"الميادين" في سوريا وفلسطين والعالم: غطاؤنا الجوي.. وغدنا الذي يبدأ اليوم
تلك بداية قصة "الميادين" بالنسبة إلينا في ذلك الوقت العصيب، وهكذا اقتحمت تلك الثلة من الشباب العرب المقاوم، فضاء الحرب في واحدة من أخطر لحظات الصراع على فلسطين وسوريا والعراق واليمن ولبنان.
بالنسبة إلينا نحن أهل المقاومة في سوريا والمنطقة، بالنسبة إلى ملايين العرب الناطقين بلغة فلسطين، كان الأمر، في الفترة التي امتدت بين نهاية عام 2010 وأواسط عام 2012 على وجه الخصوص، أشبه بأنك تخوض معركة مصيرية طاحنة تتعرض فيها للقصف بأعتى الأسلحة الفتاكة وأحدثها، وأنت من دون "غطاء جوي" يرد عن رأسك كل هذا العصف والأذى والخطر القاتل، ويحدث توازن ردع قوياً وقادراً على إعادة الأمور إلى نصاب العقل والمنطق والشرف والكرامة، ثم يُحدث فرقاً واضحاً ومتقدماً في اتجاه التفوق الحتمي في معركة الحق والعدل تلك، بعد أن يعيد ربط عقرب ساعة العرب المجنون، بزمن القدس الرصين الذي لا يخطئ وجهته.
تلك بداية قصة "الميادين" بالنسبة إلينا في ذلك الوقت العصيب، وهكذا اقتحمت تلك الثلة من الشباب العرب المقاوم، فضاء الحرب في واحدة من أخطر لحظات الصراع على فلسطين وسوريا والعراق واليمن ولبنان، التي استُخدم فيها الإعلام سلاحاً فتاكاً لا يدمّر العقول ويحرق القلوب فقط، بل يسقط في طريقه عواصم ومدناً وبلدات وقرى، ويحيلها إلى "صورة" لمقبرة جماعية قد تكون أنت أحد المدفونين فيها، بينما أنت تشاهد، لكنك عاجز عن إثبات أنك حي، لأن أحداً لن يسمح لك بالحديث أصالة عن نفسك، وحتى لو تسرب صوتك إلى فضاء بعيد، لن يصدقك أحد، فـ"الصورة" أبلغ من أي كلام أو شهادة. تلك كانت حالنا، ونحن السوريين شهداء على هذا كله، لقد شهدنا موتنا على الشاشات ألف مرة، قبل أن تصل القذيفة التي ستقتلنا حقاً، "انتقاما" لنا.
كانت المدن والبلدات السورية تدمر على الشاشات قبل أن تحرق على الأرض، وكانت الدعوات تنهال كالمطر في الفضاء الإعلامي العربي، تحضّ الفلسطيني نفسه على ترك غزة والضفة والقدس، والذهاب للقتال أو تفجير نفسه في سوريا، لأن "قضيته" هناك. وكانت القنوات الإعلامية الرسمية السورية، وما تبقى من عدد قليل جداً من الشاشات المقاومة، تعاني أشد أنواع الحصار والتضييق والمنع والتشويش والتشويه والضرب بصدقيتها، وكنا نحن ملايين العرب، ننتظر بزوغ أي قبس نور من قلب ذاك الفضاء العربي المغبرّ والمعفّر بالدجل والموت.
كنا ننتظر أي "شاهد عيان" حقيقي يروي واقع قصتنا "كما هو"، ويعيد الواقع الإعلامي لقضايانا إلى حيث يجب أن يكون في فضاء العقول والقلوب العربية، لذلك يمكن أن تسمع وتعرف من كثير من السوريين تحديداً، كم كان الوقت بين لحظة إعلان تأسيس قناة "الميادين"، ولحظة بثها الأولى، طويلاً جداً في قياس انتظار المظلوم، وكم كان هذا "الإمداد" النوعي مهماً في قياس المقاتل (الإنسان) المحاصر في فضاء عقله. لذلك كانت لحظة انطلاقة "الميادين"، ولحظات توافد مراسليها ومندوبيها إلى جميع ميادين سوريا في أصعب ظروف الحرب، أشبه بشروق شمس دافئة تلقي بنورها الساطع على خريطة الحرب الإعلامية الضروس، لتكشف كل ما كان معتماً ومخفياً.
لقد تحول مكتب القناة في دمشق منذ اللحظة الأولى، إلى غرفة عمليات لا تهدأ ولا تكل، تقودها صبية سورية شجاعة ورصينة وأثيرة لدى أهلها السوريين، هي ديما ناصيف، وأصبحت مطاردةُ الحقيقةِ وبيان الواقع في ميادين حلب والشّمال السوري هدفاً واضحاً لرضا الباشا، في الوقت الذي تجد فيه محمد الخضر قد سبقك إلى أي مكان على امتداد الخريطة السورية، ليظهر واقع الحدث السوري على الفضاء العربي والعالمي "كما هو" للمرة الأولى بعد انتظار طويل وحصار مر للإعلام المحلي.
