ثلاث قمم وصورة العالم الجديد
ليس غريباً أن تهتم الصين بدول آسيا الوسطى بسبب عاملين أساسيَّين، الاستفادة من مواردها، وأهمية هذه المنطقة لممرات مبادرة الحزام والطريق.
ثلاث قمم تزامنت معاً تقريباً، ارتسمت فيها ملامح النظام الدولي الجديد: القمة العربية في جدّة، ودعوة رؤساء دول آسيا الوسطى إلى الصين، وقمة مجموعة السبع في اليابان. أمّا الملامح فتظهر في صورة هذه الاجتماعات ومعانيها الرمزية ودلالات بياناتها الختامية وكلمات المشاركين فيها.
القمة العربية
كان حضور الرئيس الأسد، شخصياً، اجتماع القمة أمراً متوقعاً، بعد سلسلة من زيارات الدول العربية لدمشق، ومشاركة سوريا في اجتماع وزراء الخارجية في الأردن، وتفعيل القنوات الدبلوماسية العربية مع الحكومة السورية، وتحديداً دبلوماسية الإغاثة خلال الزلزال وقبل الإعلان الأميركي تجميد عدد من بنود قانون قيصر. كل ذلك كان يؤسس لحظة دخول الأسد قاعة اجتماع القمة، بترحيب من عدد كبير من رؤساء دول الجامعة العربية.
وتبقى الدلالات المتعلقة بنقاط الانعطاف الكبيرة في النظامين الإقليمي والدولي تتمثل بـ:
1. كان حديث الأسد عن "الفكر العثماني التوسعي المطعّم بنكهة إخوانية منحرفة" تأبيناً علنياً لمشروع "الربيع العربي"، وانحساراً لدور اللاعب الداخلي الأكبر فيه (الإخوان المسلمين)، وداعميه الإقليميين. أسس هذا الحديثُ تفاهماً ضمنياً، على هامش القمة، بين الأسد والرئيس التونسي قيس سعيّد، عندما تحدثا عن العمل معاً في مواجهة "الفكر الظلامي".
2. حضور الأسد اجتماع القمة يعني ببساطة نهاية عصر الابتزاز الغربي المطلق. ففي الوقت، الذي بادرت عدة دول عربية إلى حصار سوريا ومقاطعة الأسد خلال عشرية النار، تلبية لحاجات الاستقطاب الدولي والمطالب الغربية، هي نفسها اليوم تستقبله، مع استمرار التعنت الغربي في استمرار العقوبات على سوريا من جهة، والتحفّظ عن التعامل مع الحكومة السورية، حتّى خلال أزمة الزلزال، من جهة أخرى. إذاً، ما جرى ليس تبدل حالات الاستقطاب، وإنما تراجع قوة الغرب داخل هذا الاستقطاب، الأمر الذي أشعر عدداً من الدول العربية بإمكان الافتكاك الجزئي والتدريجي منه، وبضرورة هذا الافتكاك. ولا يعدو حضور زيلينسكي القمة عن أن يكون أكثر من جائزة ترضية للولايات المتحدة والغرب، ولا سيما أن رسالة بوتين إلى القمّة لم تأتِ على ذكره، ولم تحمل معها أي نبرة لوم وعتاب للدول العربية.
3. إعادة الزجّ بـ"الأيديولوجيا" في مصطلحات الخطاب. فالحديث عن عالم متعدد الأقطاب بات دارجاً، ومن ذلك ما طرحه الوفد الجزائري، والحديث عن العولمة وآثارها، ومن ذلك ما طرحه قيس سعيّد. إذاً، إعادة تطعيم الحوار بجرعة أيديولوجية (من الطبيعي أن يساهم حضور الأسد في تعزيزها في كل الأحوال) باتت مسألة مهمة لتُخرج النقاش من دائرة الحلول الفنية والتقنية البحتة.
4. حضور الأسد القمة، من جهة، والانفتاح السعودي على إيران، من جهة أخرى، كِلاهما سوف يفرمل أي اندفاعة خليجية إلى التطبيع، وتحديداً في الحالة السعودية، ولا سيما أن نتائج "اتفاقات أبراهام" ليست مشجعة (حتى براغماتياً) في الحالتين الإماراتية والبحرينية، بالإضافة إلى تدهور الحضور الأميركي منذ لحظة ترامب - صفقة القرن إلى لحظة بايدن -التوجه إلى آسيا وإعادة عقيدة أوباما.
