الـ25 من يناير في مصر: بين طموحات التغيير وضغوط الواقع الإقليمي

يظل المزاج الشعبي المصري شاهداً على وعي متجذر بأهمية السلمية كوسيلة للتغيير وحماية مكتسبات الدولة من الانهيار، لكن هذا المزاج لن يبقى في معزل عن ضغوط التحديات التي يواجهها المواطن يومياً.

  •  إرث الـ25 من يناير في سياق إقليمي جديد.
     إرث الـ25 من يناير في سياق إقليمي جديد.

تأتي ذكرى الخامس والعشرين من يناير حاملةً معها مزيجاً متناقضاً من الآمال والأحلام، التي ألهبت القلوب يوم انطلقت الثورة، والإرث الثقيل للتحديات التي لا تزال تلقي ظلالها على حاضر الأمة ومستقبلها. إنها لحظةٌ في الذاكرة الوطنية المصرية لا تُختزل فقط في الحشود التي ملأت الميادين مطالبةً بالعيش والحرية والكرامة، بل تجسد أيضاً صراعاً أعمق بين إرادة الشعوب وسلطان الأنظمة، وبين تطلعات المستقبل وأثقال الماضي.

في ظل متغيرات إقليمية متسارعة، تتشابك الأحداث وتتعاظم التحديات، ليبقى السؤال الملح: كيف يمكن استلهام إرث الخامس والعشرين من يناير كمنارة للنهوض مجدداً؟ وكيف يمكن للمجتمع المصري أن يوازن بين آمال الثورة وأعباء الحاضر، في مواجهة واقع إقليمي ملتهب، بحيث تُرسم خريطة جديدة لمصالح القوى الكبرى على حساب الشعوب؟

إن استحضار هذه الذكرى لا يعني مجرد الغوص في ذكريات الماضي، بل يفرض علينا البحث في إمكان تحويل هذا الإرث الثوري إلى طاقة متجددة تعيد صياغة الحاضر وتُمهّد لمستقبل أفضل.

 إرث الـ25 من يناير في سياق إقليمي جديد

تحل ذكرى أحداث الـ25 من يناير هذا العام، وسط مشهد إقليمي متغير، يشهد تحولات كبيرة تلقي ظلالها على الوضع الداخلي في مصر. في مقدمة هذه التحولات، ما يحدث في سوريا من سيطرة جماعة قريبة من الإخوان المسلمين على أجزاء من السلطة عبر تحالفات مع جماعات مسلحة، فضلاً عن استقبال أحمد الشرع (المعروف بالجولاني) عناصر إخوانية وقيادات ذات صلة بالجماعة، وصولاً إلى ترقية أحد المصريين إلى رتبة عسكرية رفيعة ضمن تلك الجماعات. كل هذا يتزامن مع تصاعد الدعوات من جماعة الإخوان في الخارج إلى إحياء "ثورة جديدة" في مصر. هذا السياق يثير تساؤلات بشأن إمكان تكرار ما حدث في يناير 2011، لكن في ظل ظروف وسياقات مغايرة تماماً.

جدلية التأثير المتبادل

لطالما شكلت مصر وسوريا ركيزتين أساسيتين في النظام العربي، وارتبطت تحولات كل منهما تاريخياً بتأثير متبادل. خلال الوحدة بين البلدين عام 1958، والتي كانت تحت مظلة الجمهورية العربية المتحدة، بدا واضحاً أن مصيرهما مرتبط بمشروع قومي واحد. وعلى رغم أن الوحدة لم تستمر طويلاً، فإنها تركت بصمة عميقة في الوعي، شعبياً وسياسياً.

شهدت العلاقات بين البلدين محطات فارقة، أبرزها التعاون، عسكرياً وسياسياً، خلال حرب أكتوبر 1973، بحيث شكّل التنسيق بين الجيشين المصري والسوري نموذجاً عن الوحدة العربية في مواجهة الاحتلال الصهيوني. ومع ذلك، جاءت الأحداث اللاحقة لتُظهر أن الأزمات في أحد البلدين غالباً ما تُحدث صدىً في الآخر.

مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، تأثرت مصر بالمشهد السوري المتدهور، وخصوصاً خلال فترة الاضطراب السياسي التي أعقبت ثورة 25 يناير. اليوم، تعود جدلية التأثير المتبادل إلى الواجهة، بحيث يُطرح تساؤل عما إذا كان الصراع السوري وتحولاته، بما في ذلك صعود الجماعات ذات الصلة بالإخوان المسلمين، يمكن أن يكون لها انعكاس على مصر.

تجربة الإخوان المسلمين بين مصر وسوريا

في مصر، استفادت جماعة الإخوان من الزخم الشعبي الذي أعقب ثورة الـ25 من يناير 2011، واستغلت ضعف الأحزاب السياسية التقليدية للوصول إلى الحكم. دعم غير معلن من الإدارة الأميركية، تمثّل بزيارة السفيرة الأميركية، آن باترسون، للمرشد العام للجماعة، أعطى انطباعاً بوجود توافق دولي على صعود الإخوان. على رغم تعهداتهم عدم الترشح للرئاسة، فإنهم رشحوا محمد مرسي، الذي فاز بالانتخابات الرئاسية عام 2012. لكن سرعان ما انكشفت ممارساتهم الإقصائية، والتي تضمنت محاولات "أخونة" مفاصل الدولة.

خلال عام واحد فقط، أدت هذه الممارسات إلى استياء شعبي واسع، تُرجم احتجاجات حاشدة في الـ30 من يونيو 2013، شارك فيها ما يقرب من 30 مليون مصري. انتهت هذه الاحتجاجات بعزل مرسي وسقوط الجماعة سياسياً في مصر، الأمر الذي شكل ضربة قاسية لطموحاتها الإقليمية.

 التحالف مع السلاح

على العكس من التجربة المصرية، سعت جماعة الإخوان في سوريا لتحقيق نفوذ سياسي عبر التحالف مع جماعات مسلحة، أبرزها هيئة تحرير الشام، بقيادة أحمد الشرع (الجولاني). هذه الجماعات استغلت حالة الفوضى في سوريا لتقديم نفسها قوةً ثورية مسلحة، على رغم ارتباطها بتنظيمات متطرفة، وتصنيفها دولياً جماعاتٍ إرهابيةً.

التجربتان المصرية والسورية تكشفان أسلوبين مغايرين، لكنهما يشتركان في السعي لاستغلال الظروف لتحقيق أهداف سياسية، مع نتائج كارثية على البلدين.

رفض العنف وتحديات الواقع

في خضم التحولات الكبرى التي شهدتها مصر بعد ثورة الـ25 من يناير، برز المزاج الشعبي كأحد العوامل الحاسمة في تشكيل مسار الدولة والمجتمع. تجذّر رفض العنف في الوعي الجمعي، مدفوعاً برغبة عميقة في المحافظة على استقرار البلاد وتجنيبها سيناريوهات الفوضى. ومع ذلك، فإن التحديات الاقتصادية والاجتماعية، التي يواجهها المواطنون اليوم، باتت تمثل ضغطاً لا يمكن تجاهله، يختبر قدرة الدولة على تقديم استجابات حقيقية تتماشى مع آمال الشعب وطموحاته.

وسط هذا التوتر، تظل المؤسسات المصرية، بقوتها وتماسكها، ركيزة رئيسة لضمان استقرار الدولة، لكنها تواجه مهمة دقيقة لتحقيق التوازن بين حفظ الأمن وتلبية تطلعات المواطنين المشروعة في حياة كريمة وعدالة اجتماعية.

 رفض العنف كوسيلة للتغيير

تكشف التجربة المصرية، وخصوصاً في أعقاب ثورة الـ25 من يناير، وعياً شعبياً عميقاً بأهمية السلمية كنهج للتغيير. كانت الثورة نموذجاً فريداً عن الحراك السلمي، الذي استند إلى إرادة جماعية بعيداً عن العنف، الأمر الذي منحها شرعية شعبية ودولية. هذا المزاج السلمي لم يكن مجرد لحظة عابرة، بل يعكس رفضاً مجتمعياً للعنف، الذي غالباً ما يؤدي إلى مزيد من التدهور، اقتصادياً واجتماعياً.

ومع ذلك، فإن هذا الرفض للعنف قد لا يستمر في غياب استجابة حقيقية لمطالب الناس. إذا لم تتم معالجة الأزمات المزمنة، التي يعانيها المصريون، فقد تجد فئات مهمَّشة نفسها مجبرة على التفكير في وسائل أخرى تعبيراً عن سخطها، وهو تحدٍّ كبير أمام الدولة.

