تركيا تفعّل دورها في آسيا الوسطى.. روابط اللغة

تعمل دول آسيا الوسطى على تعميق علاقاتها الدفاعية مع تركيا، فيما تحاول أنقرة توسيع نفوذها بطرق لم تكن ممكنة في التسعينيات.

  • تحوّلت أدوات السياسة الخارجية التركية تجاه آسيا الوسطى خلال حقبة إردوغان، وواكبت هذه التغييرات إعادة توجيه تركيا من الغرب نحو أوراسيا.
    تحوّلت أدوات السياسة الخارجية التركية تجاه آسيا الوسطى خلال حقبة إردوغان، وواكبت هذه التغييرات إعادة توجيه تركيا من الغرب نحو أوراسيا.

فيما اتجهت أنظار المراقبين نحو تحريك المياه الراكدة في العلاقات الإسرائيلية التركية، بعد قرار المحكمة التركية الإفراج عن السائحين الإسرائيليين بتهمة التجسس، من خلال تصويرهما منزل الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في اسطنبول، واستخدام تركيا الأمن كبوابة للدبلوماسية، جاءت محادثة إردوغان مع رئيس "إسرائيل" يتسحاق هرتسوغ، وتواصله للمرة الأولى مع رئيس وزرائها نفتالي بينت، ليضعا الأمر في الهدف المنشود.

تمثّل الحدث الأبرز في القمة الثامنة لمجلس التعاون للدول الناطقة بالتركية، التي عُقدت في إسطنبول في الـ 12 من تشرين الثاني/ نوفمبر لتؤكد الدورالنشط لتركيا في الترويج لتغيير اسم المجلس التركي، إلى اسم يتماشى مع استراتيجيتها الجيوسياسية.

حضر القمة رؤساء أذربيجان وكازاخستان وقيرغيزستان وأوزبكستان، وهم أعضاء كاملون في المنظمة إلى جانب تركيا، وكذلك رئيس تركمانستان ورئيس وزراء المجر، اللذان يتمتع بلداهما بوضع مراقب، وتمّ تغيير الاسم رسمياً إلى منظمة الدول التركية، وهكذا تمّ تسييس المنظمة وتمت ترقيتها إلى اتحاد سياسي.

 تميل تركيا إلى استغلال فكرة الترك لإنشاء دائرة دبلوماسية جديدة. من الواضح أن أنقرة عازمة على تعزيز العلاقات مع الدول المجاورة لها، كما تسعى إلى توسيع نفوذها الإقليمي والدولي وإعلاء مكانتها، وإذا أمكن، إقامة تحالف سياسي وعسكري.

تغيير اسم المنظمة إلى "منظمة الدول التركية" يجسّد في جوهره صعود القومية التركية. و"التركي" هو في الواقع مفهوم تاريخي وثقافي. ركّز الاجتماع على تعزيز التعاون داخل المنظمة، وفي مجالات الطاقة والبنية التحتية والنقل، وكذلك الوضع في أفغانستان والتطورات الإقليمية والدولية الأخرى. توفّر المنصة للقادة فرصة لاستخدام شراكتهم للاستهلاك السياسي في الداخل، إضافة إلى الحصول على بعض الاستقلالية عن صراع القوى العظمى العالمية، مثل الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا والصين، وبناء اقتصاد إقليمي ودبلوماسي ومجمّع أمني. 

شدد كل من إردوغان والرئيس الأذربيجاني إلهام علييف في القمة على أهمية ما يسمّى ممر زانجيزور، وهو طريق نقل تطمح باكو إلى اعتماده عبر الأراضي الأرمينية لربط البر الرئيسي لأذربيجان المستقل في ناختشيفان. بالنسبة إلى تركيا، لا يعني هذا المسار ارتباطاً برياً مع أذربيجان فحسب، بل يعني أيضاً بوابة إلى حوض بحر قزوين وآسيا الوسطى.

أدوات التدخل التركي في آسيا الوسطى

تحوّلت أدوات السياسة الخارجية التركية تجاه آسيا الوسطى خلال حقبة إردوغان، أي منذ عام 2003. وواكبت هذه التغييرات إعادة توجيه تركيا من الغرب نحو أوراسيا، كما ارتبطت بالصراعات السياسية الداخلية لتركيا. 

احتضنت تركيا الأفكار القومية والسياسات الموروثة من الإمبراطورية العثمانية منذ التسعينيات، وعززتها مع عقيدة أحمد داود أوغلو في العمق الاستراتيجي التركي، وعادت تركيا إلى منطقة آسيا الوسطى في ظل المُثل العثمانية الجديدة. حتى بعد سقوط داود أوغلو في عام 2016، ظل الاتجاه والخطاب الرسميان للسياسة الخارجية على حالهما. 

تهدف مبادرة آسيا الجديدة هذه إلى تحسين العلاقات بين الدول، والقدرة التجارية للقطاع الخاص، والتعاون الأكاديمي، والتفاعل بين الشعوب، وتعَدّ آسيا الوسطى الوجهة الثانية لتلقّي المساعدة الإنمائية الرسمية من تركيا؛ ففي عام 2020 جرى إعطاء مساعدات بقيمة 166.12 مليون دولار أميركي، وهي أكثر من إجمالي المساعدات التركية لأفريقيا (102.64 مليون)، وأقل من تلك المقدمة إلى أوروبا(233.31). تشمل مساعدات أنقرة تلك النواحي الثقافية والتعليمية والأكاديمية والبنية التحتية والصحية.

