تركيا والفرص المتساقطة من الأزمة الأوكرانيّة
هذا ما يفسر قدرة أنقرة على التدخل وانخراطها المباشر أحياناً في العديد من الأزمات الدولية والإقليمية.
تتمتع تركيا بمزايا كثيرة تتيح لها هامشاً واسعاً من حرية الحركة في الساحة الدولية، قد لا تتمتع به دول أخرى أكبر منها مساحة وأعظم تعداداً. على الصعيد الجغرافي، تقع تركيا الَّتي لا تتجاوز مساحتها 764 ألف كم مربع على المفصل الرابط بين الطرف الجنوبي لقارة آسيا والطرف الشرقي لقارة أوروبا، وتبدو مؤهلة للقيام بأدوار عالمية وإقليمية متنوعة.
ولأنها شبه جزيرة تحيط بها المياه من 3 جوانب، وتطل على 3 بحار دولية هي: المتوسط في الجنوب، وإيجه في الغرب، والبحر الأسود في الشمال، كما تطلّ على بحر رابع يقع بالكامل داخل مياهها الإقليمية، هو بحر مرمرة، فبوسعها التحكّم في اثنين من أهم المضايق البحرية، هما البوسفور، الذي يربط بين بحر مرمرة والبحر الأسود، والدردنيل الذي يريط بين بحر مرمرة والبحر المتوسط.
إذا أضفنا إلى ما تقدم أنَّ لتركيا حدوداً برية يبلغ طولها 2726 كيلومتراً، تجعلها في تجاور مباشر مع 8 دول أوروبية وآسيوية وعربية، هي: اليونان وبلغاريا وجورجيا وأرمينيا وأذربيجان وإيران والعراق وسوريا، وتتمتع بشريط ساحلي يصل طوله إلى 7200 كم، تطلّ به على كلّ البحار الأربع السابقة الذكر، يتبين لنا بوضوح ما تحظى به تركيا من أهمية جيواستراتيجية.
أما على الصعيدين الإثني والثقافي، فيلاحظ أنّ وجود العنصر التركي، ببعديه السلالي واللغوي، لا يقتصر على حدود تركيا الدولة، إنما يمتد ليشمل العديد من الدول المجاورة لها، ما يتيح لها القدرة على ممارسة تأثير ثقافي واجتماعي، وبالتالي سياسي، في منطقة جغرافية واسعة تسكنها شعوب تنتمي إلى الأصول الإثنية نفسها أو تتحدّث إحدى اللهجات التركية.
بعبارة أخرى، يمكن القول إنَّ المعطيات الجيوسياسية والتاريخية تتيح لتركيا فرصة فريدة لكي يكون لها حضور دائم ومؤثر في ما يجري في مناطق مختلفة من العالم، وخصوصاً وسط آسيا وشرق أوروبا والشرق الأوسط وحوض المتوسط، وهو ما يفسر قدرتها على التدخل، وكذلك انخراطها المباشر أحياناً في العديد من الأزمات الدولية والإقليمية.
ولكنَ وجود هذه المعطيات شيء، والقدرة على استغلالها لصياغة سياسة خارجية نشطة وفعالة شيء آخر، يتوقف على عوامل داخلية وخارجية عديدة. حين أصبح بمقدور تركيا تحقيق قدر معقول من الاستقرار السياسي، عقب وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة فيها عام 2002، تمكّنت من تحقيق ما يشبه المعجزة الاقتصادية، كما تمكنت أيضاً من توظيف مزايا الموقع والتاريخ في صياغة سياسة خارجية نشطة، على الرغم من اختلاف أهداف هذه السياسة وفاعليتها من مرحلة إلى أخرى؛ ففي الوقت الذي كان أحمد داوود أوغلو هو المسؤول الرئيس عن صياغة سياسة تركيا الخارجية وتنفيذها، تمحورت هذه السياسة حول هدف "تصفير المشكلات"، أي على توظيف المزايا النسبية لتركيا من أجل التوصل إلى تسويات للمشاكل والأزمات المؤثرة في حاضر تركيا ومستقبلها.
