النظام التونسي بين محكمة القضاء وحكم الشعب
أصبح لزاماً على الرئيس التونسي والقوى السياسية الانتقال إلى منصة توافق وطني يسترد عبرها الشعب مساره الديمقراطي، وينتُج من خلاله مشروع وطني يقوم على الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.
في الأسبوع الثالث من شهر أيلول/سبتمبر الماضي، أصدرت المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب حكماً ضد النظام التونسي بسبب إجراءات 25 تموز/يوليو 2021، قضى الحكم بالعودة إلى الديمقراطية الدستورية وإلغاء الأمر الرئاسي رقم 117 الصادر في 22 أيلول/سبتمبر 2021 (تدابير استثنائية)، والمراسيم الرئاسية 69 (إعفاء رئيس الحكومة وزير الدفاع ووزيرة العدل بالنيابة)، والمرسوم رقم 80 الخاص بتعليق اختصاصات مجلس نواب الشعب ورفع الحصانة عن النواب، والمرسوم رقم 109 (تمديد إجراءات الأمر 80) الصادرة في 26 و29 تموز/يوليو 2021 و24 آب/أغسطس 2022 والعودة إلى الحكم الدستوري من تاريخ تبليغ هذا الحكم.
أعقب هذا الحكم إجراء النظام التونسي انتخابات تشريعية، وفق دستور وقانون انتخاب جديدين، انفرد بكتابتهما وسنهما الرئيس التونسي قيس سعيّد، فنسخ في الأول دستور الثورة الذي أنتجه التوافق الوطني العام، ووافق عليه الشعب التونسي عبر استفتاء شعبي عام، وألغى في الثاني قانون الانتخابات الذي أنتجه التراضي الوطني الذي تمّ بين الفاعلين السياسيين وأجازه برلمان شرعي.
وفقاً لتقارير السلطات التونسية، فإنّ عزوفاً شعبياً كبيراً عن المشاركة في هذه الانتخابات قد ميزها عن غيرها من الانتخابات التي جرت بعد الانتفاضة التونسية وقبلها. وبحسب هذه التقارير فقد عزف المواطنون عن الترشح والترشيح، إذ كانت نسبة المشاركة في عمليات التصويت بالغة الضعف شأنها شأن عمليات الترشح للدوائر الانتخابية التي لم تجد بعضها مرشحاً ليفوز فيها حتى بالتزكية، وكانت حصيلة المشاركة الشعبية في تلك الانتخابات 11% من جملة الناخبين.
قضى حكم المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب بانتهاك الدولة التونسية "المادة 1 من الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان، وقررت المحكمة متابعة تنفيذ أحكامها بشكل دوري كل 6 أشهر.
تشكلت هذه المحكمة كمحكمة قارية، أنشئت وفق بروتوكول بين 32 دولة أفريقية عام 1998 دخل حيز التنفيذ في 2004، أودعت بعض الدول الأعضاء من بينها تونس اعترافها باختصاص المحكمة بتلقي دعاوى والنظر في قضايا مباشرة من المنظمات غير الحكومية ومن الأفراد. وبهذا انعقد لها اختصاص النظر في قضية "انقلاب" الرئيس التونسي على الدستور، إثر دعوى رفعها المحامي التونسي إبراهيم بلغيث.
رسخ الموقف الشعبي الرافض للعملية الانتخابية حكم هذه المحكمة للمرة الثالثة، إذ سبق رفضه لهذه العملية، رفضاً لعملية المشورة الشعبية التي دعا لها الرئيس قيس سعيد تحت عنوان الاستشارة الإلكترونية والتي شارك فيها نصف مليون تونسي فقط، وعزز رفضه للمشروع السياسي للرئيس بالعزوف عن الاستفتاء الذي جرى من أجل إجازة الدستور الجديد، وبهذا يصبح الرئيس ومشروعه تحت طائلة حكم شعبي، وحكم قضائي صادر عن محكمة ذات اختصاص.
بعد صدور أحكام المحكمة الأفريقية "صاحبة الاختصاص" بإبطال قرارات الرئيس التونسي، وبعد أن أصدر الشعب التونسي قراره الرافض للمشروع الخاص بالرئيس قيس سعيد والذي عبر عنه برفضه المشاركة في الانتخابات التشريعية، ورفضه السابق المشاركة في الاستشارة والاستفتاء، أصبح لزاماً على الرئيس والقوى السياسية الانتقال إلى منصة توافق وطني يسترد عبرها الشعب التونسي مساره الديمقراطي، وينتُج من خلالها مشروع وطني يقوم على الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.
ما يجعل الجميع، دولة وساسة وأحزاباً تحت القانون، يرسخ حكم المؤسسات، ويحصن تونس من الردة إلى حكم الفرد ونظم الاستبداد. مشروع وطني يرسخ سلطة الشعب بالقدر الذي يجعله حامياً لسيادة واستقلال وطنه، وحارساً لتطلعاته، وصانعاً لمستقبله بعيداً عن أي تدخل خارجي ووفقاً لإرادته الحرة.