النيجر.. حجر الدومينو التالي؟
حتى وإن لم يكن قادة الانقلاب في النيجر متحالفين مع طرف أجنبي، فإنّ الإرباك السياسي الذي نتج من انقلابهم سيوفّر لكل متربص للتدخّل وللتأثير في الهندسة الجيوسياسية للإقليم مستقبلاً.
يجري تغيير حدود نطاقات النفوذ وبنية القوّة باستمرار في إقليم الساحل. إنها سيرورة تعديل ذات أبعاد استراتيجية وجيوسياسية لم تتوقف منذ العام 2020 على الأقل، أي منذ صار رفض الستاتيكية ومنطق الأمر الواقع المفروضين من القوة الاستعمارية السابقة يرى ويسمع في خطابات الفاعلين السياسيين المحليين وسياساتهم، ومنذ انخرطت في تفاعلات الإقليم فواعل فوق إقليمية، غريمة لفرنسا والغرب، تقاسم الفواعل المحلية العداء للقوى الاستعمارية التقليدية.
يجدر ألا يهمل هذا الإيضاح عند قراءة انقلاب 27/07/2023 في النيجر. إنّ الأخير، وفق الرؤية السابقة، هو على الأرجح حلقة من حلقات السيرورة التاريخية والجيوسياسية التي بدأت في مالي عام 2020 ولم تتوقف منذ ذلك الحين، والتي لا تتوفر حالياً أيّ مؤشرات على احتمال تعطلها أو توقفها أو انقلابها، وإن لم يكن الانقلاب في النيجر جزءاً من المخطط الاستراتيجي الجاري تنفيذه في المنطقة فإنـّه سيستثمر لا محالة من الفواعل الغريمة لفرنسا في النيجر والساحل كي يؤول في منتهياته إلى ما يطوق نفوذها ويضرب مصالحها.
حتى وإن لم يكن قادة الانقلاب متحالفين أو متواطئين مع طرف أجنبي، ولا سيما روسيا التي توجّه أصابع الاتهام نحوها، فإنّ الإرباك السياسي الذي نتج من انقلابهم سيوفّر لكل متربص بفرنسا في الساحل منافذ للتدخّل وللتأثير في الهندسة الجيوسياسية للإقليم مستقبلاً.
خلاف هذا، ثمة من لم يعر العوامل السابقة أهمية لدى قراءته دوافع الانقلاب موعزاً إياها إلى خلاف بين الجنرال عبد الرحمن تياني والرئيس بازوم، وهو خلاف تمتد جذوره إلى حقبة الرئيس السابق محمد إيسوفو. ويرتكز أصحاب هذا التوجّه في قراءتهم على فكرة تصفية حسابات بين أجنحة النظام النيجري وصراع مصالح بينها فجّرته خصومة بين تياني وبازوم سببها عدم اتفاقهما على قائمة بعض التعيينات في مناصب عليا داخل الدولة.
لا يكمن الإشكال في هذه القراءة في كونها تستبعد فرضية اللعبة الجيوسياسية الإقليمية لتفسير ما حدث في النيجر فحسب، بل لكونها تهمل ثقل النيجر ومحوريتها في الاستراتيجية الفرنسية في الساحل عموماً، وضع من شأنه أن يغري كل غرماء فرنسا باستهداف هذه الدولة.
يجدر أن نذكر في هذا السياق أن النيجر تعدّ ثالث أكبر منتج لليورانيوم عالمياً ومصدّراً رئيساً له، وهي تزوّد أوروبا بـ20% من حاجياتها من هذه المادة الأساسية لتشغيل المفاعلات النووية، وبالأخصّ تلك التي تنتج الطاقة الكهربائية كما هي الحال بالنسبة إلى فرنسا.
في هذا الصدد، تعدّ تبعية فرنسا للنيجر الأكبر على الإطلاق مقارنة بكل الدول الأوروبية الأخرى، ذلك أن 75% من حاجياتها من الكهرباء تنتج من الطاقة النووية التي يولدها 56 مفاعلاً نووياً اعتماداً على اليورانيوم المستخرج أغلبه من مناجم سومار (SOMAIR) وكوميناك (COMINAK) وسومينا (SOMINA) قرب مدن أغاديز وأرليت وأكوكان شمال النيجر. وأكثر من كل الشركات الأخرى، تستغل المجموعة النووية الفرنسية "أورانو" (ORANO) (أريفا سابقاً) اليورانيوم في النيجر منذ 50 عاماً.
عسكرياً، ومنذ صيف عام 2022، أصبحت النيجر قاعدة التمركز الأولى للجنود الفرنسيين الذين طردوا من مالي وبوركينافاسو عقب إنهاء عمليتي برخان وسابر تباعاً. وبتأييد من الرئيس المنقلب عليه؛ محمد بازوم، نشرت باريس 1500 جندي في النيجر معظمهم يتمركز داخل مجمع مطار نيامي، في حين ينتشر البقية على الحدود مع بوركينافاسو ومالي ضمن ما يسمى بمثلث ليبتاكو-غورما الذي يعرف بكونه بؤرة لتمركز التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها "تنظيم الدولة في الصحراء الكبرى".
كما تنشر فرنسا خمس طائرات مسيرة من طراز ريبر (Reaper) وثلاث طائرات مقاتلة من طراز ميراج (Mirage) في مطار نيامي تسهل وصول الجنود المتمركزين فيه إلى أي منطقة في إقليم النيجر. وبالتعاون مع الجيش النيجري، أرست القوات الفرنسية عملية عسكرية سمـّيت ألماهاو (Almahaou) لمواجهة التهديدات وحالات انعدام الأمن في إقليم تيلابيري (شمال غرب النيجر) الذي يعدّ هدفاً منتظماً للهجمات الإرهابية وفق المصادر الفرنسية.