وعندما أصبح إردوغان يسيطر منفرداً على آليات صنع السياسة التركية، بجناحيها الداخلي والخارجي، سعى لتوظيف هذه المزايا لخدمة طموحاته الشخصية، وخصوصاً بعد اندلاع "ثورات الربيع" التي نجم عنها صعود تيار الإسلام السياسي في العالم العربي، ولرسم سياسة خارجية تتمحور حول فكرة "العثمانية الجديدة"، أي تستهدف التحرك النشط على الساحة الدولية من أجل الترويج لطموحات إمبراطوية قديمة، ما دفع تركيا إلى الانخراط المباشر في العديد من الأزمات الدولية والإقليمية، كالأزمة السورية، والأزمة الليبية، والأزمات المتعلقة باستخراج غاز البحر المتوسط وتسويقه...
وحين أفضت هذه السياسة إلى تعقيدات كبيرة على الصعيدين الداخلي والخارجي، بدأ إردوغان يتخذ مواقف أقرب ما تكون إلى "البهلوانية" منها إلى المواقف المستندة إلى حسابات عقلانية رشيدة، ويحاول توظيف مزايا تركيا الجيوسياسية والثقافية لرسم معالم لسياسة خارجية تلعب على كل الحبال، وتحاول إرضاء جميع الأطراف المتصارعة، وهو ما تعكسة سياسة تركيا تجاه الأزمة الأوكرانية الحالية.
من المعروف أنّ علاقة تركيا بحلف الناتو، منذ انضمامها المبكر إليه عام 1952، تبدو عميقة ومتجذرة، ومن ثم لم يكن غريباً أن تسعى لمحاولة تحقيق التناغم بين سياستها تجاه الأزمة الأوكرانية والسياسة التي تنتهجها وتقودها الولايات المتحدة الأميركية في هذه الأزمة.
ولأنّ السياسة الأميركية بصفة عامة، والأطلسية بصفة خاصة، تجاه هذه الأزمة تستهدف إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا الاتحادية، من خلال تقديم أقصى دعم عسكري وسياسي للحكومة الأوكرانية لتمكينها من الصمود وتحويل الحرب في أوكرانيا إلى حرب استنزاف لروسيا، فقد كان من الطبيعي أن تحاول تركيا التأقلم مع هذه السياسة، وهو ما يفسر، من ناحية، موقفها الرافض من حيث المبدأ للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا والمندد بها، كما يفسر، من ناحية أخرى، قرارها تزويد أوكرانيا بشحنات عسكرية بلغت قيمتها 50 مليون دولار، تضمنت مسيرات بيرقدار الشهيرة التي يقال إنها أثبتت فاعلية واضحة في ميادين القتال، غير أن الحرص على عدم الإضرار بعلاقاتها مع روسيا في الوقت نفسه، دفع تركيا إلى إعلان عدم التزامها بالعقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة عليها، بدعوى عدم إيمانها بجدوى العقوبات، واعتقادها بأنَّ ضررها أكثر من نفعها، وبأنَّ العقوبات الوحيدة الملزمة من منظور القانون الدولي هي تلك التي تفرضها الأمم المتحدة، وليس أي طرف دولي آخر.
كان من اللافت للنظر أيضاً حرص تركيا على التأكيد أنَّ المعدات العسكرية التي قدمتها لأوكرانيا ليست مساعدات، بل "صفقة تجارية" خالصة، وعدم تسرعها في الاستجابة إلى طلب الحكومة الأوكرانية إغلاق المضايق التركية أمام السفن الحربية الروسية، إذ اكتفت بإعلان التزامها تطبيق بنود اتفاقية مونترو على كل أطراف النزاع، والتي تتيح لها منع السفن الحربية لكل الدول، المشاطئة وغير المشاطئة للبحر الأسود، من عبور مضيقي البوسفور والدردنيل.
ولكي تؤكد موقفها غير المنحاز في الأزمة الأوكرانية، نشطت تركيا على مختلف المستويات السياسية والدبلوماسية للقيام بدور الوسيط، محاولة الإيحاء بأنها تعمل جاهدة على إيجاد تسوية سياسية لها تكون مقبولة من جميع الأطراف المعنية. وعندما لم تكلل جهودها بالنجاح في هذا المنحى، سعت لتركيز جهودها على محاولة إيجاد مخرج لأزمة الغذاء الناجمة عن عدم قدرة كل من روسيا وأوكرانيا، وهما من أكبر منتجي القمح في العالم، من تسويق منتجاتها بسبب الحرب، وهي أزمة تهم العالم كله، بما في ذلك تركيا نفسها، وما تزال الجهود التركية متواصلة في هذا الاتجاه.
