انشقاق "الدعم السريع" ومستقبل الصراع في السودان؟
حسم الصراع الدائر بين الجيش و"الدعم السريع" لا يخلو من حسابات وتدخلات خارجية، خصوصاً أن ثلاث دول مجاورة للسودان قد شهدت تغيرات في رؤساء مخابراتها.
شهد الصراع الدائر في السودان منذ منتصف نيسان/أبريل 2023؛ بين الجيش و"قوات الدعم السريع"؛ عدة تطورات ومتغيرات وتدخلات ووساطات، لكنها لم تحسم الصراع لصالح أحد الطرفين، حتى أعلن الجيش السوداني في 20 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري؛ عن انشقاق القائد العسكري أبي عاقلة محمد أحمد كيكل، عن قيادة "قوات الدعم السريع" بولاية الجزيرة، وانضمامه إلى القتال في صفوف الجيش.
ويعدّ هذا الانشقاق الأول في "قوات الدعم السريع" وأبرز المتغيرات التي قد يترتب عليها مصير الحرب ومستقبلها. وقال المتحدث باسم الجيش السوداني نبيل عبد الله: "انحاز إلى جانب الحق والوطن بعد مغادرته صفوف المتمردين، مقرراً القتال جنباً إلى جنب مع قائد المليشيا أبوعاقلة كيكل ومعه مجموعة كبيرة من قواته، بعد أن تكشف لهم زيف وباطل دعاوى الدعم السريع".
وأضاف: "ترحب القوات المسلحة بهذه الخطوة الشجاعة من قبلهم، وتؤكد أن أبوابها ستظل مشرعة لكل من ينحاز إلى صف الوطن وقواته المسلحة". وشدد الجيش على "عفو رئيس مجلس السيادة، القائد العام للقوات المسلحة عبد الفتاح البرهان، عن أي متمرد ينحاز إلى جانب الوطن ويبلغ لأقرب قيادة عسكرية في كل مناطق السودان".
وقاد كيكل "قوات درع السودان" التي تكوّنت مطلع 2022 في مناطق شرق ولاية الجزيرة، ويقدر عدد أفرادها بأكثر من 35 ألف مقاتل. وانضم إلى "قوات الدعم السريع" في آب/ أغسطس 2023 وقاد قواتها في ولاية الجزيرة. وقال حينها، إن قواته تسعى لخلق التوازن الاستراتيجي للبلاد، بعد اتفاق سلام جوبا الموقّع في 2020 بين الخرطوم وحركات دارفور المسلحة، معتبراً أن الاتفاق جاء على حساب ولايات شمال السودان وشرقه ووسطه. ومنذ كانون الأول/ ديسمبر 2023، سيطرت "قوات الدعم السريع" بقيادة كيكل، على عدة مدن بالجزيرة، المتاخمة للخرطوم من الناحية الجنوبية، بينها "ود مدني" مركز الولاية.
سيُفضي انشقاق كيكل إلى عدة تداعيات؛ ستؤثر في مسار الحرب ومستقبلها؛ ذلك أن انشقاق كيكل عن "قوات الدعم السريع" وانحيازه إلى الجيش يعدّ هزيمة وخصماً من الرصيد السياسي والشعبي لـ"قوات الدعم السريع" لصالح الجيش الذي سيوسع ويسرع عملياته العسكرية، ويرفع من رصيد الجيش وشعبيته وشرعيته على حساب "قوات الدعم السريع"، لا سيما في ظل الصراع على الشرعية وتمثيل مكونات الشعب السوداني كافة، وعلى الخصوص جماهير ولاية الجزيرة التي يمتلك فيها كيكل قاعدة جماهيرية عريضة.
انشقاق كيكل لم يكن حدثاً عابراً أو طارئاً؛ ووفق المتاح فإن هناك عملية تفاوض كانت قد بدأت بين الجيش وكيكل قبل أكثر من شهرين، ومعنى ذلك أن الجيش قد بدأ في تغيير تكتيكات المعركة وتسلل واستطاع اختراق قيادات "الدعم السريع"، ونجح في إحداث انشقاقات أو على الأقل توظيف الخلافات الموجودة وتغذيتها لصالحه.
وعطفاً على الخبرة العسكرية والإحاطة بالمعلومات اللوجستية عن "قوات الدعم السريع"؛ بالإضافة إلى المكانة الاجتماعية والجهوية؛ والتعهد بالقتال إلى جانب الجيش، فإن انشقاق كيكل يُعد ضربة غير مسبوقة لـ"الدعم السريع"، وصفعة كبيرة حتى وإن قلل "الدعم السريع" من أهميتها، وحاول تقزيم نتائجها.
