بيان عمّان الخماسي.. أول خريطة طرق عربية بمشاركة دمشق لحل الأزمة السورية
يعد بيان عمّان قفزة نوعية في علاقات سوريا العربية بكل المقاييس، ويمكن وصفه من دون أدنى مبالغة بأنه خريطة طرق لإنهاء القطع والقطعية.
السؤال عمّا إذا كانت سوريا ستُدعى إلى المشاركة في قمة الرياض المقبلة صرف أنظار كثيرٍ من الإعلاميين والمراقبين عن القراءة العميقة والمدققة في مضمون بيان عمّان الخماسي ومغزاه.
وعلى الرغم من الأهمية الرمزية لـ"عودة سوريا إلى الجامعة" ودلالاتها المعنوية، فإنّها لن تقدم ولن تؤخر (كثيراً) في معالجة الملفات الأكثر أهمية وإلحاحاً التي تضغط على صدور السوريين. ربما هذا ما يفسر إلى حدٍ كبير اهتمام دمشق باستعادة علاقاتها الثنائية مع الدول العربية، وخصوصاً الوازنة منها، أكثر من اهتمامها بإنهاء الشغور الذي لفّ مقعدها في المنتظم العربي أكثر من 10 سنين.
يعدّ بيان عمّان، بكل المقاييس، قفزة نوعية في علاقات سوريا العربية، ويمكن وصفه من دون أدنى مبالغة بأنه خريطة طرق لإنهاء القطع والقطعية، وتوطئة أساسية لعودة سوريا إلى الجامعة واستئناف علاقاتها الثنائية والمتعددة الأطراف مع الدول العربية، وترسيم لمعالم حلٍ شاملٍ للأزمة السورية سياسياً وأمنياً وإنسانياً.
إنّه أوّل مبادرة عربية لحل سياسي للأزمة من دون مشاركة أجنبية إقليمية أو دولية. هذا الأمر لم يحدث طوال سني الأزمة السورية، إذ كانت المبادرات تأتي من الخارج، سواء من جهة الغرب (من واشنطن وحلفائها) أو من جهة الشرق (روسيا ومسار أستانة)، وهو، بخلاف المبادرات السابقة جميعها، تبلور بمشاركة دمشق وحضورها الفعلي حول الطاولة، بعدما كانت موضوعاً للبحث فوق الطاولة، فحتى في مسار أستانة لم يكن الحضور السوري ممكناً إلا بعد هبوب رياح المصالحة بين دمشق وأنقرة، وبات الحديث يتوالى عن إطار رباعي بدلاً من الإطار الثلاثي أو ما يمكن أن يطلق عليه "مسار أستانة بلس".
جاء بيان عمّان شاملاً لأبعاد الأزمة السورية الثلاثة: الإنساني والأمني والسياسي. التسلسل بهذا المعنى لم يكن اعتباطياً، بل جاء مقصوداً بذاته، وحمل في طياته مهمات محددة وتفصيلية إلى حد ما، وتضمن جداول زمنية في بعض الأحيان، ولا سيما في القضايا ذات البعد الأمني (كإنتاج المخدرات وطرق تهريبها)، وهو، وإن كان مختصراً وعمومياً وتوافقياً في الجانب السياسي، إلا أنه جاء مفصلاً في البعدين الأمني والإنساني، باعتبارهما تحديين ضاغطين على سوريا وجوراها وعموم الإقليم.
في البعد السياسي، استذكر البيان الثوابت السورية والعربية لحلّ الأزمة السورية، المتمثلة بوحدة سوريا وسيادتها واستقلالها وسلامة أراضيها، ووحدة شعبها والمصالحة بين جميع كياناته ومكوناته، وشجع على تسريع العملية السياسية وصولاً إلى حل سياسي شامل ينسجم مع القرار 2254 (لم يقل البيان تنفيذ القرار المذكور، وثمة فرق بين الأمرين. وهنا تبرز مقاربة التسوية والتوافق). وقد حثّ على تحفيز عمل "اللجنة الدستورية" التي لم تحرز أي تقدم جوهري حتى الآن، بما يفتح الباب لمعالجة قضية كرد سوريا وشمالها الشرقي.
في البعد الأمني، توسع البيان في الحديث عن محاربة الإرهاب والجماعات الإرهابية، تاركاً أمر تصنيفها وتبويبها للبحث لاحقاً، وتعهّد العرب بمساعدة الدولة السورية وأجهزتها على بسط سياداتها على حدودها ومعابرها وجميع أراضيها، وطالب بانسحاب "الجيوش غير المشروعة" من الأراضي السورية.
إن حكاية "غير المشروعة" هي ثمرة جهد تفاوضي، فدمشق لا ترى في الوجود الروسي والإيراني وجوداً غير مشروع، ما دام قد جاء بطلب من الدولة السورية، بخلاف الوجود العسكري الأميركي والتركي ذي الطبيعة الاحتلالية. هنا أيضاً تبرز مقاربة "التسويات والحلول الوسط" بين مواقف متفاوتة ومختلفة أثيرت في عمان، كما سبق أن أثيرت في جدة.
