أوطان الأمر الواقع!
هل حكم التاريخ علينا أن نحيا في أوطان الأمر الواقع، لا نملك فيها أن نحلم، تحكمنا فيها حكومات تصريف أعمال لا تعرف بدورها متى تنتهي صلاحيتها وتُستبدل؟
يتداول العاملون في مجال الاقتصاد والأعمال، في القطاعين العام والخاص، مصطلح الأمان الوظيفي كأحد العوامل التي تحفز العاملين على الاجتهاد وبذل أقصى مجهودهم لنجاح أعمالهم، وحرص هؤلاء العاملين على الامتثال للقوانين واللوائح للمحافظة على مواقعهم في العمل، واستقرار دخلهم وثباته، وحصولهم على فرص للتطور. وعلى رغم أن مصطلح الأمان الوظيفي يحمل مضامين إيجابية، فإنه يُستغل، في كثير من الأحيان، لفرض قوانين وشروط تعسفية على العمال، لا يملكون مخالَفَتَها محافَظةً على هذا الأمان.
استعارت الحكومات هذا المصطلح، وفرضت على مواطنيها قبول ما يقدم إليهم من فُتات اقتصادي وسياسي تحت شعار الأمن والأمان. وتحول الأمن والأمان إلى رجل شرطة أو ضابط استخبارات يسوم الناس عسفاً، بحجة حماية الوطن من أعدائه. على رغم أن العدو معروف وواضح واسمه الكيان الصهيوني فإنك لن تلتقي أي صهيوني في سجون وطنك، فالعدو هو أنت إذا تجرأت على المطالبة بحقوقك، وخصوصاً السياسية.
واجبك أن تقبل ما تقدمه إليك حكومات الأمر الواقع التي نصبت نفسها حاكماً عليك ذات يوم بترتيب وتقسيم مع القوى الاستعمارية، وصنعت لك حدوداً وعلماً ونشيداً وطنياً. وقبلنا ما كتب الاستعمار علينا، وصرنا مواطنين نسبح بحمد من يحكمنا، لولا أن بعضنا كان يخرج عن الصراط المرسوم، فيطالب بوحدة مع أقرباء له تركهم الاستعمار في الجانب الآخر من خط الحدود، أو بحرية الخلاص من التبعية للاستعمار. أضاف هؤلاء إلى مطالبهم بعد احتلال فلسطين السماح لهم بمقاومة العدو وتحرير الأرض المغتصبة. كان مصير هذه القلة المارقة على الأمر الواقع السجون والتعذيب والمعتقلات، ولا يخلو تاريخ دولة من دولنا من قصص تصف ما أصاب هذه القلة، فكانت عبرة لمن يعتبر، وقبلت الشعوب الأمر الواقع مرة أخرى.
بعد القضاء على المقاومة الفلسطينية في الخارج، بزغ فجر مقاومة جديد من لبنان، مقاومة تجاوزت إحباط الهزيمة وبدأت تصنع انتصاراتها، واحداً تلو الآخر، فأخرجت العدو من لبنان عام 2000، وهزمت غزوته في 2006، فأصبحت هذه المقاومة وقائدها رمزاً هتفت له الشعوب في شوارع العواصم العربية، وعقدت الآمال على تلك المقاومة لتقودنا إلى النصر النهائي. انتفض حراس الأمن والأمان، وقالوا لنا إن هذه المقاومة تغامر بمصائرنا، وإنها تحمل أجندات خارجية، وإنها طائفية، ونال من يقف مع المقاومة صنوف الملاحقة والسَّجن، فانكفأت الشعوب وقبلت الأمر الواقع.
قالوا لنا إن الحل السلمي سيجلب لأوطاننا السمن والعسل، وإن التنازل عن جزء من وطننا سيحمي ما تبقى من هذا الوطن. رفضنا وخرجنا إلى الشوارع محتجين. امتلأت السجون بمن اتُّهموا بتعكير صفو الأمن والأمان؛ المغامرين الذين يسعون إلى جرّنا إلى حرب لا قِبَل لنا بها. ليس مهماً أن عددنا أكبر، وجيوشنا أكثر تسليحاً، بل إن منها من يتصدر قوائم شراء السلاح العالمية، فعدونا أكثر قوة، وتدعمه أكبر قوة في العالم، قوة تملك 99% من أوراق اللعبة كما صرح أحد قادتنا.
