المنظومة الأمنيّة في الخليج بين الهيمنة الأميركيّة والتنافس الأوروبيّ
السلوك الأميركي مع السعودية - في تشبّثه بالنفوذ والحضور - يؤشر إلى أنّ الولايات المتحدة لن تخرج من المنطقة عن طيب خاطر، ولن تخرج إلا إذا اقتنعت بأنَّ بقاءها مكلف مادياً وبشرياً.
يتخوَّف القادة الخليجيون من فقدان منظومة أمنية ظلَّت لعقود تحرس الحدود البرية والبحرية لدول مجلس التعاون، وتوفر غطاءً جوياً متطوّراً يحمي سماءها من أيِّ اعتداء، فالمنظومة الأميركية تنامت منذ انسحاب بريطانيا من المنطقة في السبعينيات، حتى استحكمت بوضع قيادة الأسطول الخامس الأميركي رحالها في البحرين في العام 1995، وتأسيس قاعدة العديد الجوية في قطر في العام 1996، وشبّكت واشنطن العلاقات العسكرية والأمنية والاستخباراتية مع كل دول الخليج، وعقدت صفقات عديدة بالمليارات مع تلك الدول، وخصوصاً السعودية والإمارات، وكانت الضامن لتوازن الردع أمام خصم مفترض هو إيران.
كما وضعت هذه المنظومة الأمنية استراتيجية لحماية إمدادات الطاقة، وهو ما كانت دول مجلس التعاون، وخصوصاً السعودية، بحاجة إليه إبان الطفرة النفطية في أواخر النصف الثاني من القرن المنصرم. وقد تراوحت الرعاية الأميركية بين وجود قواتها على الأرض وتدفّق الأسلحة المتطورة إلى الأنظمة الديكتاتورية، حتى تكدَّست في الدول الستّ أسلحة لا تحتاج إليها عملياً، ما دامت المنظومة الدفاعية الأميركية حاضرة للقيام بدور الأخ الكبير لمشيخات الخليج، لكن تلك الأسلحة، كمّاً ونوعاً، لا تكسر تفوق "إسرائيل" عليها بطبيعة الحال.
هذه الظروف وفرت بيئة مناسبة لمشيخة الخليج حتى تعيش التواكل على الذراع العسكرية الأميركية في حمايتها. بعض محلّلي السياسات الخليجيّة يقولون أن لا داعي للمبالغة في نقد هذه العلاقة الأمنية بين أميركا ودول الخليج، فالأخيرة تدفع من أموالها لتحمي نفسها، وهذا هو معنى تبادل المصالح، لكنْ يفوت هؤلاء أنَّ الاعتماد الكلّي على الأجنبي في هذا الجانب الخطير والمهمّ يعني فقدان دول الخليج الاستراتيجية الأمنية، ما يجعلها مرهونة دائماً إلى من يوفر لها تلك الاستراتيجية بمنظومتها ولوازمها، إذ إنّ فقدان دول مجلس التعاون للاستراتيجية الأمنية الحقيقية جعلها في حالة من الارتباك بعد خروج القوات الأميركية من أفغانستان في 30 آب/أغسطس من العام الماضي، والتي كانت درعاً أولية - مفترضة - من أيّ تحرك إيراني محتمل، إذ تقع الجمهورية الإسلامية من جهة الغرب للحدود الأفغانية، وهي حدود طويلة تمتدّ على 945 كلم.
تقييد مبيعات الأسلحة: ورطة أو فرصة؟
تفاجأ الخليجيون بتصريح للخارجيّة الأميركيّة في 27 كانون الثاني/يناير من العام الماضي، يفيد بتعليق إدارة بايدن صفقات وقّعت في عهد ترامب، تتمثل ببيع أسلحة للمملكة العربية السعودية ومقاتلات "إف35 " للإمارات العربية المتحدة. وبرَّر البيت الأبيض هذا الإجراء بـ"مراجعة" قرار اتّخذ إبان ولاية الرئيس السابق.
هذا التقييد فاقم تخوف الرياض من تغير استراتيجية واشنطن تجاهها، إذ اشتكت المملكة من نقص الذخيرة التي تحتاجها في عدوانها على اليمن. وقد أظهرت المملكة العربية السعودية بوضوح حاجتها إلى الأسلحة، وهو ما كشفته "صحيفة وول ستريت جورنال" في 7 كانون الأول/ديسمبر 2021، حين نقلت عن مسؤوليَن أميركيين قولهما إنَّ وزارة الخارجية تنظر في مسألة البيع المباشر لهذه الصواريخ التي طلبتها الرياض، وسيكون عليها الموافقة على تزويد المملكة بالصواريخ من حكومات أخرى، مثل قطر.
