انتخابات رئاسية مسبّقة في الجزائر: أيّ دوافع؟
يجب التـأكيد أن الظروف الجيوسياسية الإقليمية والدولية الراهنة المحيطة بالجزائر لا تعطي فسحة لصناع القرار في الجزائر للخوض في مسارات تغيير تمس أعلى هرم السلطة.
سرعان ما استحضر مشهد تقديم موعد الانتخابات الرئاسية في الجزائر إلى 11 أيلول/سبتمبر 1998، بقرار من الرئيس السابق اليمين زروال، بمجرد أن أعلن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون قرار إجراء الانتخابات الرئاسية في الجزائر في السابع من أيلول/سبتمبر المقبل، أي قبل موعدها الذي كان مزمعاً بثلاثة أشهر.
وإذ استحضر قرار التقديم القديم لمقارنته بقرار اليوم، استدعيت معه المبرّرات ذاتها لفهم دوافع قرار تبون المفاجئ. لذا، فإنّ تفسيرات من قبيل عدم ترشّح الرئيس الحالي لعهدة ثانية، والبحث عن رئيس جديد للجزائر، ونهاية حقبة… هي التأويلات التي عكف طيف واسع من المحللين والمتابعين على استدعائها من أجل فهم قرار الرئيس الجزائري.
فهل يصلح استدعاء ما مضى لتفسير ما جرى؟
لنشير في المستهلّ إلى أن صلاحية الدعوة إلى إجراء انتخابات رئاسية مسبقة هي ممّا خوّله الدستور الجزائري لرئيس الجمهورية بموجب البند الحادي عشر من المادة الـ91، والذي منح الرئيس صراحة حقّ اتخاذ قرار إجراء انتخابات رئاسية مسبقة. ويرى المدقّق في نصّ البند والمادة التي انطوت عليه خلوّهما من أيّ شرط يقيّد استخدام الرئيس لهذه السلطة أو يعلّقها بظروف أو حالات معينة.
من هذه الزاوية القانونية، من الواضح أننا في صدد وضع طبيعي مارس فيه الرئيس سلطة مُنحت له بموجب الدستور، وهو وضع ينأى عن الاستثناءات المنصوص عتها في المادة الـ94، والتي تحصي وتضبط النواظم والميكانيزمات للتعاطي مع الحالات الطارئة التي قد تحلّ بشاغل منصب رئيس الجمهورية، والتي لا تتوافر دواعي استدعائها في السياق الجزائري حالياً.
وفقاً لهذا، فإنّ استحضار الاستثناءات المنصوص عنها في المادة الـ94 من الدستور الجزائري (العجز أو الاستقالة أو الوفاة) لاستقراء قرار تبون والجزم بعدم ترشّحه لعهدة رئاسية جديدة مغلق منذ البدء، ولعل هذا ما يحيل تلقائياً على البحث عن دوافعه خارج علبة التأويلات القانونية.
سبق أن أشرنا إلى أنّ التعليلات الأولى لقرار الإجراء المسبّق للانتخابات مالت جلـّها إلى تشبيهه بقرار زروال عام 1998، بل استجلبت دوافعه وسياقاته ومآلاته أيضاً للإجابة عن سؤال "لماذا اتُّخذ هذا القرار اليوم؟".
والحقّ أنّ هذه التعليلات نأت عن الصواب حين أخطأت الانطلاق لأنـّها أرادت المطابقة بين قرارين، أولهما جاء في سياق متأزّم سياسياً وأمنياً واقتصادياً، وثانيهما صدر في سياق مستقرّ لا تشوبه أيّ عوامل تأزّم، كتلك التي استحثـّت قرار عام 1998، فكانت بذلك أقرب إلى التخمينات المبنية على قاعدة من الاحتمالات التقريبية متناسية الملابسات السياسية الجزائرية الماثلة والمؤكّدة منذ ثلاثة أعوام.