انشقاق كيكل؛ وإن كان دفعة معنوية وعسكرية للجيش؛ فإنه يقع ضمن محددين مهمين جداً، المحدد الأول: أن الانشقاق جاء أقرب إلى الصفقة وتحقيق مكاسب وليس انحيازاً وطنياً أو صحوة ضمير ومراجعة، ذلك أن كيكل توصل إلى اتفاق مع الحكومة بعدم مساءلته عما سبق وارتكاب قواته من جرائم، وأن تخضع قواته لترتيبات أمنية مثل الحركات المسلحة بعد الحرب؛ وأن يتم تمثيل منطقته في السلطة وتمييزها في التنمية. وبالتالي، كيكل هنا حقق جملة فوائد شخصية وجهوية، لكن اتفاقه مع الحكومة يحمل في طياته قنبلة موقوتة إذ إن هناك مطالب بمحاسبة الرجل ومساءلته. وإذا لم يتم احتواء تلك المطالب، فإن الأمور قد تذهب إلى احتجاجات جديدة ضد الحكومة والجيش، وبدلاً من أن يكون انضمام كيكل رافعة للجيش قد ينقلب الأمر عليه، ثم إن تقنين أوضاع قوات كيكل وترتيب أوضاعها الأمنية يعني مستقبلاً استيعاب أي قوات عسكرية أخرى.
المحدد الثاني: أن انشقاق كيكل، على أهميته، لا يعني حسم المعركة والصراع لصالح الجيش؛ صحيح أنه نقطة مهمة لكنه لا يعني انتهاء الحرب، ذلك أن هناك جملة محددات ومتغيرات وتدخلات في المشهد السوداني، تمنع إنهاء الحرب، وتوظف استمراريتها لصالحها، بعضها تحكمه حسابات شخصية داخلية، والبعض الآخر وهو الأبرز تحكمه مصالح وأهداف وأطماع خارجية إقليمية ودولية. وبالتالي، إنهاء الحرب في السودان بحاجة إلى متغير أكبر من مجرد انشقاق أحد قادة "الدعم السريع".
انشقاق كيكل قد يُفضي إلى نتائج سلبية على مستوى الصراع ويطيل أمده بدلاً من إنهائه، كتحول جزء من الصراع إلى الجهوية والمناطقية، كون كيكل ينتمي إلى ولاية الجزيرة، أما مقاتلو "الدعم السريع" فينتمون إلى ولايات غرب السودان. وقد حدث عقب الانشقاق نوع من الانتقام قامت به "قوات الدعم السريع" التي اجتاحت مدناً في شرق ولاية الجزيرة، وهاجمت مدينة تمبول ودمرت عدداً من المحال التجارية؛ واعتقلت العشرات من القوات التي كانت تتبع للقائد كيكل. وتحول وتبدل حلفاء أمس إلى أعداء؛ وهو ما ورد في حديث المتحدث باسم "الدعم السريع" الفاتح قرشي، بعد انضمام كيكل إلى الجيش: "التحقت به قوة كبيرة من العدو في محاولة السيطرة على منطقة تمبول".
في استشراف مستقبل الصراع الدائر في السودان والسيناريوهات الممكنة والمتوقعة التي قد تحسم الصراع؛ فإن الملاحظ أن الجيش مؤخراً بات يسجل عدة نقاط عسكرية وسياسية ودبلوماسية خارجية وداخلية، وتعد استعادة الجيش لمنطقة "جبل موية" الاستراتيجية من "قوات الدعم السريع" حدثاً استثنائياً هذا الشهر؛ لسببين الأول: أنها سبقت انشقاق كيكل وغالباً ربما شجعته؛ السبب الثاني: أن هذه المنطقة التي استعادها الجيش كانت " قوات الدعم السريع" قد اتهمت مصر بضرب قواتها فيها.
حسم الصراع الدائر بين الجيش و"الدعم السريع" لا يخلو من حسابات وتدخلات خارجية، خصوصاً أن ثلاث دول مجاورة للسودان قد شهدت تغيرات في رؤساء مخابراتها، وهي: مصر وجنوب السودان وتشاد. وإن بدت هذه التغييرات الأمنية في الدول المجاورة شأناً داخلياً، فإن الصراع الدائر في السودان لن يكون بمعزل عن تبعاتها.
إن مستقبل الصراع في السودان لم يعد محكوماً بالمتغيرات الداخلية فقط، حتى وإن رجحت تلك المتغيرات كفة فريق على حساب فريق، بل تحكمه اعتبارات وحسابات خارجية إقليمية ودولية، وأي حل يجب أن يستحضر تلك الحسابات ويأخذها في عين الاعتبار ويعمل على تحييدها قدر الممكن والمستطاع، صحيح أن انشقاق كيكل لن يحسم المعركة ولكنه يُحسن ويعزز موقع الجيش، وتموضع الجيش في المشهد السوداني، إن حدث، كفيل بإجبار الأطراف الخارجية على إعادة النظر في حساباتها وتدخلها في السودان. ذلك أن التدخلات الخارجية خصوصاً لجهة "الدعم السريع" وتلك قضية معلنة ومنظورة رسمياً وتقدم فيها السودان بشكوى رسمية في المنظمات الدولية يعني أن الصراع سيستمر، وقد يتدحرج خارج جغرافيا السودان ويتمدد إلى ساحات ومساحات إقليمية.
الكرة الآن في ملعب الجيش الذي بإمكانه تغليب الصالح العام على الحسابات الشخصية، والدعوة إلى الوحدة الوطنية وحكومة مدنية والعودة إلى الثكنات وترك إدارة المشهد السياسي للقوى والأحزاب السياسية.