العالَم أمام المأساة السورية: "عبد المأمور"
تسرق الولايات المتحدة الأميركية 80% من النفط السوريّ كل يوم، وتحرق كلّ ما لا تستطيع سرقته من القمح عند كل موسم حصاد.
بينما كانت "شبكة أخبار جبلة الأولى" تنشر نداء استغاثة على مواقع التواصل الاجتماعي، تطلب فيه حضوراً سريعاً لأكبر عدد من الشباب المتطوّع إلى مقبرة "الفيض"، في مدينة جبلة السورية، للمساعدة في حفر القبور؛ لأنّ أعداد الضحايا الذين وصلت جثامينهم إلى ذاك المثوى الأخير، أكبر من قدرة الموجودين على إتمام هذا العمل، كان نيد برايس، المتحدث الرسميّ باسم وزارة الخارجية الأميركية، ينشر على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"، تصريحه الذي يعلن فيه أنّ "الولايات المتحدة ستواصل دعمها لضحايا الزلزال من الشعبين السوري والتركي"، وكانت مئات التعليقات من مواطنين من جميع أنحاء العالم تنهمر تحت المنشور الرسمي الأميركيّ، جلّها يتحدث بخطاب واحد وجملة واحدة: "ارفعوا العقوبات عن سوريا، وتوقفوا عن سرقة نفط الشعب السوري وقمحه".
في الوقت ذاته أيضاً، كان ناشط سوريّ معروف يعيش في ألمانيا، يُعلن عبر صفحته في "تويتر"، أنّ التطبيق الذي عمل عليه بهدف جمع التبرعات لمنكوبي الزلزال داخل سوريا، أي السبيل الوحيد الذي استطاع من خلاله تقديم العون للسوريين المعذبين، قد أُغلق بسبب القوانين الغربية العاملة بإمرة قوانين الحصار الأميركيّ على الشعب السوري. وفي كلّ لحظة، منذ الرابعة والنصف من فجر يوم الإثنين الفائت حتى صباح الأربعاء، كان السوريون ينشرون صورة خريطة بلادهم التي حادت عنها طائرات الإغاثة والمساعدات الدولية في اتّجاه تركيا، في صورة تاريخيّة تختصر حقيقة تاريخ أميركا كلّه، وتاريخنا معها.
أحاول منذ ساعات، أنا المواطن السوريّ، أنْ أجد الكلام المناسب و"الموضوعيّ" والقابل للنشر، لإتمام هذه المادة، لكنّ كل هذا القهر والغضب والخذلان الذي يعتمل في صدري، وفي صدور كلّ من رأيتهم وسمعتهم وسمعت عنهم، وشاهدت صورهم وأخبارهم خلال اليومين الماضيين، يجعل من أمر "التعبير الرصين"، غايةً صعبة.
أستعيد ذاك اليوم من شهر شباط / فبراير العام 2014، حين نزلتُ، عابراً، في مطار إحدى الدول العربية التي كانت تحتضن في تلك الأيام، اجتماعاً لعصابةٍ حكومية دوليّة شكّلتها الولايات المتحدة الأميركية وسمّتها "مجموعة أصدقاء الشعب السوريّ"، كيف التقطني ضابط الجوازات من ذراعي حين رأى جواز سفري السوريّ، ونحّاني جانباً، طالباً من أحد العسكريين حراستي إلى أنْ ينتهي من ختم أوراق بقية الركاب، وكيف بقيت مخفوراً لساعات إلى حين موعد الطائرة البديلة التي ستنقلني إلى وجهة أخرى، وذلك لأني "أشكّل خطراً على البلاد" بحسب الضابط العربيّ الذي، أكرّر، تحتضن بلاده اجتماع "مجموعة أصدقاء الشعب السوري" ــ وهو الشعب الذي من المفترض أنّي أحد أفراده، وقد كان جواز سفري السوريّ هو السبب الوحيد لكلّ هذا.