ليس من المفيد، في رأينا، إعادة رسم المشهد الجزائري في التسعينيات بحذافيره ومقارنته بالمشهد السياسي الجزائري اليوم، كي نبرهن البَون الذي يلغي إمكان المقارنة بين الوضعين، لكن من الواضح أن الذين أرادوا المطابقة بين السياقين أهملوا أن المنظومة السياسية الجزائرية اليوم، ولاسيما المؤسسات الوازنة فيها، ليست منقسمة في نواتها، وأنّ حركيات البيئة السياسية المحلية والحزبية تحديداً لا تنطوي على أيّ مؤشرات تنبئ بأننا مقبلون على تحوّلات عميقة في المعادلة السياسية التي سادت منذ عام 2020 قد تنعكس على قمة هرم السلطة. عكس هذا، كان واضحاً حرص تبون الشديد على تكريس التماسك داخل مؤسّسات الدولة وترسيخه طوال فترة حكمه تجنباً لأي انقسام قد يعيد البلد إلى وضع ما قبل عام 2019.
أمام انتفاء المعطيَين السابقين، فإنّ التنبؤ بعدم ترشح عبد المجيد تبون لولاية رئاسية ثانية، لمجرّد أنه اتخذ قرار إجراء الانتخابات الرئاسية قبل موعدها، سيبقى تخميناً تعوزه القرائن في الواقع. وإلى غاية اللحظة، سيكون تبون الأكثر حظاً لخلافة نفسه في حال قرّر الترشح بالنظر إلى الاستقرار الذي نجح في إعادته إلى الجزائر، والتأييد الشعبي الذي يحظى به من لدن شرائح شعبية واسعة، من جهة، ولصعوبة تحضير منافس قوي له في الأشهر الستة المتبقية قبل يوم الاقتراع، من جهة أخرى.
لا يعني هذا التحليل أنّ ترشّح الرئيس الجزائري الحالي بت أمراً باتّاً وجازماً. كل ما في الأمر أنه يبقيه احتمالاً قائماً بالنظر إلى أن متغيّرات الواقع لا تنطوي على أي عوامل تجعله غير وارد.
إنّ الدوافع الأقرب إلى تعليل قرار تبون في تصورنا مرتبطة بحسابات جزائرية محلية بعيدة عن شخص الرئيس وبرنامجه. يجب أن نشير في هذا الصدد إلى أن تقديم موعد الانتخابات الرئاسية في الجزائر طُرح كسيناريو منذ أشهر، ولاسيما قبيل خطاب الرئيس أمام غرفتي البرلمان في 25 كانون الأول/ديسمبر 2023.
وتنبأ بعض المتابعين بأنّ الرئيس سيعلن العودة إلى الرزنامة المعهودة لإجراء الانتخابات الرئاسية التي تزحزحت بسبب ظروف البلد الاستثنائية عام 2019. ومن المرجّح أنّ عدم إمكان اتخاذ القرار في تلك الفترة مردّه برمجة القمة السابعة لمنتدى الدول المصدّرة للغاز، والتي عُقدت في الجزائر في شهر آذار/مارس المنصرم، واستغرق التحضير لها جزءاً كبيراً من الثلاثي الأوّل من العام الحالي.
ويبدو أنّ السلطة استقرت على موعد أيلول/سبتمبر لإجراء الانتخابات الرئاسية لأنـّه يأتي في إثر العطلة الصيفية، الأمر الذي سيسمح بتحضير العملية من دون تأثير في الرزنامة المدرسية وبعيداً عن فترة إجراء امتحانات نهاية العام. فمن المعروف أنّ الأغلبية العظمى من مراكز الاقتراع في الجزائر هي مدارس تكون مشغولة طوال العام الدراسي (من منتصف أيلول/سبتمبر إلى بداية تموز/يوليو)، وسيكون إجراء الانتخابات خلال فترة شغلها أمراً صعباً ومعقّداً مقارنة بفترة شغورها.
في الأخير، يجب التـأكيد أن الظروف الجيوسياسية الإقليمية والدولية الراهنة المحيطة بالجزائر لا تعطي فسحة لصناع القرار في الجزائر للخوض في مسارات تغيير تمس أعلى هرم السلطة، كما أن المواعيد الرئاسية المرتقبة والمسطّرة وما تقتضيه من تعامل وقرارات، ولاسيما الزيارة المزمعة لباريس، تتطلب حسم موضوع انتخاب الرئيس وخوضها برئيس مقبل على عهدة جديدة وليس خارجاً من عهدة منقضية. ومن المؤكّد أنّ تبون في حال قرر الترشّح لن يزور باريس إلا بعد أن يعاد انتخابه، ذلك بأن زيارتها كرئيس مرشح مقبل يخوض حملة انتخابية هي خطيئة يستحيل ارتكابها.