آسيا الوسطى والصين
1. ليس غريباً أن تهتم الصين بدول آسيا الوسطى بسبب عاملين أساسيَّين: الاستفادة من مواردها، وأهمية هذه المنطقة لممرات مبادرة الحزام والطريق. وليس غريباً أن تهتم بالجانب الاستثماري، ولا سيما أن هذه الدول من أقل الدول في مؤشر العولمة، الأمر الذي يعني وجود فرص استثمار كبيرة جداً فيها، تريد الصين أن تحظى بها.
2. لكنّ الجديد نسبياً هنا، هو العرض الصيني بشأن تطوير القدرات الدفاعية لهذه البلدان، الأمر الذي يعني رغبة الصين في عسكرة مبادرة الحزام والطريق لحماية الموانئ والمطارات ومشاريع البنى التحتية التي ستنجزها. إذاً، الحالة الأمنية التي تعيشها آسيا الوسطى انقلبت، فمن وجود قواعد عسكرية أميركية في أوزبكستان وقرغيزيا (تم تفكيكها بالكامل)، إلى اقتراح أن تستخدم واشنطن القواعد العسكرية الروسية لمحاربة الإرهاب في أفغانستان، إلى الوجود الصيني اليوم، الأمر الذي يعني ذوبان الوجود الأمني الأميركي في تلك المنطقة من العالم، في ظل المقترحات الأمنية الصينية الجديدة والحضور الروسي التاريخي.
3. ثمة أمر جديد ثالث في حالة آسيا الوسطى، فالاندفاع الصيني (الأمني تحديداً) في اتجاه هذه المنطقة من العالم، لم يكن مرحَّباً به بالكامل روسياً، لولا التقارب الصيني الروسي الذي عززته المواجهة الأطلسية الروسية، الأمر الذي جعل توزيع الملفات بين القوتين (روسيا والصين) أكثر مرونة من بدايات التفاهم السوفياتي الصيني في بداية الخمسينيات، وبطبيعة الحال أكثر من محطات الخلاف في السبعينيات.
مجموعة السبع
مع تراجع أهمية مجموعة السبع في مقابل منظمات اقتصادية أوسع وأثقل وزناً ("البريكس" أو "شنغهاي")، باتت البيانات الختامية الصادرة عن المجموعة مهتمة بالصراع الجيوسياسي العالمي والتنافس الأمني، بصورة أكبر من السابق:
1. دعم "البيئة الحرة والمفتوحة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ومعارضة أي تغيير أحادي الجانب للوضع الراهن"، والمقصود هنا تايوان، والمناورات البحرية الصينية المشتركة مع إيران وكذلك مع روسيا. وكل إشارة إلى "بيئة مفتوحة وحرة" هي استكمال للخطاب الليبرالي الأميركي في ترهيب دول العالم من الصين أو روسيا.
2. تستمرّ مجموعة السبع في تأكيد المبادئ والقيم العالمية (الاستناد إلى الأمم المتحدة، الديمقراطية، حقوق الإنسان... إلخ)، لكنّ ما يتغير في العالم اليوم أن دول مجموعة السبع لم تعد المنصّة المنفردة للتنظير الحقوقي، فتقارير نقد الديمقراطية الأميركية مستمرة في الصدور من جانب الخارجية الصينية، كما أن اجتماعات شنغهاي وحتى دول آسيا الوسطى في الصين باتت تمتلك نسختها الخاصة عن الخطاب الحقوقي. وبذلك، يمكن القول إن مجموعة السبع فقدت "فرادة" قاموسها.
3. تقدّم مجموعة السبع وعوداً بـ 600 مليار دولار، يتم إنفاقها حتى عام 2027م، لمصلحة مشروع الاستثمار والبنية التحتية العالمي PGII. ويبدو ذلك في كل الأحوال منافسة اقتصادية ضعيفة نسبياً مع ما تطرحه مبادرة الحزام والطريق من مشاريع تتجاوز التريليون، وبدأت ترى النور فعلاً.
4. تحاول مجموعة السبع دفع عجلة الطاقة النظيفة إلى أقصى سرعة، محاولة تحقيق "صفر – انبعاث" بحلول عام 2050م، والتخلي عن الاعتماد على روسيا في تزويد الطاقة. في كل الأحوال، حتى اللحظة، لا تبدو سرعة الاستبدال لمحطات الطاقة التقليدية مبشّرة بتحقيق هذا الهدف عام 2050م. وفي جانب آخر، ما زالت أوروبا والولايات المتحدة، ضمن المؤشرات العالمية، متخلفتَين عن الصين في ميدان البحث والتطوير للطاقة النظيفة.
من قمة عربية بأثر أقل للاستقطاب الغربي، إلى قمة لدول آسيا الوسطى في الصين، إلى قمة مضطربة لدول مجموعة السبع، ملامح العالم الجديد آخذة في التشكّل.