وبحسب الصَّحيفة، أفاد مسؤول حكومي سعودي بأنَّ عدد الهجمات على المملكة زاد بشكل كبير، مشيراً إلى أنَّ الطائرات المسيّرة ضربت الأراضي السعودية 29 مرة في تشرين الثاني/نوفمبر، و25 مرة في تشرين الأول/أكتوبر. وفي الشهرين المذكورين، تعرَّضت البلاد لـ21 هجوماً صاروخياً باليستياً.
وأشار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب أكثر من مرة إبان فترة رئاسته، وبشكل صريح جداً، إلى أنَّ النظام في السعودية ما كان ليبقى مستقراً لمدة أسبوعين لولا دعم واشنطن له. وهدَّد نواب في الكونغرس الأميركي السعودية برفع الدعم عنها في الفترة التي دوّت خلالها فضيحة مقتل الصحافي جمال خاشقجي في سفارة بلاده في إسطنبول، لكن يُخشى أن يأتي تقييد إدارة بايدن لصفقات السلاح على غرار تقييد إدارة ترامب بشكل ظاهري لها، إذ طرد المفتش العام لوزارة الخارجية الأميركية، ستيف أيه. لينيك، في أيار/مايو من العام 2020، بسبب تحقيق أجراه بشأن ما إذا كانت الإدارة أعلنت حالة الطوارئ في العام 2019 بشكل غير قانونيّ، لتتمكَّن من بيع الأسلحة للسعودية والإمارات العربية المتحدة.
وشهدت الخارجية الأميركية في السنة الأخيرة من إدارة ترامب جدلاً مجلجلاً بين من يريد أن يمرّر الأسلحة تحت عنوان الطوارئ وتوابعه، ومن يريد أن يكون التقييد صارماً وحازماً وحقيقياً. هذا ما جعل الرياض وأبو ظبي تقومان بخطوات أولية للانفتاح على سوق السّلاح الأوروبي والروسي.
هل تتخلّى أميركا عن رعايتها الأمنيّة للخليج؟
قام مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان للمملكة في أيلول/سبتمبر 2021 (أي بعد 9 أشهر من تعليق بعض الصفقات التسليحية) بزيارة إلى المملكة العربية السعودية، ما اعتبر حينها أنه كان طمأنةً للمملكة، إذ إنّ سوليفان هو أكبر مسؤول أميركي في إدارة بايدن يجتمع مع الأمير الشاب الذي ما زال الرئيس الأميركي يرفض الاتصال المباشر معه حتى الآن، رغم أنَّ زيارة مستشار الأمن القومي جاءت بعد إلغاء زيارة مقررة في الشهر نفسه لوزير الدفاع لويد أوستن.
وقد بررت إدارة البيت الأبيض أنَّ الإلغاء جاء بسبب تزاحم جدول الوزير، ما يوحي بأنَّ ثمة تبادل أدوار ولعباً على الوقت في مسألة اتخاذ موقف صارم من المملكة بسبب جرائمها المختلفة.
دلالات الفتور الأميركي تجاه الخليج
المنظومة الأمنية الأميركية في الخليج تنقسم إلى قسمين؛ الأول هو إمداد عسكري دائم يترجم في صفقات السلاح، والآخر هو تواجد قواعد عسكرية وقطعات بحرية للحماية المباشرة.
السلوك الأميركي مع السعودية - في تشبّثه بالنفوذ والحضور - يؤشر إلى أنّ الولايات المتحدة لن تخرج من المنطقة عن طيب خاطر، ولن تخرج إلا إذا اقتنعت بأنَّ بقاءها مكلف مادياً وبشرياً، ولا يتأتى ذلك إلا من خلال المقاومة، لكن حتى في حال خروجها – فرضاً - فلا يعني ذلك توقف تدفّق السلاح والمنافسة عليه.
أما الفتور الأميركيّ ظاهرياً تجاه الحلفاء في الخليج، فيأتي لأسباب عديدة:
-تخفيف الضغط الداخلي والخارجي بشأن تغطية أميركا للجرائم التي ترتكبها السعودية والإمارات.
-إعادة تموضع يصاحبها إعادة انتشار بسبب تغير سياسات واشنطن العالمية. وقد أشرت إلى ذلك التغير وتفاصيله في مقالات سابقة.
أمّا إشراك حلفاء واشنطن في حوض الخليج لإدارته، لسببين:
الأول: تقاسم الكلفة اللوجستية.
الثاني: خلط الأوراق على محور المقاومة الذي أعلن بوضوح أن إخراج أميركا من المنطقة هو الرد الاستراتيجي على اغتيال واشنطن للقائدين الكبيرين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس في 3 كانون الثاني/يناير 2020.
