تقويض نظام الاحتياطي الفدرالي الأميركي أمر محتوم
كان واضحاً منذ انتشار "كوفيد-19" مطلع 2020 أن العالم بصدد مواجهة أزمة اقتصادية عميقة، وحصلت عملية إعادة توزيع ثروات هائلة على نحو متزامن، وليس مصادفة مع تفشي الجائحة وبدء تفاقم الأزمة الأوكرانية. فقد سلكت خيارات المواجهة طريق اللاعودة منذ شباط/فبراير 2020.
مخطئ من لم يدرك بعد أن الصراع الأوكراني ليس حرباً محلية محدودة. إذ إن المشهد الميداني بكل ضراوة مواجهاته ليس إلا محركاً لمتغيرات النظام المالي الاقتصادي، بل الجيو-سياسي العالمي كله. ويستحسن لمن اشتبه عليه تقدير المشهد أن ينظر بعمق، لكي يتمكن من التعايش مع مرحلة المتغيرات الكبرى.
إن احتمالات المواجهة المالية الاقتصادية المقبلة المتداولة هي التالية:
إما استمرار هيمنة فضاء الدولار على الاقتصاد العالمي، وارتفاع قيمته على نحو يستنزف اليورو واليوان؛ أو انخفاض قيمته أمام العملات إلى درجة انهيار نظام الدولار المالي وبروز نظام تداول مالي جديد.
أما الاحتمال الثالث والأرجح، فهو ازدياد اعتماد دول وازنة في العالم على التبادل التجاري بالعملات المحلية بصورة تضعف الدولار، وتطلق آلية ضعضعة الاقتصاد الأميركي، والقضاء على قدرته في التحكم باقتصادات العالم.
وفي عودة إلى خطاب الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أمام منتدى فالداي الدولي للحوار 2022، يقول إن " انهيار نظام الاحتياطي الفدرالي الأميركي أمر لا مفر منه". فقد كان هذا التصريح محط اهتمام نخبة الطبقة السياسية والفكرية، ليس فقط في روسيا، بل وبدأت أصداؤه تتردد في كل أنحاء العالم. فإن نظام الاحتياطي الفدرالي الحكومي الأميركي، الذي يعمل في الولايات المتحدة منذ 23 ديسمبر / كانون الأول 1913، ويؤدي دور البنوك المركزية في الدول الأخرى، نشأ بعد سلسلة أزمات مالية عالمية، وكان الهدف من إنشائه إخضاع النظام المالي الأميركي، وعبره العالمي، لرقابة مركزية للحد من تأثيرات الأزمات الاقتصادية في الاقتصاد الأميركي والإبقاء على هيمنته.
بعض الخبراء الاقتصاديين يرون أن هذه المتغيرات التكتونية لن تحصل بين ليلة وضحاها، بل ستتخذ مجالاً زمنياً من ثلاث إلى خمس سنوات. والصراع الأوكراني هو الشوط الأول في لعبة الأمم الكبرى.
وكان واضحاً منذ انتشار "كوفيد-19"، في مطلع سنة 2020، أن العالم بصدد مواجهة أزمة اقتصادية عميقة، وحصلت عملية إعادة توزيع ثروات هائلة تلقفها من لعب على هبوط الأسهم وارتفاعها على نحو متزامن، وليس مصادفة مع تفشي الجائحة وبدء تفاقم الأزمة الأوكرانية. فقد سلكت خيارات المواجهة طريق اللاعودة منذ شهر شباط / فبراير 2020. وبنظرة "عاطفية إنقاذية" للعالم، أعلن بوتين عزم روسيا الثابت على تقويض جبروت هيمنة مؤسسة الاحتياطي الفدرالي الأميركية. ومن الملاحظ والمؤكد في خطابه رفعه الرهان وتحديده الهدف الأساس للمواجهة، التي أصبحت حرباً تحمل ما يكفي من عناصر توصيفها بالعالمية. ونحن أمام فترة زمنية قد تصل إلى "عشرة أعوام صعبة" قبل الانتقال إلى عالم مستقر، لكنه سيكون مختلفاً بتعدد أقطابه.
ومن كلمات بوتين في خطابه: "روسيا ترى أن تشكيل منصات مالية دولية جديدة أمر لا مفر منه، بما في ذلك للمدفوعات ( التعاملات التداولات) الدولية. وهذه المنصات يجب أن تكون خارج إطار السلطات القانونية القومية، ويجب أن تكون آمنة وغير مسيسة وآلية، لا تعتمد على أي مركز تحكم موحد." صراحة بوتين في ما قاله في منتدى فالداي كانت غير مسبوقة، كما إن الأهداف التي وضعها بسقوفها العالية غير مسبوقة أيضاً. نحن لسنا أمام مقترحات حكومية لإنشاء "منظومات تجارية عادلة متساوية الحقوق متبادلة المنفعة" كما يبدو الأمر في ظاهره فقط، بل كلام بوتين أصبح "شعاراً": "آن الأوان لتقويض نظام الاحتياطي الفدرالي الأميركي كمركز للعملة العالمية والمدفوعات الدولية. وروسيا تسعى لتحقيق هذا الهدف بكل ما أوتيت من قدرات سياسية واقتصادية وحتى عسكرية.
الرئيس الروسي لم يقل إن "روسيا ترى من الضروري" أو أن "روسيا ترى أن من المجدي"، بل استخدم صيغة أكثر تشدداً: "روسيا ترى أمراً حتمياً". قالها الرئيس الروسي مباشرة ومن دون مواربة: هذا تحدينا لكم ولن نتراجع عن طريق تحقيق هذا الهدف... خطاب بوتين في فالداي كان خطاب حرق السفن، وقطع الجسور.