أذكر جيّداً وجه عسكريّ الجوازات، الممتقع خجلاً، الذي اقتادني إلى مقعدي في الطائرة، أذكر جملته الوحيدة بعد أنْ عاتبته بكلام غاضب: "سامحني يا أخي، أنا عبد المأمور".
"عبد المأمور"، لقد سمع كل السوريين هذه الجملة البارحة وهم ينظرون إلى خريطة بلادهم، سمعوها مدوّية هذه المرة وبصوت عالميّ جماعي، وشاهدوا كل أولئك العبيد كيف يتجنّبون سماء بلادهم المنكوبة، ويصمّون آذانهم عن صراخ مئات الألوف من الضحايا الأبرياء تحت الأنقاض وفي الشوارع العارية إلّا من الصقيع والبرد والقهر. عبد المأمور الأميركيّ، هكذا هو العالم بالنسبة إلى السوريين الآن، السوريون الذين لا "أصدقاء" لهم إلّا إنْ أرادوا تدمير بلادهم لحساب ذاك المأمور الذي لا يروي ظمأه نهر دماء لا ينضب.
تسرق الولايات المتحدة الأميركية 80% من النفط السوريّ كل يوم، وتحرق كلّ ما لا تستطيع سرقته من القمح عند كل موسم حصاد، وتفرض عقوبات على قطاعات النقل والصناعة والتجارة والبنوك، وتمنع التحويلات المالية، وتقف بقوة ضد أيّ تقارب بين السوريين، وتفرض مشيئتها بالقوة على كل حكومة في هذا العالم تريد أنْ تقيم أي نوع من التواصل السياسي أو الاقتصادي أو الإنساني أو الإغاثيّ مع الحكومة السورية.
ولا تكتفي بمنع المساعدات الإغاثية عن ضحايا الزلزال في المناطق التي تخضع لسيادة الدولة السورية، بل حتى عن المناطق التي استثمرت وتستثمر فيها بالإرهاب والحرب وبالفصائل والمجموعات المسلّحة التي دعمتها ودرّبتها وسلّحتها، وضخّت بين أيديها أموال العالم كله لكي تدمّر سوريا.
تقول الولايات المتحدة في هذه اللحظات الكارثية القاتلة لأولئك الذين جمعت لأجلهم كل حكومات الغرب، وأكثر من نصف حكومات العالم تحت مسمّى "أصدقاء الشعب السوري"، إننا أصدقاؤكم حين تريدون الاقتتال وتدمير بلادكم فقط، أمّا حين تصيبكم كارثة طبيعية وتحتاجون العون، فإنّ هناك قوانين حصار "مقدّسة" لا يمكن خرقها تحت أيّ ظرف، وتأكّدوا أننا سنفعل كلّ شيء لكي نمنع عنكم أيّ شكل من أشكال المساعدة التي قد تنقذ أرواحكم وأرواح أطفالكم، موتوا تحت الردم، موتوا من البرد والصقيع، وليمت قهراً كلّ سوري نجا من حربنا وتحريضنا على مدى عشر سنوات، ومن زلزلة الأرض، ومهلاً، خذوا هذه التصريحات التي سنؤكّد فيها لكم أننا نتعاطف معكم وسنساعدكم، لكن لا تسألونا كيف.
يعرف كلّ سوري على هذه الأرض المعذبة، سواء عن فهم وقناعة وتجربة، أو بسبب الزلزال المدمّر الذي كشف له آخر عورات هذه الإمبراطورية التي لم يشهد التاريخ لشرّها مثيلاً، أنّ الولايات المتحدة الأميركية هي ألدّ أعدائه على الإطلاق، وأن إداراتها التي تسيطر على العالم بقوة السلاح والقهر، لا تتمتّع ولا تعترف بأدنى معايير الروح الإنسانية وصفاتها وسِماتها، لكنّ كثيراً من السوريين لا يستوعبون في هذه اللحظات، كيف بلغ الاستعباد ببعض الأنظمة والحكومات العربية هذه المرحلة من الموت الإنسانيّ الفظيع، هذا الانسحاق الذليل الذي يجلب العار لشعوبها، وهي تنظر إلى السوريين يموتون في كارثة طبيعية مدمرة كهذه، من دون أن تمد إصبعاً واحداً للمساعدة، بينما طائراتها المحمّلة بكل أنواع مواد الإغاثة وفرق الإنقاذ، تتجه نحو تركيا، الجارة الجريحة هي الأخرى.