الحرب على المخدرات، إنتاجاً وطرق تهريب، كانت موضع توافق بين المجتمعين. وقد تقرر إنشاء لجنتين، الأولى سورية – عراقية والأخرى أردنية – سورية، في غضون شهور، لتعقّب أماكن الإنتاج وطرق التهريب وملاحقة شبكاته وتعزيز التعاون الأمني على ضفتي الحدود بين سوريا وجوارها. وبهذا، تكون دمشق قد قدّمت للجانب العربي (الأردني – السعودي خصوصاً) ما كان يريده وهدأت من روعه ومخاوفه.
حظي الجانب الإنساني بمكانة كبيرة من الاهتمام، ووصف بأنّه الأولوية الأولى، على قاعدة "التعافي المبكر" من ذيول الأزمة السورية وتداعيات الزلزال المدمّر. هنا، حضرت قواعد القانون الدولي الإنساني، وجرى تثمين قرار دمشق فتح معبري الراعي وباب الهوى للإغاثة والمساعدات، ورسم المجتمعون ما يتعيَّن على دمشق والمجتمع الدولي والدول المستضيفة فعله لتسريع العودة الآمنة والطوعية للاجئين، ومعالجة المشكلات التي تواجه النازحين داخل سوريا، وحل مشكلة المفقودين والمختطفين والمغيبين قسراً.
وقد أعطيت الأولوية لمعالجة مشكلة مخيم الركبان؛ مصدر الصداع المقيم للأردن على المثلث الحدودي مع سوريا والعراق، واتُفق على قيام الأطراف بتقديم "تجربة – Pilot" لعودة ألف لاجئ من الأردن لسوريا، لاختبار آليات تعاون الدولة السورية والدولة المضيفة والأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة وتحديد أدوار كل طرف ومسؤولياته، توطئة للتوسع في أعداد أكبر من العائدين.
ليست وظيفة هذا المقال تخليص مضامين البيان المذكور وإعادة نشرها، بل الإضاءة على أهم ما استبطنه من التزامات متقابلة كفيلة، في ظني، بتبديد المخاوف والشكوك، وتلبية الحد الأدنى المعقول من مطالب الدول المتحفظة أو حتى الرافضة عودة سوريا إلى الجامعة العربية. وأحسب أن سوريا، بقبولها البيان ومساهمتها في صياغته، تكون قد قطعت ثلاثة أرباع الطريق إلى القمة العربية.
وظيفة البيان لم تكن محصورة بطمأنة عدد محدود من الدول العربية الرافضة والمتحفظة، كما تجلَّت مواقفها في اجتماع جدة، بل بعث رسالة طمأنينة إلى المجتمع الدولي، وخصوصاً الغرب والولايات المتحدة، فالأطراف التي اجتمعت في عمّان، بمن فيها سوريا، تدرك أنَّ أهم عقبة في وجه التطبيع العربي مع دمشق هي الموقف الأميركي و"قانون قيصر".
هذه الأطراف تدرك أنه في ظلّ العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا لن يكون ممكناً تحفيز القطاع الخاص في الدول العربية على الاستثمار في إعادة الإعمار وإعادة توطين اللاجئين واستنهاض الاقتصاد السوري.
ومن دون مشاركة هذا القطاع وقيامه بدور رائد، يصعب قطف ثمار التطبيع العربي مع دمشق، والتجربة تدل على ذلك، إذ مضى على تطبيع دول عربية مع سوريا أكثر من 5 سنوات، من دون أن نرى أن الاستثمارات والرساميل تدفقت في شرايين الاقتصاد السوري المتيبسة، فكان لا بد، في هذه الحالة، من التأكيد أن سوريا في طريقها إلى التعافي السياسي والاقتصادي والأمني، وأن مأساة شعبها الإنسانية المزدوجة (بفعل الحرب والزلزال) في طريقها إلى التشافي.
وفي ظني أن نتائج اجتماعات عمّان حققت هذا الغرض، من دون أن نستبعد خروج البعض علينا، سواء واشنطن أو بعض حلفائها، بالقول إن العبرة في الأفعال لا في الأقوال؛ فعلى أقل تقدير، أصبحت الدول المتحمسة للتطبيع مع سوريا تمتلك ورقة قوية يمكن إشهارها في وجه من لا يزال يشهر "الفيتو" في وجه الانفتاح على سوريا والسوريين.
ربما لهذا السبب (استباق الاعتراضات والاشتراطات المحتملة) تحدث الوزير الأردني بلغة متحفظة بعض الشيء، حين قال إنَّ الطريق ما زال طويلاً، وإن اجتماع عمّان هو حلقة من سلسلة، وإنَّ فرقاً لمتابعة تنفيذ مخرجاته والترويج له ستتشكل قريباً، وتحدث عن جهود ستبذل لإطلاع الدول العربية الأخرى على نتائج الاجتماع، ووضع مسألة عودة سوريا إلى الجامعة برسم آليات العمل العربي المشترك.
ونختتم المقال بالسؤال الذي بدأنا به: هل تشارك سوريا في قمة الرياض المقبلة؟ الجواب هنا مفتوح على احتمالات ثلاثة: الأول أن تحدث المفاجأة التي مُهّد لها طويلاً، ويجلس الرئيس السوري شخصياً على مقعد بلاده في القمة، والثاني أن تحصل تفاهمات خلفية ويشغل المقعد وزير خارجيته، والثالث أن تتخذ القمة قراراً بعودة سوريا، على أن يصبح سارياً في القمة التي تلي قمة الرياض، والله أعلم.