المناورة البريّة الإسرائيلية.. الاستعاضة من القتال بالحصار
ما يقوم به الاحتلال من تشديد للحصار، ورفع لمنسوب العدوان، يمكن النظر إليه على أنه أسلوب جديد يستعيض به الاحتلال من إخفاقاته الميدانية المتتالية، والتي سبّبت لقادته إحراجاً كبيراً أمام جمهورهم،
بعد أكثر من 20 يوماً من القصف الجوي المكثّف، الذي بدأته قوات الاحتلال الصهيوني ضد قطاع غزة، في الثامن من تشرين الأول/أكتوبر من الشهر الماضي، في إطار ردّها الجنوني على عملية "طوفان الأقصى" البطولية، والتي ضربت منظومة الأمن الصهيونية في مقتل، وكشفت فشل تلك المنظومة وإخفاقها في مواجهة الهجمات التكتيكية المنظمة، وأظهرتها في قمة عجزها وإرباكها، أعلنت قيادة "الجيش" الإسرائيلي، قبل أسبوع تقريباً، ومن ورائها القيادة السياسية برئاسة نتنياهو وائتلافه المتأزّم، الذهاب في اتجاه البدء في تنفيذ مناورة برية واسعة ضد المنطقة الشمالية في قطاع غزة، ووضعت مجموعة من الأهداف عالية السقف في ذلك الوقت، ووعدت جمهورها المصدوم من جراء الهزيمة، التي تعرّضت لها في غلاف غزة، بتحقيقها خلال مدة زمنية محدودة.
من جملة تلك الأهداف كان القضاء على المقاومة في غزة، وإسقاط حكم حماس، وتدمير الأنفاق، والأهم من ذلك كله استعادة الأسرى الإسرائيليين جميعهم بقوة النار والبارود، بعيداً عن أي مفاوضات، ومن دون تقديم أي ثمن سياسي أو اقتصادي، ومن دون الإفراج عن أي أسير فلسطيني من السجون الصهيونية.
اليوم، بعد مرور أكثر من أسبوع من المناورة البرية التي بشّر بها غالانت ونتنياهو وهاليفي، وهم يرتدون الثياب السوداء، ويظهرون في وجوه عابسة، كأن على رؤوسهم الطير، وفي ظل حملة واسعة وهائلة من الحرب النفسية التي تم شنها على المدنيين الفلسطينيين، وترهيبهم وإنذارهم بالرحيل وإلّا فسيواجهون خطر القتل والإبادة، مثل الآلاف الـعشرة الذين سبقوهم، ونتيجة ظهور كثير من النتائج الميدانية المترتّبة على هذه المناورة، يمكن لنا الخروج ببعض الخلاصات والاستنتاجات، التي بدأت تتّضح شيئاً فشيئاً، وجميعها يشير إلى إخفاق إسرائيلي هائل، تمثّل بفشل تكتيكي مركّب، وإخفاق عملياتي مستدام.
في المناورة البرية الإسرائيلية بالغة التعقيد، ظهر كثير من العيوب والمشاكل في أداء قوات "الجيش" الإسرائيلي، بدأت بفشل واضح في إحداث اختراق حقيقي في المحاور المتعدّدة التي قام بفتحها، ولم تنتهِ بسقوط عدد كبير من القتلى والجرحى في صفوف قواته النخبوية، وصلت حتى الآن، بحسب مصادر في المقاومة، إلى أكثر من 50 قتيلاً، ومئات الجرحي، بالإضافة إلى تدمير عشرات الدبابات والعربات المدرعة، التي مثّلت على الدوام سيف جيش الاحتلال الضارب في كل معاركه وغزواته.
بالإضافة إلى ذلك، ظهر جلياً حجم الإرباك الذي يعانيه جنود جيش الاحتلال، وعجزهم الشديد في أثناء خوضهم المواجهات المباشرة مع المقاتلين الفلسطينيين، واعتمادهم على التحرك من خلال الآليات والدبابات، التي تحوّلت في كثير من الأوقات إلى قطع من الفولاذ المشتعل بفعل صواريخ المقاومة الموجَّهة، وعبواتها شديدة الانفجار والتدمير.
