العاروري يغلق الباب.. لا مفاوضات على الأسرى إلا بعد أن تتوقف الحرب
ربما تبدو "إسرائيل" أسيرة أهدافها الكبيرة التي وضعتها مع بدء هذه الحرب، لكنها في الواقع تريد للعالم وللوسطاء تحديداً أن يكونوا هم كذلك أسرى هذه الأهداف وهذه التهديدات.
لم يتأخر رد المقاومة على إنهاء الهدنة من الجانب الإسرائيلي واستئناف الحرب على غزة، وإعلان رئيس الموساد سحب وفد مفاوضات الإفراج عن الأسرى من الدوحة، وجاء سريعاً على لسان نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الشيخ صالح العاروري الذي أعلن هو الآخر "إغلاق مسار التفاوض حول الأسرى الإسرائيليين وعدم إطلاق سراح أي منهم إلا بعد أن تتوقف الحرب".
هذا الإعلان الذي يأتي في توقيته في مواجهة الغرور والاستعلاء الإسرائيليين، خاصة وأن قادة "إسرائيل" امتنعوا عن الإقرار بحقيقة أنهم لم يتمكنوا من الإفراج عن أسراهم بمنطق التدمير والقتل اللذين انتهجوهما، وما انفكّوا يروّجون "أن المقاومة لا تفهم إلا لغة القوة، وبأن الضغط هو الذي أجبرها على الجلوس إلى طاولة المفاوضات والقبول بالصفقة".
لكن مشكلة القيادة الإسرائيلية ليست في ما يقوله جميع أركانها، إنما في درجة ثقة الجمهور الإسرائيلي في كلماتهم. يعتقد المسؤولون الإسرائيليون أن استئناف الحرب على غزة، فجر يوم الجمعة الماضي، سيدفع حركة حماس إلى الموافقة على صفقة تبادل أسرى كبيرة، من دون أن تدفع "إسرائيل" ثمناً كبيراً مقابلها، وقد أشار رئيس هيئة أركان الاحتلال هيرتسي هاليفي إلى ذلك بالقول: "نحن نركز على تهيئة الظروف لعودة المزيد من المختطفين".
والواقع أنه يسهل فهم السلوك الإسرائيلي الاستعراضي هذا مع نفاد عدد الأسرى "المدنيين" من النساء والأطفال لدى المقاومة، وضغط المقاومة في المفاوضات التي سبقت انفراط عقد التهدئة الهش، لاعتماد معايير جديدة مختلفة في التعاطي مع فئة الرجال والعسكريين الإسرائيليين المتبقين في حوزتها، وبأنها لن ترضى بسقف الأثمان ذاته الذي قبلت به في المرحلة الأولى من الصفقة.
يدرك نتنياهو، وكابينت الحرب، المُحاطون باليمين القومي الفاشي الذي هدد بحل الحكومة وتفكيك الائتلاف في حال توقفت الحرب، أنه لن يكون بمقدورهم أو من السهل عليهم الانتقال إلى المرحلة الثانية، الأكثر كُلفة على "إسرائيل"، من دون الذهاب إلى هذه الجولة "الاستعراضية" من القتال بعد انهيار الهُدنة، ليس فقط في سياق المفاوضة بالنار، إنما لاعتبارات داخلية تُمكّنهم من الانتقال إلى المرحلة التالية من الصفقة من دون تعالي أصواتٍ مُعارِضة، وهي ترى في المزيد من قتل المدنيين الفلسطينيين وسحق عظام أطفال غزة انتصاراً لشهوة الانتقام والغضب التي تحركهم، بحيث يكون بإمكان نتنياهو وأعضاء مجلس الحرب أن يخرجوا بعد أيام، ومع قبول هدنة جديدة، ليفاخروا أمام المجتمع الإسرائيلي وقيادات اليمين القومي المتطرف في الحكومة الذين يدعون إلى سحق غزة، "أننا أجبرنا حماس على العودة إلى الصفقة تحت النار وأن الضغط قد أثمر"!
