بين ضعف بايدن وشعبوية ترامب.. الولايات المتحدة تسلّم بفقدان ريادتها
التاريخ الأميركي، الحديث على الأقل، يدلل على إصرار الدولة العميقة على عدم اعتبار الواقع المجتمعي مؤثّراً حاكماً في مشروعها للتفوّق والريادة العالمية، حيث إنها تفترض العكس من ذلك.
كما كان متوقّعاً، لم يؤدِ الثلاثاء الكبير إلى أيّ مفاجأة على مستوى نتائجه، حيث اكتسح الرئيس السابق دونالد ترامب حتى الآن 12 ولاية مقابل فوز نيكي هايلي بولاية فيرمونت، بالتوازي مع حسم الرئيس بايدن لـ 14 ولاية من أصل 15.
وعليه، لم يعد من الضروري الانتظار لـ 12 و15 آذار/مارس حتى يحسم كل منهما حجز مقعده كمرشح لحزبه في الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، إذ إن الشارع الأميركي بالتوازي مع المستوى السياسي الأوروبي والدولي قد بدأ بالاستعداد لمرحلة التنافس المباشر بين الاثنين، مع ما سينطوي عليه هذا التنافس من نتائج على مستوى التوجّهات الداخلية والخارجية لكليهما، وما تعنيه هذه النتائج من تبلور لموقع الولايات المتحدة في المرحلة المقبلة.
ففي ظل الانقسام المجتمعي الذي ساعد دونالد ترامب في تغذية بذوره في الداخل الأميركي خلال فترته الرئاسية السابقة، والذي شهدنا أعلى مراحله في 6 كانون الثاني/يناير 2021 يوم اقتحم أنصاره مبنى الكونغرس، بما عزّز فرضيّة تحوّل المجتمع الأميركي نحو الانشغال بصراعات داخلية، إضافة إلى الترنّح الذي طغى على سلوك بايدن في سياساته الخارجية، برزت إشكالية البحث في موقع الولايات المتحدة الأميركية على مستوى النظام الدولي، حيث قد يؤدي انشغال أيّ إدارة مقبلة بالتسويق لتوجّهها كعلاج كفيل بمعالجة هذا الانقسام إلى تراجع في اهتمامها بالقضايا الدولية، أو إلى تغيير آليات مقارباتها لهذه الإشكاليات.
فيما يتعلّق بالنموذج الأميركي، يُفترض عدم قراءة سلوك الإدارة فيها وفق الآليات الحاكمة نفسها لأيّ نظام سياسي آخر، لناحية التركيز في كيفية تمتين الجبهة الداخلية واعتبار مدى تماسك هذه الجبهة معياراً حاكماً ينعكس فاعلية على مستوى السياسة الخارجية.
فالتاريخ الأميركي، الحديث على الأقل، يدلل على إصرار الدولة العميقة على عدم اعتبار الواقع المجتمعي مؤثّراً حاكماً في مشروعها للتفوّق والريادة العالمية، حيث إنها تفترض العكس من ذلك، إذ إنها تقدّر أنّ تفوّقها وريادتها يشكّلان عاملاً أساسياً مساهماً في تحقيق هذا الاستقرار من دون أن يكون لشخصية الرئيس أي تأثير عميق.
غير أن الواقع الحالي يدلل على عكس ما تقدّم حيث تظهر شخصية كلا المرشحين كعامل مؤثّر في هذه المرحلة. وبالتالي، تجتمع طبيعة كلّ من المرشحين بما تؤدّيانه من تأثير على الواقع المجتمعي الأميركي لتضعا المهمة المقدّسة للدولة العميقة، المتجسّدة بالحفاظ على الموقع وضمان استمرار التفوّق الأميركي، أمام أزمة مستجدة تؤكد معظم التقديرات استفحالها واستحالة حلّها في القريب العاجل.
بالطبع، لا يمكن اعتبار كلا المرشحين بصفاتهما سببين وحيدين للأزمة المشار إليها، حيث إن الظروف الدولية التي طرأت منذ احتلال العراق عام 2003 قد فرضت نفسها عاملاً مؤثّراً أيضاً. فالتوجّه الدولي نحو محاولة ضبط السلوك الأحادي الأميركي بما أدى إلى إفشال مخطط ما بعد احتلال العراق، ومحاولة تطويق القوى المناهضة كروسيا والصين والجمهورية الإسلامية بموقعها الإقليمي.
إضافة إلى تبلور توجّهات التعددية في سلوك تلك القوى وغيرها من خلال تأطير سياساتها الخارجية عبر تحالفات ومنظمات، قد ساهم في إظهار محدودية القدرات الأميركية في ضمان عدم ظهور أيّ منافس، وساعد في تسليط الضوء على محدودية قدرات الرؤساء الأميركيين التي كانت قد تكرّست في الوعي العالمي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي على أنها خارقة.