حتى هذه اللحظة من مساء الأربعاء، 8 شباط / فبراير، أعلنت 13 دولة فقط من بين كل دول العالم، استعدادها لمساعدة السوريين، ووصل بعضها بالفعل للنجدة منذ الساعات الأولى، بينها دول تتعرّض لحصار أميركي خانق وقاتل منذ سنوات، كإيران ولبنان، أو لحروب أميركية مزّقت خارطتها ودمرت مدنها وبلداتها وقتلت مئات الألوف من أهلها، مثل العراق وليبيا، أو تشغلها واشنطن بحروب عسكرية واقتصادية وسياسية بهدف إسقاطها وتدميرها، مثل روسيا والصين، أو دول كالجزائر لا تتأخر لحظة، تحت أي ظرف، عن واجباتها الإنسانية والوطنية.
يتساءل السوريون كيف استطاعت دولة الإمارات العربية المتحدة أنْ تلبّي نداء أوجاعهم الذي تردد صداه على جنبات العالم الأربع، بينما عجزت دول خليجية وعربية أخرى عن أنْ تحرّك ساكناً في اتّجاههم، وسوف لن ينسى السوريون هذا أبداً، وهم لم ينسوا بعد أنّ هذه الحكومات قد فتحت حدودها وبنوكها ومخازن أسلحتها ومنابرها الإعلامية، على مصراعيها، لتمويل الحرب في سوريا، بل إنّ بعضها تكفّل بمصاريف نقل كل المقاتلين التكفيريين والمرتزقة الذين أتوا من أقاصي الأرض للقتال ضد الدولة السورية وجيشها وأهلها.
بعد أكثر من عشر سنوات من الحرب التي أدارتها الولايات المتحدة الأميركية، وموّلتها دول عربية وغربية، يأتي هذا الزلزال ليحوّل بلادنا إلى بقعة منكوبة تماماً بكل ما تعنيه الكلمة، ويحوّل شعبنا إلى كتلة بشرية مجبولة بالقهر والخذلان، وبكثير من الفهم والوعي لطبيعة الصراع مع هذا المستعمر وأعوانه، وبالقدرة على تمييز العدو من الصديق، فالكوارث والعذابات هي أكبر معلّم وكاشفٍ لمعادن الجنس البشري، ومنها معادن الحكومات.
لم يُخرج السوريون كلّ أحبّائهم، الناجين منهم أو الذين قضوا، من تحت الأنقاض بعد، وما يزال أمامهم الكثير من العمل لاستيعاب آثار هذه الكارثة وتطويقها، لكن هذا لا يمكن تحقيقه من دون مساعدات حقيقية دولية وعالمية، ومن دون الدّوس على قوانين إمبراطورية الحصار والتجويع الأميركية وقراراتها، وعلى هذه الكارثة أنْ تُدمّر في طريقها كل أدوات القهر التي جعلت من أكثر من نصف العالم، عبيداً لا يجرؤون حتى على إغاثة أخ لهم في الإنسانية، عليها أن تلفت انتباه هؤلاء أنّ بإمكانهم أن يكونوا مثل الوزير اللبناني المقاوم علي حميّة، الرجل الذي وقف أمام العالم ليعلن أن مطارات لبنان وموانئه، هي منافذ سوريّة مفتوحة لكلّ من يريد مدّ يد العون للشعب السوري الجريح.
وربما تكون فرصة أليمة لملوك العرب وأمرائهم وسلاطينهم، ليتعلّموا بعض الحميّة الإنسانية من هذا الرجل الذي لن ينسى السوريون اسمه أبداً.