"نيويورك تايمز": ذاكرة الإنسان والمكان التي دمّرها الاحتلال في غزّة

بعد وقف إطلاق النار، الفلسطينيون الذين يعودون إلى منازلهم، بالكاد يستطيعون التعرّف إليها بسبب الدمار الهائل.

0:00
  • "نيويورك تايمز": الدمار الذي تسبّبت فيه الحرب أفقد الفلسطينيين ذكرياتهم

صحيفة ""نيويورك تايمز الأميركية تنشر مقالاً تتناول فيه عودة الفلسطينيين إلى منازلهم المدمّرة، وكيف أنّ الدمار الذي تسبّبت فيه الحرب أفقدهم ذكرياتهم.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:

بعد دقائق على سريان اتّفاق وقف إطلاق النار في غزّة منذ أيّام قليلة، انطلق إسلام دهليز (34 عاماً)، مع والده وشقيقه إلى الناحية التي كانوا يعيشون فيها، وغادروها منذ أشهر حين فرضت القوّات الإسرائيلية عليهم ذلك. كانوا يبحثون عن منزل العائلة، لكنّ المشهد من حولهم كان يربك ذاكرتهم المكانيّة حيث المعالم المألوفة، والشوارع والبيوت وكلّ شيء تحوّل إلى أنقاض.

بالكاد استطاعوا التعرّف إلى ما تبقّى من مبنى قاعة الزفاف المحلّية، التي كان منزلهم خلفها، لكن ما لم يتعرّفوا إليه، هو البيت الذي بناه ربّ العائلة منذ أكثر من 50 عاماً. يقول إسلام دهليز الذي يعمل مع مجموعات المساعدة المحلّية: "استغرق الأمر منّا بضع دقائق لقبول حقيقة أنّ أكوام الأنقاض هذه هي موطننا". ساد الصمت بينهم. والوالد عبد الله دهليز (74 عاماً)، شعر بالرياح تضربه بشدّة، وأعانوه في العودة إلى خيمتهم. 

يقول عبد الله الذي عمل مزارعاً لزمن طويل، بصوت خافت مرتجف: "لقد صدمت حين رأيت سنوات العمر، وكلّ ما عملت من أجله سوّي بالأرض.. المنزل الذي أمضيت سنوات عديدة في بنائه، وأنفقت فيه مدخراتي، اختفى الآن".

لم تكن هذه اللحظة التي كانوا يأملونها ويتخيّلونها طيلة هذه الأشهر، حيث اضطرّوا إلى الانتقال 4 مرّات من خيمة إلى خيمة، ومن مكان إلى مكان يحزمون أمتعتهم ويبدأون مجدّداً، ويأملون العودة واستئناف حياتهم بسلام.

في خيمتهم المؤقّتة في حديقة في غرب رفح، أقصى جنوب مدينة غزّة، اجتمع أفراد العائلة صباح يوم الأحد الماضي، ينتظرون أن يدخل وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، ويستمعون إلى راديو صغير بقلق وتوتّر، خاصّة بعد أن سمعوا أنّ الهدنة قد تنهار في اللحظة الأخيرة بسبب زعم إسرائيلي عن أنّ حركة "حماس" لم تسلّم القائمة الموعودة للأسرى الإسرائيليين الذين سيطلق سراحهم. بعد ذلك بقليل أعلنت الإذاعة أنّ وقف إطلاق النار أصبح ساري المفعول.

بُني منزل عائلة دهليز في العام 1971، وهو مؤلّف من طابقين واسعين في شارع الإمام علي في رفح، ويتقاسمه مثل العديد من المنازل في القطاع 3 أجيال من العائلة؛ الوالدان يعيشان في شقّة، ويتقاسم الأبناء مع عائلاتهم الشقق الأخرى، فالمنزل كبير ويكفي لاستضافة نحو 10 عائلات بعد. يتذكّر إسلام دهليز، أنّه كان يدّخر قبل الحرب لشراء أثاث وفراش وأدوات مطبخ جديدة، حين عاد إلى غزّة من هنغاريا التي كان يدرس فيها العلوم الزراعية.