في سياق كهذا، يمكن القول إن الأزمة الأوكرانية تعد كاشفة، ليس للهامش الواسع الذي تحظى به تركيا على صعيد الحركة على الساحة الدولية فحسب، ولكن أيضاً للمأزق الذي يمكن أن تواجهه سياسة اللعب على كل الحبال ومحاولة إرضاء جميع الخصوم، فالركيزة الأساسية لسياسة تركيا الخارجية تنطلق من كونها حليفاً استراتيجياً موثوقاً به للولايات المتحدة بصفة خاصة، وللغرب بصفة عامة، غير أنَّ حرص إردوغان الشديد على هذا التحالف الاستراتيجي لم يحل دون تصادمه، ليس مع الولايات المتحدة فحسب، وإنما مع الاتحاد الأوروبي أيضاً، في قضايا متنوعة، كوضع الكرد في سوريا وعضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي.
ومن المعروف أن الولايات المتحدة تمارس في سوريا سياسة تتناقض في بعض جوانبها مع السياسة التركية، كالتحالف مع قوات سوريا الديمقراطية، رغم توافقهما إلى حد التطابق في جوانب أخرى، وخصوصاً الجهود الرامية إلى إطاحة الرئيس بشار الأسد ونظامه.
ولا شك في أنَّ تركيا كانت تأمل أن يشفع لها تحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة وثقلها في حلف الناتو كي تتمكّن من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي الذي قدمت طلباً للالتحاق به منذ العام 1987، وهو ما لم يحدث. ولم يفت تركيا بالطبع أن تبدي استغرابها وتهكمها تجاه ما يبديه الاتحاد الأوربي من لهفة لقبول عضوية أوكرانيا، فيما طلبها لعضوية هذا الاتحاد ما زال يتلكأ في أدراج البيروقراطية الأوروبية منذ أكثر من ثلث قرن. وعلى الأرجح أن يكون باب العضوية في هذا الاتحاد الأوروبي المسيحي الهوية قد أوصد نهائياً في وجه تركيا المسلمة!
وأياً كان الأمر، من الواضح أنَّ الأزمة الأوكرانية أتاحت أخيراً الفرصة لتركيا للضغط على الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، وربما للانتقام منهما أيضاً في آن، فجميعهم يتعجل قبول السويد وفنلندا أعضاء في حلف الناتو، بعد تقدمهما رسمياً بطلبات لعضويته.
ولأنّ قبول الأعضاء الجدد يتطلب إجماع الأعضاء القدامى، فبوسع تركيا استخدام الفيتو للحيلولة دون انضمام السويد وفنلندا، الأمر الَّذي قد يفجّر أزمة كبرى داخل الحلف، ويكشف هشاشة تماسكه، رغم قوته البادية فوق السطح.
لذا، يُتوقع أن تبذل تركيا كل ما تستطيع للوصول إلى أقصى ما تستطيع الحصول عليه في مقابل موافقتها على انضمام هاتين الدولتين، كالموافقة على منطقة عازلة في سوريا بعمق 30 كم، تكون تحت سيطرتها المنفردة، أو على الأقل "حزام أمني" يضمن عدم وجود الكرد عليه، وربما تسعى أيضاً للحصول على ضمانات من الدول الأوروبية تسمح بالتعامل بطريقة مختلفة مع طلبها للالتحاق بعضوية الاتحاد الأوروبي.
ولا شك في أنها تدرك أنَّ طلبها الخاص بالمنطقة العازلة في سوريا سوف يضعها في مواجهة مباشرة، ليس مع الولايات المتحدة فحسب، إنما مع روسيا أيضاً، وربما تدرك في الوقت نفسه أن احتمال تليين الاتحاد الأوروبي لموقفه من قبول تركيا عضواً فيه يبدو متعذراً، ما لم يكن مستحيلاً.
الأسابيع القادمة ستكشف لنا حجم المكاسب التي سيكون بمقدور تركيا تحصيلها من تطورات الأزمة الأوكرانية، وربما تكشف أيضاً مستقبل سياسة انتهازية تجيد الرقص على كل الحبال، وتحاول إرضاء جميع الأطراف المتصارعة من دون بوصلة من مبادئ أو أخلاق!