التحديات الاقتصادية والاجتماعية

على رغم نجاح المؤسسات في المحافظة على استقرار الدولة، فإن مصر تواجه أزمات اقتصادية واجتماعية تُعَد الأكبر منذ عقود. ارتفاع تكاليف المعيشة، تزايد معدلات البطالة، وتفاقم الفجوة بين الطبقات الاجتماعية، أدت إلى استنزاف شريحة واسعة من الطبقة المتوسطة وإضعاف قدرتها على الصمود.

وفي ظل هذه الظروف، باتت شريحة الرأسمالية المتوحشة تُحكم قبضتها على الاقتصاد الوطني، الأمر الذي زاد في معاناة الفئات الأفقر، وخلق شعوراً عاماً بالغبن وانعدام العدالة. ومعالجة هذه التحديات تتطلب إجراءات جذرية لإعادة توزيع الثروة، وتعزيز شبكات الحماية الاجتماعية، والحد من تغول رأس المال على حساب حقوق المواطنين.

 قوة المؤسسات المصرية

وسط هذه الأزمات، تظل المؤسسات المصرية ركيزة استقرار الدولة، وخصوصاً المؤسسات العسكرية والأمنية، والتي حافظت على كيان الدولة في أوقات الشدة. وعلى رغم التحديات، فإن هذه المؤسسات استطاعت المحافظة على الحد الأدنى من النظام، وسط محيط إقليمي يعاني الفوضى والانهيار.

لكن الاعتماد المفرط على قوة المؤسسات، من دون معالجة جوهر المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، قد يعزز شعور المواطنين بالغربة تجاه الدولة. يجب أن تُدرك هذه المؤسسات أن دورها لا يقتصر على الحماية الأمنية فقط، بل يمتد أيضاً إلى المساهمة في خلق بيئة مستقرة، سياسياً واقتصادياً، تتسق مع تطلعات الشعب، الذي يرفض الفوضى، لكنه يتوق إلى العدالة.

بين إرث الماضي وتحديات المستقبل

بينما تحمل ذكرى 25 يناير دروساً عميقة من الماضي، فإنها تُلقي الضوء على تحديات الحاضر وفرص المستقبل. من الضروري أن تستفيد الدولة من دروس تلك المرحلة، مع التركيز على تعزيز الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية ومحاربة الفساد.
وفي ظل المتغيرات الإقليمية، يجب أن تبقى مصر متيقظة لمحاولات تصدير الأزمات إليها، مع تأكيد أهمية الوحدة الوطنية والعمل المشترك بين الشعب ومؤسساته لضمان استقرار البلاد وحماية مكتسباتها.

في نهاية المطاف، يظل المزاج الشعبي المصري شاهداً على وعي متجذر بأهمية السلمية كوسيلة للتغيير وحماية مكتسبات الدولة من الانهيار، لكن هذا المزاج لن يبقى في معزل عن ضغوط التحديات الاقتصادية والاجتماعية، التي يواجهها المواطن يومياً. إن استمرار الأزمات من دون حلول جذرية يهدد بتحول حالة السخط إلى نقمة قد تُحدث شرخاً في العلاقة بين الشعب والدولة.

تتمثل الفرصة بقدرة المؤسسات المصرية وبقوتها التاريخية وتماسكها على قيادة مرحلة انتقالية توازن بين متطلبات الأمن والاستقرار واحتياجات التنمية والعدالة. فكما أثبتت هذه المؤسسات قدرتها على حماية الدولة من الفوضى، فإنها اليوم مدعوّة إلى تجاوز الدور التقليدي والمساهمة في خلق مناخ سياسي ومناخ اقتصادي يلبيان طموحات الشعب، ويؤسسان عقداً اجتماعياً جديداً يضع الإنسان في صلب الأولويات.

إن استعادة الثقة بين الدولة والمواطن، ومواجهة الأزمات بجرأة وشجاعة، هما السبيل الوحيد إلى ضمان استقرار حقيقي ومستدام، يحفظ للأجيال القادمة إرث الـ25 من يناير كحلم تحقق يوماً، ولم يتحول إلى عبء جديد.