كان حقلهم الزراعي مجاوراً لمنزلهم، يفيض بأشجار الزيتون والنخيل وإلى جانبها دفيئات مزروعات البقدونس والخس والجرجير. وكانت لديهم أرانب ودجاج وعشرات رؤوس الأغنام يرعونها كلّ صباح. ويقول محمد دهليز شقيق إسلام، إنّه يتذكّر والده وهو يزرع أشجار النخيل عندما كان صغيراً، بمثل عمر أطفاله الذين كانوا قبل الحرب يطاردون الدجاجات وهم يضحكون ويجمعون بيضها لتناوله على الإفطار.

يقول إسلام دهليز إنّه عندما غزت القوات الإسرائيلية رفح في أيار/مايو الماضي، فرضت على الجميع في شرق رفح مغادرتها، وتفرّقت الأسر التي كانت تحتمي في منزل عائلة دهليز، التي نصبت خيمة مؤقّتة جُهّزت من بعض الملابس والأقمشة والمشمّعات وغيرها من الموادّ، ونصبتها في أقرب مكان ممكن من المنزل. مع ذلك لم يستطيعوا رؤيته لمدّة أشهر، على الرغم من كونهم على بعد أميال قليلة فقط منه.

بعض أقارب عائلة دهليز تمكّنوا من التسلّل إلى الحيّ من وقت لآخر في أثناء الحرب، وأفادوهم أنّ منزلهم لا يزال قائماً، لكنّ بعض أبوابه ونوافذه تحطّمت. وفي الخريف الماضي، قامت عائلة دهليز بفحص صور الأقمار الصناعية المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي، التي أظهرت أيضاً أنّ منزلهم لا يزال قائماً. ثم تحقّقوا مجدّداً في الشهر الماضي، وتفاجأوا بما رأوه في المكان الذي كان فيه المنزل، ولم يبقَ منه سوى بقعة من الأنقاض، وأشجار النخيل والزيتون التي يملكونها مقطوعة، وجذوعها متناثرة على الأرض، وقد تركت الدبّابات الإسرائيلية آثارها في كلّ مكان من أرضهم. ولا شيء منتصباً سوى بضعة أعمدة خرسانية تبرز منها قضبان حديدية.

يقول أحد أبناء العائلة: "أشعر بالضياع التامّ. لقد كانت هذه منطقة زراعية، ومكاناً للسلام. ولم تكن تشكّل تهديداً ولا خطراً على أحد. لم تكن لنا أيّة علاقة بالسياسة، ولا سبب لنقع تحت هذا العنف. وحين رأت ابنتي الصغيرة صور الدمار شهقت بالبكاء، وذكّرتني بحفلة عيد ميلادها التي أقمناها في قاعة الأفراح قرب منزلنا قبل الحرب".

في مختلف أنحاء رفح كان السكّان جميعهم يسعون لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، يملأون أكياس الدقيق الممزقة والأكياس المرمّمة بقطع معدنية ربما يبيعونها أو يعيدون استخدامها، وربّما يحرقون الخشب من أجل الدفء.

كان محمد دهليز يأمل فقط في العثور على بعض الألعاب القديمة لابنته جانا (14 عاماً)، والتي كان أحضرها لها في عيد ميلادها، أو تلك التي كان تحصل عليها كلّما تقدّمت بالمراحل الدراسية، وقال إنّها توسّلت كي يجدها لها ويبحث عنها: "أريد فقط أن أجد قطعة من ذكريات طفولتها ولقد كنت أبحث منذ الصباح، على أمل العثور على أيّ شيء يخصّها".

وبينما كان إسلام دهليز يبحث وسط اللون الرمادي، عثر على شهادات مدرسته القديمة، وهو الاكتشاف الذي أثار ابتسامة على وجهه. ولكن بخلاف ذلك، لم يجدوا الكثير.

حلّ الغسق، وكان على العائلة أن تعود إلى الخيمة التي تؤويهم، مع أشياء قليلة من ذكرياتهم المنزلية التي لم تملأ سوى زاوية في سيارة صغيرة. 

نقله إلى العربية: حسين قطايا

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.