بعد هذه التطورات المهمة والحاسمة، والتي عدّها البعض مُفاجِئة وغير مُتوقعة، ونتيجة انقلاب الصورة التي كان يريد رسمها الاحتلال ليرمم ما انكسر من قوة ردعه، وليعيد بناء جدار الوهم الذي كان يلوّح به في وجوه كل أعدائه، بدأت قيادة جيش الاحتلال، بمتابعة وتوجيه من المستشارين الأميركيين الذين يديرون الحرب من غرف العمليات وسط "تل أبيب"، وَضْعَ سيناريوهات أخرى لشكل المعركة في الأيام وربما الأسابيع المقبلة؛ سيناريوهات تنخفض فيها الخسائر البشرية والمادية، وتتقلّص فيها الإخفاقات الميدانية، وتساعد على تحمّلهم المُدَدَ الزمنية التي يبدو أنها بدأت تضيق عليهم، وتحشرهم في زوايا الفشل والإخفاق المتراكمين، واللذين يهدّدان بسقوط مدوٍّ لكل من يقف خلفها، أو يعمل على إطالة أمدها.
أحد السيناريوهات، التي بدأت تتشكّل خلال اليومين الأخيرين، تقليصُ العمليات البرية المباشرة، والتخفيف قدر الإمكان من الاحتكاك المباشر، وجهاً لوجه مع المقاتلين الفلسطينيين، إذ إن تلك الاشتباكات، التي وصفتها المصادر الإسرائيلية بالقاسية والصعبة، والتي أظهرت بعضَها الصورُ والفيديوهات التي وزعتها المقاومة، كانت السبب الأساس في سقوط كثير من القتلى والجرحى وتدمير الآليات، وباتت تشكّل عبئاً ثقيلاً على كواهل الضباط والجنود، الذين يتم تكليفهم تنفيذها.
وبدا هذا الأمر جلياً في تراجع قوات الاحتلال في بعض المحاور التي تقدّمت إليها سابقاً، مثل محور شمالي غربي قطاع غزة، والذي كانت القوات الإسرائيلية قطعت فيه شوطاً مهماً، حتى وصلت إلى قرب مسجد الخالدي عند شاطئ بحر غزة، وبات يفصلها عن المدخل الشمالي لمخيم الشاطئ ما يزيد قليلاً على كيلومتر واحد. وهذا المخيم، لو تم تجاوزه، فستصل تلك القوات إلى مستشفى الشفاء، أكبر وأهم مستشفيات قطاع غزة، والذي يحوي بين جدرانه ما يزيد على 60 ألف فلسطيني، بين مريض وجريح ونازح.
هذا التراجع وهذا الانكفاء، واللذان يمكن أن يكونا تكتيكيين، في جزء منهما، بغرض تبديل القوات، وصيانة الآليات، وتحديث الخطط، انسحبا أيضاً على المحور الجنوبي الغربي من مدينة غزة، حيث تراجعت القوات المتقدّمة من شارع رقم 10 جنوبي غربي المدينة، والتي كانت تسعى للتحرّك شمالاً في اتجاه "دوار الدحدوح" وسط الشارع رقم 8، الذي يصل بين دوار الكويت عند شارع صلاح الدين شرقاً، وبين شارع الرشيد "البحر" غرباً، والذي واجهت فيه القوات المتقدمة قتالاً ضارياً، خسرت فيه العشرات من جنودها، وكثيراً من آلياتها، كما هي الحال في محور شمالي غربي القطاع.
في مقابل هذه التراجعات والانكفاءات الميدانية، بدا واضحاً توجّه قوات العدو إلى فرض حصار خانق ومُطبق على سكان المنطقة الشمالية من القطاع، والتي يسكنها أكثر من مليون ومئتي ألف نسمة، يعاني معظمهم، منذ 4 أسابيع، انقطاعاً كاملاً للمياه والكهرباء، ووسائل الاتصال والإنترنت، ناهيك بافتقادهم معظم أساسيات الحياة، من مأكل وملبس، الأمر الذي حوّل حياتهم إلى جحيم، وجعل لياليهم خوفاً ورعباً وفزعاً.
هذا الحصار بدأ الاحتلال تنفيذه من خلال وسائل متعددة، بعضها يترك آثاراً مباشرة، والبعض الآخر قد يصبح مدخلاً لآثار أخرى طويلة الأمد أكثر خطورة وفتكاً، ولا سيما على صعيد انتشار الأمراض المُعدية، والآفات المميتة.
في اليومين الأخيرين تحديداً، لجأ العدو إلى استهداف معظم مولدات الكهرباء الموجودة في الشوارع، وهي التي كانت توفر بديلاً مقبولاً من شبكة الكهرباء الرسمية، والتي توقفت منذ اليوم الأول من العدوان، نتيجة عمليات القصف العنيفة التي استهدفت شركة توليد الكهرباء الوحيدة، أو خطوط التوزيع التي تضررت بصورة كبيرة.
