تظاهرات واحتجاجات في إدلب: هل قرّرت أنقرة إنهاء دور الجولانيّ؟

لأنّ أنقرة تدرك صعوبة المضيّ في خططٍ، أو تسويات مفترضة، وهي تتأبّط ذراع الجولانيّ، الذي يتصدّر و"هيئته" لوائح الإرهاب في سوريا ومعظم دول العالم، وتُجلسه إلى طاولة التسويات والحلول، فكان لا بدّ من إزاحته.

  •  هل قرّرت أنقرة إنهاء دور الجولانيّ؟
    هل قرّرت أنقرة إنهاء دور الجولانيّ؟

منذ أكثر من أسبوع، وحتى الآن، لم تتوقّف التظاهرات التي ترفع شعارات إسقاط سلطة أبي محمد الجولانيّ، زعيم تنظيم "هيئة تحرير الشام" الإرهابيّ الذي يسيطر على إدلب وريفها، وعلى أجزاء من ريفَي حلب واللاذقية. 

وقد بدأت تلك التظاهرات من ريف إدلب، لتبلغ وسط مدينة إدلب ذاتها، حيث السيطرة الأمنية التامّة للجولاني وأجهزته، ثمّ تمتد إلى ريف حلب الغربيّ، وبعض مناطق ريف الرقّة الواقعة تحت سيطرة الفصائل الموالية لتركيا، ومنها تلك التي توالي الجولاني وتقع ضمن تشكيلات هيئته.

صحيحٌ أنّ هذه الحالة من التعبير عن الغضب أو الاحتجاج على الجولاني وسطوته، ليست جديدة، لكنها الأوسع والأكثر زخماً على الإطلاق، وذلك منذ سيطرة "هيئة تحرير الشام" على المساحات الأوسع من الشمال الغربيّ للبلاد، وتحوّل الجولاني إلى الرجل الأقوى هناك. 

أضف إلى ذلك، أنّ ثمّة عوامل وظروفاً ميدانية وسياسيّة محلية وإقليمية، تجعلها مختلفة تماماً عن أيّ احتجاجات سابقة. وصحيح أيضاً أنّ عناوين وشعارات تلك التظاهرات، تنطلق في عمومها من بواعث أمنية واقتصاديّة تتعلّق بمطالب بالإفراج عن مئات المعتقلين الذين ألقت أجهزة "الهيئة" القبض عليهم على مدى الأشهر الماضية، بتهمة الخيانة والتواصل مع جهات أجنبية معادية لها، وثبوت مقتل العديد منهم تحت التعذيب في سجون الجولاني، وتتعلّق كذلك بالوضع المعيشي الخانق الذي يعاني منه السكان بسبب سيطرة الهيئة على جميع مفاصل الاقتصاد، واستحواذها على ريوع المعابر والمحاصيل الزراعية والحركة التجارية عموماً. 

لكنّ هذا الوضع ليس بجديدٍ أبداً، والواقع أنّ توقيت هذه الاحتجاجات، ومستوى زخمها الذي يتعاظم كلّ يوم، وكذلك توسّع وتنوّع الشرائح والقوى والشخصيات التي تعلن تأييدها، أو انضمامها بشكل يومي إلى الاحتجاجات، له دلالاته الأكيدة على وجود خطط جديدة تُرسم لمنطقة الشمال السوريّ، ولا شكّ أنّ المحرّك الأساسيّ لهذه الخطط، هو أنقرة، فما الجديد على هذا الصعيد، وما هي مشاريع أنقرة لمنطقة الشمال السوريّ، وماذا تُخبّئ للجولاني نفسه؟

بعد حراكٍ ومساعٍ سياسية حثيثةٍ قادتها موسكو وطهران، هدفت إلى إحداث تواصل مباشر بين دمشق وأنقرة، أُريدَ لها أنْ تُفضي إلى تسوية سياسية تؤدّي إلى تطبيع العلاقات بين البلدين، بدأ بعض المسؤولين الأتراك، أواسط العام الماضي، بتصدير تصريحات إيجابيّة حول احتمال التوصّل إلى تلك التسوية، أو على الأقل، احتمال البدء بعقد اللقاءات والمشاورات على مستوى عالٍ بين مسؤولي الصف الأول في البلدين، خلال أسابيع أو أشهر قليلة. 

وقد أثارت تلك الأجواء حالة ذعرٍ وغضب بين العديد من أطراف وقادة وكوادر الفصائل المعادية للدولة السورية في الشمال، فقد اعتبر هؤلاء أنّ أيّ تسوية ستحصل، لا بدّ أنْ تجري على حسابهم، وأنّ احتمال تخلّي أنقرة عنهم وفق مصالحها الجديدة، أمرٌ وارد الحدوث في أيّ لحظة.