منذ الثمانينيات، أنشأ تلاميذ فتح الله غولن العديد من المدارس في آسيا الوسطى، فضلاً عن المناطق المجاورة الأخرى. كان الهدف الأساسي لأتباع غولن هو إعادة الإسلام إلى هذه البلدان. بعض الجمهوريات السوفياتية السابقة حظر مدارس غولن. كان التعليم إحدى نقاط الاختلاف بين أوزبكستان وتركيا- إردوغان حتى قبل محاولة الانقلاب عام 2016، بينما أغلق نظام الرئيس الراحل إسلام كريموف جميع المدارس الثانوية التركية المرتبطة بأنصار غولن. 

بعد محاولة الانقلاب عام 2016، استولت أنقرة من خلال "مؤسسة التعليم" (معارف وقفي) على موارد أتباع غولن في آسيا الوسطى، وأصبحت وكالة التعاون والتنسيق التركية، TİKA، والمؤسسات الحكومية الدولية الأخرى أكثر أهمية منذ ذلك الحين.

حدود العلاقة بين تركيا ودول آسيا الوسطى 

لم تعرب حكومات آسيا الوسطى علناً عن قلقها بشأن النشاط العسكري المتزايد لتركيا خارج حدودها، إلا أن هذه الدول ظلت محايدة وغير مبالية خلال حرب كاراباخ الثانية (أيلول/سبتمبر– تشرين الثاني/ نوفمبر 2020)، بينما أيدت أنقرة صراحة باكو في معركتها ضد أرمينيا وساعدتها عسكرياً، ودعا الرئيس إردوغان إلى الدعم العام، لكن أعضاء المجلس التركي لم يقفوا إلى جانب أذربيجان أثناء النزاع. تركمانستان كانت على وجه الخصوص الأكثر قلقاً من نفوذ تركيا المتزايد على العالم التركي بعد انتصار كاراباخ.

على الرغم من الشعبية المحلية للتعليم التركي، تجنّبت عدة دول، على رأسها أوزبكستان، أي نفوذ تركي، من أجل الحماية من تهديدات الأسلمة والتطرف. لا تزال طشقند مترددة في تخفيف قبضتها على مجالها التعليمي بعد انتصار كاراباخ، كذلك رفضت الحكومة الأذربيجانية إقامة مدارس تركية قومية، ثم قبِلتها بشرط وضع المدرسة تحت سيطرة الدولة. هناك نقاط خلاف حتى مع أقرب حليف لتركيا، وحذرٌ من التدخل في شوؤن هذه الدول. كانت قيرغيزستان الدولة الوحيدة التي نفت علانية تورط غولن في محاولة الانقلاب عام 2016 ونفذت وكالة الاستخبارات التركية مهمة اختطاف أورهان إيناندي - وهو عضو بارز في حركة غولن - في بيشكيك وأحضرته إلى تركيا. احتجّ أعضاء في المنظمة ومدنيون قيرغيزيون ضد تركيا لأسابيع، بينما احتجت سلطات قيرغيزستان على الحادث باعتباره انتهاكاً لسيادتها، في تموز/يوليو 2021. 

من رفض النفوذ التركي إلى شريك استراتيجي

مع انسحاب الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي من أفغانستان، حصل فراغ وخوف من عدم الاستقرار لدى دول المنطقة، ولا سيما مع تصاعد دور الصين في آسيا الوسطى، والتغيرات الجيوسياسية الحاصلة. مع احتفاظ بكين بهيمنتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية في المنطقة، تحاول دول آسيا الوسطى إقامة علاقات وثيقة مع أطراف مثل "إسرائيل" وباكستان وتركيا لخلق توازن. تتنافس تركيا مع روسيا في جنوب القوقاز وسوريا، وتعزز صورتها في أوكرانيا كشريك. أشارت كازاخستان وأوزبكستان بالفعل إلى تركيا على أنها "شريك استراتيجي". أوزبكستان أصبحت خامس دولة عضو في المجلس. 

زادت قوة روسيا في آسيا الوسطى، لكن اللغة الروسية تفقد مكانتها في المنطقة، ويحاول بعض الدول الدفاع عن تراثه التركي المشترك؛ فيما تستعد كازاخستان وأوزبكستان للتبديل الأبجدي في عشرينيات القرن الحالي. في ظل هذه الظروف، تقدّم تركيا مساعدات عسكرية لدول المنطقة، حتى نظام تركمانستان لا يمكنه أن يظل غير مبالٍ بصناعة الدفاع التركية: تم تقديم طائرة تركية الصنع من طراز بيرقدارTB2 إلى الجمهور التركماني خلال الاحتفال بالذكرى الثلاثين للاستقلال، وانضمت تركمانستان أخيراً إلى المجلس التركي. تعمل دول آسيا الوسطى على تعميق علاقاتها الدفاعية مع تركيا، كما أن أنقرة تحاول توسيع نفوذها بطرق لم تكن ممكنة في التسعينيات.

يمكن للعلاقة مع الدول التركية أن تكون مفيدة لإردوغان في الداخل، ففكرة القومية تنال حظوة في المجتمع التركي أكثر من الفكرة الإسلامية، وقد تقود الى ارتفاع شعبيته على أبواب الانتخابات، وتخلق جبهة يمينية متجانسة، لكن مَن سيقنع روسيا والصين بأن هذا المشروع التركي لن يكون موجّها ضدهما؟ لا سيما في ظل التحذيرات بأن على الصين أن تظل يقِظة ضد انتشار القومية التركية والقومية الإسلامية التي قد تؤدي إليها منظمة الدول التركية، لأن انتشار مثل هذه الأفكار يمكن أن يمثّل مصدر إلهام لبعض القوى المتطرفة والانفصالية التي حاولت تقسيم الصين.