"جنين" في العقلية الأمنية الإسرائيلية
ثمّة تخوّف إسرائيلي، في ضوء تجربة الاحتلال مع جنين في أثناء معركة المخيم عام 2002، والتي انتهت بمقتل 23 جندياً إسرائيلياً واستشهاد 52 فلسطينياً، أن تتحوّل جنين مجدَّداً إلى عاصمة المقاومة في الضفة الغربية، وتنقل تجربتها إلى سائر المناطق الأخرى.
اعتبرت دولة الاحتلال مدينة جنين، وخصوصاً مخيمها، هدفاً استراتيجياً لأجهزتها الأمنية، التي باتت في أوّل سلّم أولوياتها، محاوِلة إفراغ جنين من حالة المقاومة المتزايدة بين أزقة مخيمها، الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل: ما هي نظرة أجهزة الاحتلال الأمنية إلى مدينة جنين؟ ولماذا كل هذا القلق الأمني الإسرائيلي من منطقة شمالي الضفة؟
للإجابة عن تلك التساؤلات، من المهم فهم قراءة العقلية الأمنية الإسرائيلية، من خلال:
أولاً، حراك الضفة الغربية في أثناء معركة "سيف القدس"، ساهم في تحديد الخطوط الاستراتيجية لتعامل الاحتلال الإسرائيلي مع مدينة جنين، بحيث اعتبرت "إسرائيل"، في محصلة نظرتها العامة، أن التحرُّك الشعبي للضفة الغربية حراكٌ محدود على النطاق الجماهيري، ولم يتمّ تبنّيه بصورة رسمية من جانب السلطة الفلسطينية. لذلك، اعتبرت "إسرائيل" أن أهم الدروس المستخلَصة من معركة "سيف القدس" إدراكُها الدورَ الثمين الذي يؤدّيه التنسيق الأمني مع أجهزة السلطة الفلسطينية الأمنية. وبالتالي، وضعت "إسرائيل" لنفسها هدفاً بعد معركة "سيف القدس"، هو تعزيز قوة الأجهزة الأمنية للسلطة، على نحو كبير، ومساعدتها على فرض هيمنتها على كل البؤر التي تشكّل تحدياً لهذه الأجهزة الأمنية، كون ذلك يساهم بصورة أساسية في حفظ أمن "إسرائيل" ومصالحها في الضفة الغربية.
ثانياً، برزت خصوصية مدينة جنين في أثناء معركة "سيف القدس"، بحيث شكّل تهديد فصائل المقاومة، وخصوصاً "سرايا القدس"، خلال المؤتمر الصحافي الذي عُقد داخل مخيم جنين في أثناء معركة "سيف القدس"، مؤشراً خطيراً للأجهزة الأمنية الإسرائيلية على توجُّهات فصائل المقاومة داخل جنين، الأمر الذي تعزّزه عمليات إطلاق النار المتكرّرة تجاه آليات الاحتلال وجنوده، كلما حاول جيش الاحتلال الإسرائيلي اقتحام مخيم جنين. لكن، يبقى الأخطر إسرائيلياً أن هناك إشارات أمنية إلى إمكان العودة إلى العمليات الاستشهادية انطلاقاً من مخيم جنين، الأمر الذي يحمل في طياته تغيراً استراتيجياً في طبيعة الصراع، في الضفة الغربية بصورة خاصة، وفي الحالة الفلسطينية بصورة عامة. وبالتالي، ثمّة تخوّف إسرائيلي، في ضوء تجربة الاحتلال مع جنين في أثناء معركة المخيم عام 2002، والتي انتهت بمقتل 23 جندياً إسرائيلياً واستشهاد 52 فلسطينياً، أن تتحوّل جنين مجدَّداً إلى عاصمة المقاومة في الضفة الغربية، وتنقل تجربتها إلى سائر المناطق الأخرى.
ثالثاً، ترى الأجهزة الأمنية الإسرائيلية في منطقة شماليّ الضفة الغربية، وخصوصاً مدينة جنين ومخيمها، التحدِّيَ الأكبر أمام نفوذ الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية، بحيث تفيد تقديرات جيش الاحتلال الإسرائيلي بأنه يوجد في المخيم نفسه عدة آلاف من قطع السلاح، ومخازن ذخيرة كبيرة، ناهيك بوجود مطلوبين مسلَّحين للأجهزة الأمنية للسلطة، من حركة فتح، لا يؤيدون السلطة الفلسطينية، من دون أن تكون لأجهزة أمن السلطة القدرة على ضبط الحالة الأمنية في جنين، كما يقتضي التنسيق الأمني مع "إسرائيل"، بحيث تُعَدّ حادثة إطلاق النار على المقاطعة في جنين بعد مصادرة أجهزة أمن السلطة سيارةَ الشهيد جميل العموري، الذي اغتاله جيش الاحتلال الإسرائيلي، مؤشراً مهماً لدى "إسرائيل" على فقدان السيطرة لدى السلطة الفلسطينية في منطقة شمالي الضفة، وخصوصاً مدينة جنين، الأمر الذي يُقلق منظومة الأمن الإسرائيلية. أضف إلى ذلك أن مراجعة سريعة لقائمة أسماء شهداء جنين في الآونة الأخيرة، تُظهر أنها تشمل أسماء من تنظيمات متعددة. والأهم أن نسبة كبيرة منهم هي من المنتسبين إلى الأجهزة الأمنية الفلسطينية، الأمر الذي يمكن أن يهدّد وجودياً منظومةَ التنسيق الأمني مع "إسرائيل" بالكامل.
أدركت "إسرائيل" أن أيّ تأخّر في استهداف جنين معناه تحوّلها إلى نموذج ملهِم للضفة الغربية برمتها، وخصوصاً مع وجود جيل شابّ جديد يمتلك نسبة عالية من الجرأة على تحدّي جيش الاحتلال الإسرائيلي ومنظومة التنسيق الأمني معه، وقناعة هذا الجيل بأنه قادر على إلحاق الهزيمة بجيش الاحتلال إذا حاول دخول جنين، كما تهدّد "إسرائيل" مؤخَّرا؛ ذلك الجيل الذي ما زال يعتبر الشهيدَين محمود طوالبة وأبو جندل نموذجَين ملهِمَين لتحقيق الوحدة الفلسطينية، وَفْقَ خيار المقاومة ضد الاحتلال، على الرّغم من أنه لم يعايش الانتفاضة الثانية، ولا معركة المخيم الأسطورية.