وفي حين شرع بعض قادة تلك الفصائل والجماعات بالتواصل مع الطرف الأميركيّ، وإبداء استعدادهم العمل معه ضد الدولة السورية، كان الجولاني هو الأسرع والأقدر على التحرّك على الأرض، وذلك بهدف تكريس نفسه و"هيئته" كطرفٍ قويّ لا يمكن تجاوزه أو إهماله أو التضحية به بتلك السهولة، فحرّك فصائله وكتائبه باتّجاه أرياف حلب والرقة، محاولاً طرد بعض فصائل ما يسمّى بـ "الجيش الوطنيّ"، الذي أنشأته أنقرة من بقايا الجماعات والألوية والكتائب مختلفة الأسماء والتوجّهات، وأتبعته بما أطلقت عليه "الحكومة السورية المؤقتة" التي ترعاها وتموّلها في الشمال. 

كان هدف الجولاني هو السيطرة على جميع المعابر في المنطقة، أي وضع يده على جميع منابع الاقتصاد، وإضعاف خصومه بالطبع، والوقوف كجهةٍ وحيدة وقوية يجب التعامل معها كشريك أساسيّ في رسم السياسات الجديدة للشمال. 

لكنّ أنقرة أفشلت خطة الجولاني تلك، وساعدت أذرُعها في فصائل "الجيش الوطني" في استعادة المناطق التي سيطر عليها، ثم استدعت جميع قادة الجماعات والفصائل إلى مدينة "غازي عينتاب"، لتبلغهم أوامرها الصارمة بإيقاف حرب المعابر والمصالح، والتوقّف عن التواصل مع أيّ جهة أجنبية من دون موافقة تركيّة، وعدم الاعتراض على أيّ إجراءات جديدة قد تنتج عن المفاوضات على المسار السوريّ – التركيّ. وكان هذا كلّه، كفيلاً بأنْ يُشعِر الجولاني بالخطر، خصوصاً بعد تنامي قوّة ونفوذ بعض قادة الهيئة التي يقودها، وخشيته من أنْ يقوم الأتراك باستبداله بأحد هؤلاء. 

لذلك شرع الجولاني، منذ حزيران/يونيو من العام الماضي، بتنفيذ حملة اعتقالات واسعة طالت عدداً كبيراً من القادة والمسؤولين والكوادر ضمن "هيئة تحرير الشام"، متّهماً إياهم بالتخابر مع "جهات معادية"، منها الحكومة السورية وروسيا وحزب الله و"قوات التحالف". 

والحقيقة أنّ أموراً كهذه قد حصلت بالفعل، وأنّ الاستخبارات التركية كانت خلف كشفها، لكنّ حملة الجولانيّ لم تتوقّف حتى نهاية العام الفائت ودخول العام الحالي 2024، وقد نتج عن هذا الأمر بالطبع، ازدياد وطأة القبضة الأمنية على المواطنين أنفسهم، بحيث باتت عمليات المداهمة للبيوت في مدينة إدلب وأريافها، والقبض على مدنيين بتهمة العمالة أو الفساد، تجري بشكل شبه يوميّ، وازداد عدد المعتقلين والمختَفِين والمُغيّبين في سجون الجولاني، كما انتشرت أخبار مقتل العديد منهم في تلك السجون. 

ومع ذلك بقيت أصوات الاحتجاج خافتة إلى حدّ كبير، إلى حين انتشار خبر مقتل المُعتَقَل عبد القادر حكيم، وهو أحد عناصر فصيل "جيش الأحرار"، المُتّهم بـ "التعامل والتخابر"، لتندلع التظاهرات عقب ذلك، وتنتشر في مناطق متفرقة من شمال غربيّ سوريا، خصوصاً في مدينة إدلب، ومدينة "بنّش" الواقعة شرقي إدلب، وفي بلدة "كللي" إلى الشمال من مركز المحافظة، وفي مدينة "الأتارب" في ريف حلب الغربيّ، ومدينة "مارع" في ريف حلب الشماليّ، مطالبة برحيل الجولانيّ، والإفراج عن المعتقلين فوراً، وتبييض السجون، وتشكيل مجلس شورى جديد، وردع الأجهزة الأمنية ومنعها من التضييق على الناس.