مبيعات السلاح الأميركي للخليج
نوَّعت دول الخليج مشترياتها العسكرية، لكن الثقل الأكبر في تلك المشتريات لا يزال لمصلحة الولايات المتحدة الأميركية. وقد أصدر معهد "استوكهولم" الدولي لأبحاث السلام في آذار/مارس 2020 تقريراً حول حجم صادرات السلاح في العالم بين العامين 2015 و2019، أشار فيه إلى أنَّ مبيعات الأسلحة ازدادت خلال السنوات الخمس الأخيرة في العالم بنسبة 5.5% مقارنة بالأعوام 2010 - 2014.
التقرير، وإن كان يشمل كلّ دول العالم، إلا أنّه ركز على السعودية، بوصفها أكبر مستورد للأسلحة في العالم خلال 5 سنوات (2015 - 2019)، إذ تشير الإحصائيات إلى أنَّ وارداتها زادت بنسبة 130% مقارنة بالفترة ذاتها (2010 - 2014).
وأكد التقرير أنَّ واردات الأسلحة السعودية في السنوات الخمس الأخيرة تمثل 12% من إجمالي واردات الأسلحة العالمية في الفترة المذكورة.
معهد "استوكهولم" الدولي لأبحاث السلام أشار أيضاً إلى الإمارات، لكونها كانت أكبر مستورد للسلاح خلال العامين الأخيرين، وبيّن حجم إنفاقها العسكري، إذ بلغت وارداتها من أميركا فقط 22.5 مليار دولار، فيما عمدت الكويت إلى توقيع صفقة أسلحة وتطوير قطع عسكرية مع الإدارة الأميركية في نهاية العام 2020، بلغت قيمتها 4.4 مليار دولار، وتشمل تطوير 16 طائرة مروحية من طراز "أباتشي"، وشراء 8 مروحيات جديدة، مع تزويد المقاتلات بأنظمة الدفاع الجوي الصاروخيّ، كما اشترت الكويت 517 شاحنة ثقيلة لمصلحة القوات البرية بقيمة 445 مليون دولار.
أما قطر، فقد تسلَّمت العام الماضي الدفعة الأولى من مقاتلات "F15" ضمن صفقة تبلغ قيمتها 12 مليار دولار عُقدت في العام 2017.
الاتجاه نحو سوق السّلاح الأوروبي
التنسيق الأمني بين الولايات المتحدة وأوروبا بشأن دول الخليج واضح، سواء على مستوى التواجد العسكري، كما في قاعدة العديد في قطر، التي تعد قاعدة أميركية، لكن فيها سرب من الطيران الملكي البريطاني مثلاً، أو على مستوى تنظيم الصفقات، لكنه رغم ذلك لا يخلو من منافسة تغتنمها الدول الأوروبية كلَّما أرخت أميركا الخيط.
المشكلة أنَّ الولايات المتحدة قيَّدت حلفاءها المصنعين للسلاح باتفاقية تسمى "لوائح تجارة الأسلحة الدولية"، وهو إطار تنظيمي تستفيد منه واشنطن كلَّما دعت الحاجة، ومفاده أنَّ أيّ صفقة سلاح تحتوي 5% من السلاح المصنوع في الأراضي الأميركية - وإن كان مصنعاً أوروبياً - فلواشنطن الحقّ بمنعه، وهذا ما فعلته حين منعت صفقة بيع طائرات "رافال" الفرنسية لمصر في العام 2018.
نشر مركز "مالكوم كار-كارنيغي" في تموز/يوليو 2021 دراسة بعنوان "تنظيم التنافس الأميركي - الأوروبي على تصدير السلاح"، تقول: "غالباً ما يستخدم مُورِّدو معدات الدفاع الأوروبيون حجّة تسويقية مشابهة لتلك التي تسوقها روسيا والصين، فهم مستعدّون، على النقيض من الولايات المتحدة، لغض النظر عن وجهة الاستخدام النهائية. وينطبق هذا الأمر بصورة خاصة على فرنسا، وبدرجة أقلّ على المملكة المتحدة وألمانيا وإيطاليا وغيرها من الدول"، وهو ما يخلق متنفساً خليجياً، لكنه أيضاً يخضع لرقابة أميركية، سواء قانونية أو سياسية.
ولا تزال تجارة السلاح بين الخليج وأوروبا ضئيلة، وبدرجة أقل مع روسيا والصين، ولا يزال النّظام التشغيلي للمنظومة الدفاعية في الخليج أميركية، وإن خُفّف كمّها، فإنّ كيفها قائم.