي في طيّاته محاولة عزل الدول والقوى الممانعة وتخييرها بين أمرين؛ إما الالتحاق مكرهة بالأمر الواقع، أو البقاء خارج نعمة الازدهار الذي يمر حتماً عبر "تل أبيب".
بمعنى آخر، يجري تصميم واقع اقتصادي جديد جوهره "إسرائيل"، ليُقال لاحقاً إن مصلحة شعوبنا تقتضي التعامل معها، وإلا فالفقر والتخلّف.
تنظر "إسرائيل" بالتأكيد إلى أبعد من المرحلة الراهنة؛ أبعد من الأسابيع والشهور المقبلة. تحاول أن تخلق موجة نفسية ثقافية فكرية في المنطقة يصبح فيها التطبيع وإقامة العلاقات معها هما السائدين، أو بالحد الأدنى مجرد وجهة نظر بدلاً من كونهما فعلين مُدانين. تعويلها على إعطاب ذاكرة الأجيال المقبلة وإعادة برمجتها، يستلزم القيام بعملية غسل أدمغة تتطلّب لزاماً تعديل المناهج التعليمية والتربوية، وتغيير الخطاب الإعلامي بالحد الأدنى، ما من شأنه أن يخلق أجيالاً جديدة، تنظر إليها باعتبارها دولة طبيعية يمكن تقبّلها والتسليم بهيمنتها؛ بل بما هو أكثر من ذلك: الحاجة إلى وجودها باعتبارها رائدة في مجالات عديدة، من بينها المجال التقني.
تسعى "إسرائيل" إلى أن تكتب "نهاية التاريخ" في المنطقة. هذا هدفها وحلمها، وجوهر المشروع الصهيوني. لا بدّ إذاً من حرب ناعمة تواكب الخطوات السياسية والعسكرية والاقتصادية، وتزرع في العقول فكرة تقبّلها. في الطريق إلى ذلك، يتحتّم عليها أن تخفي وجهها الحقيقي العنصري وراء الأقنعة، وتترك لأصدقائها العرب مهمة شيطنة الفلسطينيين، وتسخيف القضية، وطمس الحقيقة، وخلق أعداء مشتركين، وتوهين الإرادة، وتعميم النماذج الاستسلامية، وممارسة رذيلة التضليل والتزييف.
إحدى وسائل الحرب الناعمة التي تهدف إلى اجتراح هندسة اجتماعية سياسية جديدة في المنطقة تمرّ من خلال الدين. تبرز "الإبراهيمية" في خدمة المشروع الذي يستوعب "إسرائيل" مستقبلاً ويتقبّلها على المستوى الفردي الروحي، فتلغي بذلك التعارض الضمني داخل الذات بين الإيمان والتعامل مع "إسرائيل". وإلى جانب "الإبراهيمية" لمن أراد، فتاوى خليجية تبيح المحظورات. الهدف إبعاد الدين عن السياسة، وحصره في الجوامع والكنائس، باعتباره علاقة خاصة مع الله، بعيداً عن أي فعل حركي أو نضالي. دين غير مصمّم بالمناسبة لـ"شعب الله المختار"، بل للمسيحيين والمسلمين ولمكوّنات شعوب المنطقة، ومن أراد أن يدخل رحاب الله من باب "التسامح".
تريد السردية الجديدة الصادرة عن دول التطبيع إيهام شعوب المنطقة وأجيالها الآتية بأن "إسرائيل" تغيّرت، وبأن مشكلتنا في المنطقة لا تكمن فيها، بل في "الحركات الإرهابية" التي تواجهها، وفي بعض الأنظمة الممانعة التي ليست أفضل حالاً منها. لذا، يُعادل ما تفعله "إسرائيل" وما فعلته، وفق هذه السردية، ما جرى في سوريا، وفي ذلك تضليل وتغافل تامّ عن الفتنة الكبرى المُجسّدة في الحرب التي تآمر فيها هؤلاء على سوريا.
تريد هذه السردية أن تطمس عيون شعوبها عن جوهر المشروع الصهيوني المستمر بالضرورة، والعدواني بطبعه، والتوسعي والاستعماري بطبيعته، كذلك عن واقع اليمين العنصري الذي يحكم "إسرائيل" ولا يؤمن بالتسويات، إلا إذا كانت تسمية مغلّفة لحقيقة اسمها الاستسلام، وهو استسلام لا يقبل به قادة المستوطنين إلا إذا جاءهم من موقع الدونية.
رغم ذلك، تدرك "إسرائيل" أكثر من غيرها أن كل ما سبق لا يكفي، وأن القوى المقاومة الحية في شعوب المنطقة ما زالت تمثّل خطراً متوثباً عليها، وأن التغيّرات في البيئة الإقليمية لم تنلْ من تصميم هذه القوى ومن إرادتها على تفعيل القتال.
لأجل ذلك، تحاول النفاذ من خلال الثغرات واستغلال الفرص بهدف فرض وقائع جديدة. تفعل ذلك اليوم من خلال محاولة تغيير الأولويات في أوساط البيئة المهدِّدة لها، ولسان حالها أن ما لا يمكن ردعه بالقوة العسكرية قد ينكفئ عبر الضغوط الاجتماعية والاقتصادية الخانقة. سبق ذلك العمل على التفتيت والتشتيت في المحيط القريب، ومحاولة زرع الفتن والأحقاد والحروب الطائفية والنزعات الانفصالية.. كل ذلك على أمل إبعاد البندقية عنها، وتغيير البوصلة عن فلسطين.