فبنتيجة هذا الواقع الدولي المتبلور حول فكرة التعددية وحول التركيز الدولي على مساوئ الأحادية والتفرّد الأميركي، إضافة إلى رفض أساليب الإملاء والفوقية وادّعاء المثالية التي واظب عليها رؤساء الولايات المتحدة منذ بوش الأب، بدأ المجتمع الأميركي، خصوصاً بعد تولّي الرئيس السابق دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة عام 2017 يستشعر فشل الرؤساء الأميركيين في تكريس دورهم كمرجع معياري يضبط التوجّهات العالمية.
حيث إنّ توجّه دونالد ترامب لاستبدال مرتكزات الخطاب السياسي الأميركي التقليدي، كقيم ومعايير عالمية، بأخرى شعبوية تستهدف إبطال أثر عقود طويلة من التنظير والتفكير الاستراتيجي، يتلاقى مع سلوك الرئيس الحالي جو بايدن لناحية التدليل العرضي على ضعف الولايات المتحدة الأميركية من خلال عدم وضوح مدى فاعلية السياسات الخارجية الأميركية، خصوصاً في أوكرانيا إلى غزة.
وعليه، يمكن التقدير أن المجتمع الأميركي قد يتوقّف اليوم عن التفكير في كيفية الحفاظ على موقع أميركا الريادي العالمي، ويوجّه اهتمامه نحو واقعه المنقسم على ذاته.
خلال الحرب الباردة وفي المرحلة اللاحقة حتى فترة رئاسة باراك أوباما، كانت الإدارات الأميركية تدلّل على فاعلية في تنفيذ استراتيجياتها من خلال تركيزها على رسم أطر واضحة لسياساتها وأساليبها في المواجهة.
ويمكن من خلال خطابات رؤساء تلك المرحلة حول حالة الاتحاد لمس كيفية مقاربتهم لواقع الولايات المتحدة عبر محاولة تقديم رؤية تساعد في توحيد وجهات النظر بين كلا الحزبين، بما يمثّلانه على المستوى الداخلي، حول القضايا المهمة التي تواجههم.
غير أن الواقع الذي فرضه دونالد ترامب والذي طغى في مرحلة بايدن، خصوصاً في خطابه الأخير حول حالة الاتحاد، قد دفع لتقدير مختلف في مضامين هذا النموذج من الخطابات.
فمن خلال مقاربة كلّ من خطاب عام 2020 لدونالد ترامب والخطاب الأخير الذي ألقاه جون بايدن منذ عدة أيام، يمكن ملاحظة حجم جهدهما المبذول من أجل تجميل وتعظيم صورتيهما الشخصية والمحافظة على سماتهما الخاصة، بالتوازي مع محاولة كل منهما لإلقاء اللوم على الآخر، ومن دون أن يقدّما رؤية واقعية للتعقيدات التي واجهت وتواجه مشروع الولايات المتحدة.
وانطلاقاً من تفاعل الشارع الأميركي مع هذين النموذجين الخطابيّين، من دون أي محاولة للبحث عن نموذج ثالث يصلح ليعبّر عن موقع الولايات المتحدة الذي يدّعي الريادة، يتمسّك جمهور كلّ من الرئيسين برؤية يصنّفها على أنها مثالية من دون أن يُخضعها لفحص يُقدّر من خلالها مدى توافقها مع المصالح العليا للولايات المتحدة، ويكتفي باعتبارها صائبة بمجرد دغدغتها لمشاعره وتوجّهاته الغرائزية.
وبالتالي، فمن خلال تقييد مصطلحات الخطاب السياسي لدونالد ترامب بقيود شعبوية تستهدف تجييش جزء من الشعب الأميركي وفق أسس عنصرية تتعلّق باللون أو الثقافة أو الدين من جهة، ومحاولة بايدن إثبات قدراته الذهنية وصحة خياراته السياسية على مستوى الاقتصاد وحربَي غزة وأوكرانيا من جهة ثانية.
وذلك من دون أن يسعى كلاهما لتقديم رؤية تساهم في رأب الصدع الذي يتعمّق بين مكوّنات المجتمع الأميركي، وتعالج ترنّح الولايات المتحدة وعدم قدرتها على مجاراة خصومها في أكثر من مكان في العالم، يمكن التقدير أنّ كلّيهما، كمرشّحين نهائيّين للانتخابات الرئاسية المقبلة، قد سلّما بعدم القدرة على استعادة دور الولايات المتحدة المحوري، وأنهما سيكتفيان في هذه المرحلة بالتغنّي بإرث الأحادية وبتقديم نموذجيهما لأميركا العظيمة كمادة انتخابية فقط.