لقد خلّفت مسألة الاعتقالات التي أمر بها الجولانيّ الكثير من الحساسيات والخلافات بين قيادات وكوادر "الهيئة"، لدرجة بروز تكتّلات واضحة في صفوفها، أهمّها "تكتّل بنّش" الذي يضم عدداً بارزاً من القيادات والكوادر الذين يحظون بنفوذ في المنطقة، الأمر الذي زاد من قلق الجولانيّ وتخبّطه، فخرج في بيانٍ يعلن فيه عزمه التحقيق مع مرتكبي التجاوزات ومحاسبتهم، ومحاسبة الفاسدين، والاعتذار من كلّ المتّهمين الذين "ثبتت براءتهم". 

وقد شرع بالفعل في إخراج العديد من هؤلاء من السجون، لكنّ ذلك لم يمنع اتساع رقعة التظاهرات والاحتجاجات، ولا حدّ من الغضب المتصاعد في وجه الهيئة وقائدها.

ثمّة ما تجب الإشارة إليه هنا، وربطه بكلّ ما يحدث، وهو مبادرة أنقرة في الأشهر الأخيرة إلى إعادة هيكلة وتنظيم "الجيش الوطني" الذي يأتمر بأمرها، والبدء بإنشاء مؤسسات عسكريّة تشبه ما يقوم في الدول المستقلة، وزيادة دعم "الحكومة المؤقتة" ومؤسساتها، والإمعان في ربط كل هذا، بما في ذلك الشؤون العسكرية والسياسية والخدمية، بمؤسسات النظام التركيّ، لتبدو تلك المناطق وكأنها جزء من تركيا ذاتها.

وتريد أنقرة من خلال تكريس هذا الواقع وتمتينه، أنْ تُصعّب الأمور في أيّ مفاوضات مقبلة مع الحكومة السوريّة، بحيث يصبح تفكيك هذا الواقع وإعادة الأرض والمؤسسات إلى الدولة السورية، أمراً بالغ الصعوبة في وجود عشرات الألوف من "الضباط والجنود" والموظفين (بل حتى المدارس والمستشفيات والصيدليات) الذين يعملون وفق لوائح قوانين الدولة في تركيا، ويرتبطون بها بشكل مباشر.

 وسيكون البديل هو عرض دمجهم في مؤسسات الدولة السوريّة، ليكونوا جيشاً كاملاً لتركيا، يعمل داخل الدولة السورية، ويصبح نفوذ أنقرة أشدّ خطراً ممّا هو عليه الآن بينما المنطقة تحت الاحتلال التركيّ المباشر.

ولأنّ أنقرة تدرك صعوبة المضيّ في خططٍ، أو تسويات مفترضة، وهي تتأبّط ذراع الجولانيّ، الذي يتصدّر و"هيئته" لوائح الإرهاب في سوريا ومعظم دول العالم، وتُجلسه إلى طاولة التسويات والحلول، وتحجز له مكاناً في مستقبل المنطقة، فكان لا بدّ من إزاحته، وهي لن تجد أفضل من شعار "الشعب يريد إسقاط الجولانيّ"، لتحقيق هذا الأمر، وبالتالي استبداله، وقد بات عبئاً ثقيلاً، بوجوهها وأذرعها وأدواتها المضمونة والمناسبة للمرحلة المقبلة.

ولقد أدرك الجولانيّ كلّ ذلك، كما تأكّد في الأيام الماضية أنّ كلّ بياناته ووعوده و"اعتذاراته" لم تُجدِ نفعاً أو تترك أثراً على "الحراك" الآخذ بالتصاعد ضدّه، وأنّ احتواء الوضع الجديد بات صعباً، لذلك قرّر الهروب إلى الأمام وافتعال وضع مستجدّ يُشغِل فيه الفصائل والناس معاً، فبادر إلى إشعال جبهة ريف اللاذقية، وبدأت مجموعاته بالفعل منذ أيام بشنّ الهجمات المكثّفة على مواقع الجيش العربي السوري على طول الجبهة، ولم يتأخّر الجيش السوريّ عن الردّ بقوّة على تلك الهجمات، كما كثّف هجماته، خصوصاً بالطيران المُسيّر، على مواقع "هيئة تحرير الشام" والفصائل الأخرى في عموم منطقة إدلب والريف الحلبيّ، ولعلّ كثرة استخدام الطيران المسيّر من قبل الجيش السوريّ في الآونة الأخيرة، وتحقيقه نتائج كبيرة من خلال ذلك، قد شكّل بدوره عامل ضغط جديداً على الجولانيّ، كما على أنقرة.

 فمن جهة، أكّدت الدولة السورية عزمها القضاء على الإرهاب بالقوة العسكرية، والمضيّ في هذا الأمر حتى النهاية، ومن جهة مقابلة، سرّعت رسائل دمشق الناريّة هذه، من سعي أنقرة إلى تطبيق خططها الجديدة، التي يبدو أن لا مناص من أنْ يكون الجولاني أحد أبرز قرابينها.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.