أمّا سياسياً، ولضمان ولاء النيجر وبقائها تحت النفوذ الفرنسي والغربي، دعمت فرنسا كل الرؤساء السابقين للنيجر وكانت لها اليد الطولى في تعيينهم، أمر ينطبق على الرئيس محمد بازوم الذي يوصف "بابن فرنسا المدلل" في النيجر والساحل، وعلى عدد من النخب والقيادات المدنية والعسكرية في هذه الدولة الأفريقية الفقيرة.
قد لا تكون الفقرات السابقة كافية لإعطاء صورة سابغة عن كل المؤشّرات التي تثبت أهمية النيجر بالنسبة إلى فرنسا، بيد أن ما ذكرناه كاف لتأكيد مكانتها المحورية في استراتيجية فرنسا في الساحل وأفريقيا وحيوية دورها في تحقيق الأمن الطاقوي الفرنسي عموماً، وفي هذه الظرفية العالمية على وجه التحديد.
ويفهم في ضوء هذه المؤشرات، رد الفعل الفرنسي الرسمي والسريع على الانقلاب الصادر عن الرئيس إيمانويل ماكرون الذي دان "بشدة وبكل حزم" الانقلاب، معتبراً إياه "غير شرعي وخطيراً على النيجريين والنيجر وكل المنطقة". ولم يكتف الرئيس الفرنسي بالإدانة الخطابية، بل ترأس يوم 29 تموز/يوليو اجتماعاً لمجلس الدفاع والأمن القومي الفرنسي خصّص حصراً لدراسة الوضع الأمني والسياسي في النيجر.
إن لم يبيّن هذا التفاعل الفرنسي مع الانقلاب تأكّد فرنسا من أنه مدبر منذ بداياته ضدّها وأن حبكته حيكت من طرف يستهدفها، انسجاماً مع موجة خطاب العداء ضدها في الجزائر وباماكو وواغادوغو، فإنه يعكس في الأقل خوفها الشديد من تداعياته على وجودها ومصالحها في هذه الدولة التي توصف بأنها المعقل الأهم لها في الساحل، هذا الخوف يتأجج أكثر إذا علمنا بأنّ ولاء السلطة الحاكمة في النيجر لفرنسا والغرب تقابله مناهضة شعبية كبيرة لها.
قبل عشرة أشهر، قادت حركة "أم 62" (M62) تظاهرات شعبية ضمت العديد من منظمات المجتمع المدني في النيجر نادت فيها بمغادرة فرنسا. وندد زعيم الحركة عبد الله سيدو بالحرب المزعومة ضدّ الإرهاب في الساحل التي عدّها اختراعاً فرنسياً متّهماً نيامي باتباع إملاءات باريس.
من الجائز القول عقب هذا إنّ الجوّ مهيّأ محلياً وإقليمياً لحركة أخرى مناهضة لفرنسا في أحد أكبر معاقلها في إقليم الساحل، إنها فرصة تاريخية للتخلصّ منها لكل الذين يعادونها، ولم يعد مجدياً بعد هذا الخوض في نقاش من يقف خلف الانقلاب طالما أنّ حكم عبد الرحمن تياني بات أمراً واقعاً. بدل هذا، صار ملحّاً الاستعداد لتداعياته على النيجر وعلى الإقليم برمته.
إنّ باب ردود الفعل الممكنة والمتاحة مشرع على مصراعيه اليوم، بما فيها العقوبات الاقتصادية والتدخّل العسكري لإعادة الحكم المدني في النيجر، أو بتعبير أدق، إعادة الحكام الموالين لباريس. ومن المحتمل أن تلقى فرنسا دعماً لخياراتها من الولايات المتحدة الأميركية التي تمتلك هي الأخرى قواعد عسكرية في النيجر. كما لا يستبعد دعم الاتحاد الأوروبي لها بما أنّ النيجر، ومنذ قمة فاليتا حول الهجرة عام 2015، صارت تعدّ حليفاً للاتحاد الأوروبي في محاربة الهجرة غير النظامية كونها نقطة عبور مهمة للمهاجرين من أفريقيا نحو أوروبا.
إقليمياً، وقياساً على ردود أفعالها الأولى، تتجه منظمة "الإيكواس" نحو انتهاج السياسة نفسها التي انتهجتها ضدّ باماكو وواغادوغو في تعاملها مع المجلس العسكري الحاكم في نيامي في حال رفض إعادة السلطة إلى المدنيين. لذا، يرتقب أن تشدّد "الإيكواس" لهجتها وسياساتها ضد نيامي لتكون بذلك أقرب إلى التعاطي معها وفق المقاربة الغربية وهذا ما ألفته دول غرب أفريقيا من هذه المجموعة.
ليبقى في الأخير باب الاستفهام مفتوحاً أمام ردة الفعل الروسية المرتقبة في حال اتجهت فرنسا، ومن ورائها الغرب، إلى التدخل عسكرياً في النيجر، وهي التي تتحكم في قوات "فاغنر" المرابطة غير بعيد عن حدود النيجر الغربية، ولا يبدو أن روسيا ستبقى مكتوفة اليدين في حال تأكدت من أن نيات تياني من انقلابه هي طرد فرنسا من النيجر.