وقعوا الاتفاقيات مع العدو أمام شاشات تلفزتنا، ورأينا قتلة أطفالنا يجوبون ويحتفلون في عواصمنا، تارة سياحاً وأخرى رجال أعمال يسرقون ما تبقى لنا من ثروة تسد رمقنا. قبلنا الأمر الواقع، واستعنّا بالمثل الشعبي "لا يقدر على صاحب القدرة إلا رب القدرة".
استيقظنا يوماً على الثورة، وأخبرونا بأنه ربيعنا نحن الشعوب، هتفنا "الشعب يريد إسقاط النظام"، ضحى خيرة شبابنا وبناتنا بأرواحهم، وأسقطنا النظام. لكننا ما لبثنا أن أدركنا أن حلمنا أصبح عودة الأنظمة السابقة بكل جورها وعسفها. هرب شباننا من جحيم الثورات، ليتلقفهم البحر ويغرق الآلاف منهم، وهم يسعون للهجرة.
وقعنا بين سندان الاحتلال الأجنبي، الذي عاد، ومطرقة الإرهاب. فقمقم الربيع لم يُخرج لنا مارداً يحقق امنياتنا، بل أخرج احتلالاً في بغداد، وقصفاً على صنعاء، وتقسيماً في ليبيا، وإرهاباً يفتك بدمشق، ومؤامرات على المقاومة في لبنان وفلسطين. أما جائزة الترضية فكانت انتخابات "ديمقراطية" أعادت بنية الأنظمة السابقة بنكهة أكثر قمعاً وفساداً. قالت لي عجوز تبيع الخضار على رصيف إحدى الدول التي انتصرت فيها "الثورة"، عندما سألتها عن حالها: "والله يا بني كأنك يا بو زيد ما غزيت". تذكرت سذاجتنا ونحن نحتفل بانطلاق الثورة من ميدان سيدي بوزيد في تونس، فأطرقتُ حزناً وخجلاً مما وصلنا إليه. خلاصة الأمر قبلنا بالأمر الواقع، ورضينا بالحكام الجدد قدَراً لا راد له إلا مشيئة الله.
جاءت مشيئة الله يوم الـ7 من أكتوبر 2023، عندما أطلقت ثلة من الشبان العنان لكل أحلامنا ونحن نشهد صورهم وهم يذيقون أحد أقوى جيوش العالم صنوف الذل والهوان.
يقتادون جنوده أسرى، يُحرقون آلياته، يرفعون علم فلسطين فوق الأرض المنهوبة. شاهدنا الطائرات تهرب على حاملاتها. جبهات الإسناد تقدمت تثخن جراح العدو، والعالم من أقصاه يهتف مناصراً قضيتنا. خُيِّل إلينا أن الحلم صار قريب التحقيق، وما علينا إلا نمد يدنا لنمسكه فيصبح واقعاً.
بقدر ما كبرت أحلامنا، كبرت المؤامرات عليها. تُرك المقاومون وحيدين في الساحة، فُرض عليهم الحصار حتى ماتوا جوعاً وبرداً، وفتكت بهم الأمراض. بدأت الأصوات تخفت، عاد المتظاهرون إلى بيوتهم، واختلف الزعماء في قممهم على توزيع حصصهم من جثث القتلى. اغتالوا قادتنا، خبا النور الذي كان يطل كلما أطل علينا سيد شهداء الأمة، الشهيد حسن نصر الله، أطفأوا شعلة يحيى السنوار، ثم سقطت دمشق، آخر معاقل الحلم. أقنعونا بأننا كنا مخطئين وأقاموا حكومة أمر واقع جديد.
هل حكم التاريخ علينا أن نحيا في أوطان الأمر الواقع، لا نملك فيها أن نحلم، تحكمنا فيها حكومات تصريف أعمال لا تعرف بدورها متى تنتهي صلاحيتها وتُستبدل؟ ألم يحن وقتنا لنخرج من قمقمنا ونكون نحن المارد الذي يصنع يومنا وغدنا؟ عبر هذا التاريخ الطويل، أثبتنا أننا أمة قادرة على إنجاب الأبطال، فما علينا إلا إلقاء نظرة على غزّة أو الضفة أو جنوبي لبنان أو اليمن، لنطلقَ الشرارة في كل مدينة وقرية، ولنقولَ لمن يقف في وجوهنا: لا نقبل الأمر الواقع.