كل ما سبق يبقى قاصراً وناقصاً إن لم نتحدث عن الولايات المتحدة الأميركية. هي من دون ريب أهم وأقوى الوسائل التي تلجأ إليها "إسرائيل" في صراعها معنا. لا يمكن أن يحقق المشروع الصهيوني المخططات والمشاريع المذكورة بقواه الذاتية القاصرة. لذا يعتمد الطرفان (إسرائيل وأميركا) في حروبهما ضد شعوب المنطقة على النفوذ الأميركي المتجذر والمتغلغل في كل البلدان العربية وأنظمتها، وبين نخبها السياسية والاجتماعية. فالولايات المتحدة هي من صمّم التطبيع و"صفقة القرن"، وقبل ذلك أوسلو ووادي عربة وكامب ديفيد، وهي التي تغطّي "إسرائيل" في جرائمها وتدعمها بالمال والسلاح، وهي التي تقود الحرب الناعمة الحقيقية، وتعمل على تصميم الضغوط الاقتصادية والانهيارات المالية، وتمارس الابتزاز من أجل دفع المتخلّفين والمتردّدين إلى اللحاق بعصر "إسرائيل"، التي تمثّل رمز الهيمنة والسطوة الأميركيّتين على المنطقة.
تبعاً لذلك، هل وضع "إسرائيل" اليوم يسمح لنا بالقول إنها في موقع المبادرة والتفوق على مستوى الصراع؟ ألا يتناقض ذلك مع القول إنها في حالة انكفاء؟ تجيب مقالات هذا الملف عن السؤال، وتزيل هذا التناقض الظاهري عبر التعمّق في تحليل التيارات التي تفسّر ما يحدث ظاهرياً على السطح.
بهذا المعنى يأتي طرح السؤال: "كيف تحاربنا إسرائيل؟". ليس الهدف منه مجرد استعراض تقني للأدوات والوسائل التي تعتمدها "إسرائيل" في صراعها مع شعوب المنطقة، معنا، بل الانطلاق منها إلى تشخيص المرحلة الراهنة وصولاً إلى فهم ما يحصل اليوم على مختلف الساحات العربية، سواء المؤيّدة لمحور المقاومة أم المتحالفة مع "إسرائيل" أم المنقسمة على نفسها في الخيارات والتوجهات. الهدف هو تعزيز الوعي بأبعاد الخطوات والأحداث التي تبدو في ظاهرها منعزلة أحياناً، لكنها في العمق مترابطة ومتشابكة.
لا يقف هذا الملف عند حدود السؤال المباشر، بل يتخطاه إلى فهم ما حدث في الماضي، كي نصل إلى إدراك ما يحصل اليوم؛ ما دام التاريخ يعيد نفسه.
ليس هذا الملف سوى محاولة لتشخيص الواقع؛ الواقع الذي يغيّبه إعلام الدول المستتبعة، ويحوّره ويفصّله على مقاسه، ليصنع منه واقعاً افتراضياً موازياً، ينسجم مع مصلحة حكامه لا مع مصلحة الشعوب.
هذا الملف هو دعوة إلى الإجابة عن سؤال: ماذا نريد؟ وأيّ نموذج وأيّ خيار هو الأفضل لنا ولأجيالنا المقبلة؟ وأين تكمن مصلحة شعوبنا؟ لا تنفصل هنا القضايا القُطرية داخل كل بلد عربي على حدة، عن المشهد الشامل في المنطقة.
فلنُنحِّ الموقف الأخلاقي الإنساني جانباً ونطرح السؤال الذي نفترض أنه سوف يتسرّب عن قصد وبتخطيط متعمّد في المرحلة المقبلة: هل تنتهي مشاكلنا بإقامة علاقات مع "إسرائيل" أو بالحد الأدنى ربط النزاع معها؟ هل يصبح واقعنا أفضل؟ أم نغرق في الارتهان والتبعية والانقسام؟ هل هذا ما حدث في فلسطين بعدما تخلّى ممثلو الثورة عن السلاح أملاً بدولة موعودة؟ وهل هذا ما حدث في مصر والأردن؟
تراهن "إسرائيل" على الزمن. الزمن الكفيل بتكريس الوقائع الجديدة وتأبيدها. إلا أن الزمن لا يمرّ على طرف من دون آخر، وعامل الوقت ليس بالضرورة أن يكون حليفها، وإن كانت تراهن عليه.
في النهاية لم تقم "إسرائيل" وتتمكّن عبر الاعتماد على الحرب الناعمة أو البروباغندا فقط، بل بالأساس على القوة الخشنة. اليوم وصلنا إلى مرحلة لم تعد القوة الخشنة مجدية في تأمين بطاقة إقامة دائمة للمشروع الصهيوني، فوجب عليه البحث عن مخارج وبدائل. من هنا نطرح السؤال "كيف تحاربنا إسرائيل؟" ونجيب تِباعاً في الأيام المقبلة.