بالإضافة إلى ذلك، بدأت طائرات العدو قصف خلايا الطاقة الشمسية، والتي توفّر أيضاً جزءاً من الطاقة الكهربائية، ولا سيما للمخابز والمحالّ التجارية، أو ما تبقّى منها من دون قصف أو تدمير. ويُلاحَظ أن هذا الاستهداف يتركز على محيط المستشفيات والمراكز الطبية، إذ تمّ قصف معظم هذه الخلايا في محيط مستشفيَي الشفاء والقدس، وهو ما أوقف عمل تلك المؤسسات، وأفرز واقعاً معيشياً صعباً للغاية، بحيث تفتقد أغلبية العوائل ما يُسد رمق أطفالها، وبات أفرادها يصطفون في طوابير طويلة للحصول على عدة أرغفة من الخبز.
إلى جانب كل ذلك، هناك تركيز على استهداف محطات المياه، والسيارات التي تقوم بتوزيعها في أرجاء مدينة غزة وشماليها، وهو الأمر الذي فاقم الأزمة الإنسانية، وساهم في ظهور أمراض كثيرة، نتيجة المياه الملوثة التي يضطر الناس إلى شربها، مثل أمراض الصدر والمعدة، والسعال الشديد الذي ينتشر بشدة في أوساط المواطنين الفلسطينيين، ولا سيما الموجودون في مراكز الإيواء من مدارس ومستشفيات.
كل ما تقدّم من إجراءات يسعى الاحتلال من ورائه لخنق أهالي القطاع، والتضييق عليهم، وفرض إجراءات عقابية إضافية بحقهم، يّضاف إلى ذلك فصل المناطق الشمالية عن نظيرتها الجنوبية، وقطع كل إمدادات الغذاء والدواء والوقود عنها، وهو الأمر الذي أدى إلى مفاقمة الأزمة، وزيادة الأعباء، وظهور تداعيات خطيرة قد تهدد لاحقاً بمزيد من الكوارث، وخصوصاً على مستوى صحة المواطنين، جسدياً ونفسياً، وكذلك على علاقاتهم الاجتماعية، التي بدأت تتأثر نسبياً نتيجة الفقر والجوع.
بناءً على ما تقدّم، فإن ما يقوم به الاحتلال من تشديد للحصار، ورفع لمنسوب العدوان، وابتكار وسائل جديدة تساهم في مفاقمة الحالة الإنسانية المتردّية لعموم أهالي القطاع، وتحديداً المحافظات الشمالية منه، والذي يمكن تصنيفه كواحدة من أسوأ أدوات القتل والإبادة ضد المدنيين، وهو ما يتناقض تماماً مع مفاهيم حقوق الإنسان، والمحافظة على حياة المدنيين في أوقات الحرب، يمكن النظر إليه على أنه أسلوب جديد يستعيض به الاحتلال من إخفاقاته الميدانية المتتالية، والتي سبّبت لقادته إحراجاً كبيراً أمام جمهورهم، الذي اعتقد، نتيجة ما ساقوه له من أوهام وأكاذيب، أن النصر سيكون قريباً، وأن الغلبة ستكون لجيشهم الذي لا يُقهر.
وبالتالي، يجب أن ينتبه الجميع لهذا الأسلوب الجديد، من أجل وضع الخطط لمواجهته وإفشاله، وابتكار الحلول العملية للتعامل معه، على نحو يضمن المحافظة على حياة المواطنين، وتجنيبهم مزيداً من الكوارث والأزمات التي باتت تحيط بهم من كل جانب.
مطلوب من الإدارات المحلية والخدمية في القطاع، والمؤسسات الدولية والأممية التي أدارت ظهرها منذ أول يوم، وخصوصاً للمنطقة الشمالية، وطلبت إلى موظفيها وكوادرها المغادرة إلى المناطق الجنوبية بناءً على أوامر الاحتلال، أن تقوم بما يمليه عليها واجبها، أخلاقياً وإنسانياً، وأن تقدم كل ما تستطيع من أجل التقليل من تداعيات هذا الحصار المميت، وأن ينتبه الجميع، بمن فيهم قادة فصائل المقاومة الفلسطينية، ومن خلفهم محور المقاومة في المنطقة، إلى أن هذه الحرب تُخاض، في أكثر من صعيد، ويُستخدم فيها كثيرٌ من الأدوات، وأن تحقيق النصر في حاجة إلى العمل الدؤوب والمستدام لحماية الجبهة الداخلية للمقاومة، وحاضنتها الشعبية الصلبة، وأنه من دون ذلك لن تستطيع القوة العسكرية وحدها التصدي لعدوان الاحتلال، ولن تستطيع الصمود في وجه هجماته القاتلة، من دون أن يكون لديها جبهة داخلية قوية، وحاضنة شعبية صلبة.