قد يغفر الغرب لبوتين ما ذكره من رفض تقبل أفكار المثليين والمتحولين جنسياً، وما ذكره بشأن رفض الغطرسة والعجرفة. أما إشارته إلى حتمية تقويض نظام الاحتياطي الفدرالي الأميركي، وجميع المؤسسات الدولية المرتبطة به من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وكذلك دور الدولار في العالم، فهذا ذنب لا يغفر من منظور مفاهيم الهيمنة والتسلط الغربيين!
ما يطرحه بوتين هو تقويض كامل لحال الاحتياطي الفدرالي القائم منذ سنة 1913 وموقعه، ولنظام بريتون وودز وأنظمة نموذجي 1944 و1976. حركة " كش ملك" مع قلب طاولة الشطرنج وبيادقها وأحجارها، وانتهت اللعبة. بوتين لم يعلن بين سطور كلماته عن "نفسه" أو دور بلاده بديلاً للنظام العالمي السائد، بل أشار إلى انضمام روسيا إلى عملية حتمية في إعادة تشكيل العالم، الذي تبدو فيه أوروبا ضاحية من ضواحي أوراسيا، وروسيا هي القلب.
في المقابل، من غير المتوقع أن يتراجع الغرب في حربه على روسيا في أوكرانيا، خصوصاً بعد خطاب بوتين في منتدى فالداي 2022 منذ يومين، قد يأخذ "الغرب الجماعي" (التوصيف الذي تطلقه الأدبيات الروسية على حلف واشنطن وأدواتها المعادية لروسيا) استراحة مؤقتة فرضها خطاب بوتين و"مناورته النووية الناعمة" بأبعادها الحتمية الصارمة. ويستغل الغرب هذه الاستراحة لتحشيد قواه للمعركة الحاسمة مع روسيا في أوكرانيا. ومن غير المستغرب سماع أصوات في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وبولندا وغيرها تنادي بمشاركة مباشرة في الحرب ضد روسيا، ترافقها محاولات ضغط في اتجاه فتح كل جبهات التماس الممكنة مع روسيا، في وسط آسيا، بيلاروس، والقوقاز الروسي، واستهداف المصالح والنفوذ الروسي في كل منطقة من العالم. بيد أن استراتيجية المواجهة الروسية المضادة لا تعتمد على الوسائل العسكرية بالرغم من أن قدراتها ضمانة، بل الهدف الأساس هو هزيمة الغرب اقتصادياً. في هذه الحالة، تتحول الحروب الموضعية المحلية إلى المرتبة الثانوية، ومهمة التعبئة العسكرية الروسية هو التكامل وتأمين ظهر التعبئة العامة السياسية على خطوط المواجهة الاقتصادية.
في ضوء ذلك، تقول النائبة في الدوما (مجلس النواب الروسي) عن حزب "روسيا الموحدة" يلينا بانينا، وهي بروفيسورة في علوم الاقتصاد، إن "روسيا لم تمتلك مقومات جديدة كانت تفتقدها قبل خطاب بوتين، لكن النقاط وضعت على الحروف بصورة نهائية". وإن "روسيا تخوض حربها ليس من أجل انهيار الغرب الجماعي عسكرياً، بل مالياً واقتصادياً".
أما إزاء التوقيت، فلقد قالت روسيا كلمتها الأخيرة تزامناً مع نتائج المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني، والذي خلص إلى القضاء الكامل على الطابور الخامس الأميركي في الصين. في الخطوة الصينية الجريئة رد غير تقليدي وغير متوقع لشي جي بينغ على زيارة نانسي بيلوسي لتايوان. ورد الزعيم الصيني جاء مغايراً لآراء خبراء الشأن الصيني الذين كانوا يتوقعون الوصول إلى توازن معين في نهج السياسة الصينية.
شي جي بينغ خيب آمال بعض المراقبين في التوصل إلى حلولٍ وسط مع الولايات المتحدة. وما فعله بوتين كان الشيء نفسه، لكن بصيغة أكثر ليونة وبنبرة "عاطفية رصينة". ونذكر أن بوتين أكد أن تايوان جزء لا يتجزأ من الصين. فهو يعني أن الصين ليست وحيدة، وكذلك روسيا ليست وحدها في المواجهة. وقوة الردع العسكرية الروسية التي ذكر بها بوتين عبر مناوراته النووية الاستراتيجية هي فقط مشهد خلفي لإعلانه التحدي الاقتصادي وصولاً إلى هزيمة "الغرب الجماعي" على هذه الحلبة. أما أوكرانيا فهي حالة خاصة، و القسم الأكبر من جغرافيتها كان تاريخياً روسياً، والوقت حان لاستعادة الصين لتايوان، وبناء منصات مالية دولية جديدة يكون للصين وروسيا الدور الأساس في تشكيلها.
بشكل أو بآخر، روسيا أعلنت عبر خطاب رئيسها عن حقها في لعب دور ريادي في قيادة تشكيل حركة "مناهضة الاستعمار المالي الاقتصادي" وتخليص عالم متعدد الأقطاب، بدأ بالظهور، من سلاسل هيمنة "الغرب الجماعي" وقيوده. بوتين لم يتوجه فقط إلى دول الشرق وأميركا اللاتينية، بل خاطب وعي من يشاركونه الفكر والتوجهات ونهج الأمن الجماعي والأمن الاقتصادي والمالي المتكافئ وضمائرهم حتى في هذا الغرب. فهناك من يعي أن قيادات الدول العميقة تعمل بعكس مصالح شعوبها ودولها وحكوماتها.
وإن روسيا لا تواجه الراديكالية الليبيرالية وحيدة بمفردها، بل هي في مقدمة تحالف متنامٍ يمثل غالبية سكان العالم.
وهذا التحالف سيرسم معالم العالم الجديد.