في الحدث السوري، الذي كان مقرراً أن يغير وجه المنطقة ويلبسه قناع الزمن الإسرائيلي، كانت "الميادين"، ولا تزال، وباستخدام الشرف الإنساني والإعلامي، وبجهد ونضال كوادرها السوريين والعرب، وبأدوات الحقيقة الناصعة لا سواها، واحدة من أبرز أدوات الانتصار في الحرب، ذلك لأن الإعلام كان، ولا يزال، واحداً من أمضى الأسلحة التي استخدمت في هذا الصراع المصيري، ومن هنا تحديداً يمكن قياس قيمة "الميادين" وإدارتها والعاملين فيها، بالنسبة إلى سوريا وإلى كل قضية عربية تختبر مرحلة مفصلية في هذا الوقت.
وإذا كانت سوريا هي الميدان الأقسى الذي اقتحمته "الميادين" في لحظة ولادتها لتساهم في صون وجلاء الحق العربي تحت النار، فإن فلسطين هي الرحم الأقدس والنقطة الأغلى التي انطلقت منها تلك القناة العربية المقاومة، إيماناً من قيادة مجلس إدارتها والقائمين عليها، بأن الزمن العربي الحقّ يجب أن يبدأ من فلسطين، وبياناً واضحاً بأن "الميادين" من فلسطين، ولفلسطين، ومع كل من ينتمي إلى هذه القضية الأساسية العادلة، من دون أي مراوغة أو لعب على حبال الإعلام أو الكلمة.
لقد كان كل شيء واضحاً منذ لحظة "الميادين" الأولى التي أرّخت فيها لزمان المقاومة الإعلامية بأدوات العصر و"بتوقيت القدس الشريف"، لذلك، وللأسباب نفسها التي جعلت من "الميادين" علامة فاصلة وفارقة في حياتنا وفي حساباتنا نحن أهل المقاومة وأهل فلسطين، باتت القناة أيضاً، هدفاً للإعلام الصهيوني ولحملات الأدوات السياسية والإعلامية لقوى وأدوات المشروع الأميركي في المنطقة.
وقبل أن "ينصحنا" مساعد وزير الخارجية الأميركي السابق، ديفيد شينكر، بوجوب ألا نتابع قناة "الميادين"، لأنها في الحقيقة تنقل واقعاً مخالفاً للواقع المشوّه الذي يخدم مصالح الدول الاستعمارية والاحتلال، وتساهم بشكل أساسي في صناعة وعي عربي مقاوم، كانت "الميادين"، ورئيس مجلس إدارتها، غسان بن جدو، هدفاً لعشرات التقارير العدائية الغاضبة على وسائل إعلام كيان الاحتلال، وعلى ألسنة قادة هذا الكيان ومسؤوليه، إلى الدرجة التي أصدرت معها القيادة العسكرية المحتلة أوامرها إلى الإعلام الإسرائيلي مرات عدة، بمنع نقل أي أخبار أو تقارير تنشرها "الميادين"، لما في ذلك من "ضرر" معنوي بالغ بالجنود والمستوطنين، وأثر إيجابي كبير في عقول ونفوس أهل الأرض المحتلة.
وفي الوقت الذي كانت القنوات العربية التي تحتل حيزاً من الفضاء العربي وتعمل لكي الوعي العربي وتزييف الواقع، تستقبل بمعظمها رموز الاحتلال ودعاته والمطبّعين معه، وتحوّلهم إلى "ضيوف" مقبولين في كل بيت عربي، على ما في هذا الأمر من خطر بالغ على قضية فلسطين وكل قضايانا العربية العادلة، كانت " الميادين" تسعى خلف كل صوت يصدح باسم فلسطين وعدالة قضيتها، بل كانت تذهب إلى أقصى مكان في أميركا الجنوبية وآسيا وأفريقيا، لتجلب لنا "المثال" الذي يشبه فلسطين، ويذكر بفلسطين، ويحضّنا على التعاضد والتآخي مع رفاق فلسطين المظلومين المقاومين في كل مكان من هذا العالم، لهذا أصبحت "الميادين" وجهاً آخر مضيئاً لتشافيز ورفاقه، ولكاسترو وأهله المحاصرين في كوبا، ولإيفو موراليس وفقراء ومناضلي بوليفيا.
وبات ممكناً أن يتعرّف المشاهد العربي إلى أليدا تشي غيفارا، ويسمعها وهي تتحدّث عن فلسطين، بكل ما يعنيه ذلك من إعادة ربط لشرايين المقاومة الأممية ضد الاحتلال والظلم وقوى الهيمنة. إن هذا الربط المذهل بين المناضلين والمظلومين وأهل القضايا الحقة، في مقدّمة فضاء العالم، وعلى الرغم من كل أدوات وتقدّم وحداثة الإعلام العالمي المعادي، هو بحد ذاته، سبق إعلامي نضالي يُسجّل باسم "الميادين"، في حال فريدة تحدث للمرة الأولى منذ بدء ثورة الاتصالات والإعلام، وهو يكشف مدى تقدّم الوعي لدى إدارة القناة وكوادرها، بل يكشف بوضوح أننا لسنا أمام قناة إعلامية فضائية مؤثرة، بل أمام مشروع مقاومة إعلامية متكامل ومؤثّر بشكل بالغ وضروري، وله امتداداته وتأثيراته في كل بقعة من هذا العالم فيها قضية عادلة، وكل هذا انطلاقاً من فلسطين، ومروراً بفلسطين، وعودة إليها.
مشروع قاتل بشرف في سوريا وفي العراق وفي اليمن ولبنان، ثابت في كل شارع من فلسطين المحتلة ليرصد الغد ويشارك في صناعته، غد المقاومة الذي "يبدأ اليوم".