لكن الرياح الفلسطينية لم تأتِ بما تشتهي السفن الإسرائيلية، إذ جاء إعلان الشيخ صالح العاروري ليضاعف أزمة نتنياهو الداخلية ويزيد من ضغط المجتمع الإسرائيلي عليه، ويتهمه بإغلاق الباب الذي ظل يتنفس منه ويأمل من خلاله بالإفراج عن أسراه، خاصةً بعد أن أُفرِجَ عن جزءٍ منهم من خلال مسار التفاوض.
ولعل خروج تظاهرات كبيرة في "تل أبيب" في اليوم التالي، مُطالبةً بالإفراج عن الأسرى، مرددة هُتاف "الآن"، تشي بعمق تخوف المجتمع الإسرائيلي وشعوره بانعدام فرصة تحرير أبنائه ضمن مسار النار الذي تطرحه حكومتهم وكابينت الحرب، وأن منح الأولوية لاستئناف القتال يقلل بالتأكيد من فرص إنقاذ الأسرى، خاصة بعدما ردت المقاومة بموقفها القائل إنها لن تفاوض تحت النار.
وربما يكون استدعاء قصة الطيار الإسرائيلي رون أراد في الفضاء الإسرائيلي العام هذه الأيام، والقول بأنه إذا ما استمرت هذه الحرب فإننا سننتهي بـ 131 رون أراد جديداً، تعبيراً عن حجم الفزع الذي يعتري أهالي الأسرى على مصير أبنائهم.
لا شك في أن الرأي العام الإسرائيلي يتمنى إطلاق سراح المزيد من أسراه، وفي الوقت نفسه استمرار الحلم بالقضاء على حماس والمقاومة، بيد أنه يدرك جيداً أن هذين الهدفين يسيران في مسارين تصادميين يتحرك بينهما العقل الإسرائيلي بجنون.
من الواضح أن القيادة الإسرائيلية، المعمية بالغطرسة، كانت تظن أن الأمر سيكون سهلاً؛ استخدام خيارات التمديد الفعال للهدنة قدر الإمكان، ثم التوقف لبضعة أيام عن صفقة الأسرى، والعودة إلى القتال في كل مرة، خاصة وأنها لن تُعدم الذريعة، وهذا ما يُفسر قبولها تمديد الهُدن ليوم أو يومين سابقاً، طالما أنها مكّنتها من استعادة أسراها بالمفاوضات ولو على سبيل "التقطير".
من الواضح أن التوصل إلى الهدنة في حينه نبع من حاجة الأطراف ذات العلاقة إليها، لكن حاجة "إسرائيل" إليها في تلك المرحلة كانت تكتيكية مصلحية، ولم تصل بعد إلى القناعة الاستراتيجية بضرورة وقف هذه الحرب.
ومع ذلك، فإن أولئك الإسرائيليين الذين يعتقدون أنه من الضروري "العودة فوراً إلى ساحة المعركة حتى النصر"، عليهم أن يحلوا هذه المعضلة. وقد حاول أعضاء حكومة الاحتلال، بقيادة نتنياهو، فعل ذلك بالادعاء "أنه من الممكن النضال من أجل الهدفين معاً"؛ هزيمة حماس وإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين، وبالطبع من خلال الترويج أن "المزيد من الضربات سيسمح بإعادة أكبر عدد ممكن من المختطفين إلى أحبائهم".
لكن أي شخص ذي حس سويّ يدرك أن هذا لم يفلح في الصفقة الأولى ولن يفلح في ما يليها، وبات الجميع يدرك أن المقاومة لن تستمر في الإفراج عن 10 أسرى إسرائيليين يومياً، وفق المعايير السابقة ذاتها، والأهم أنها تدرك أن لا ضامن أن "إسرائيل" ستذهب في اليوم التالي إلى حربها التدميرية.
ومن ناحية أخرى، فإن الموافقة الإسرائيلية على صفقة شاملة تحت شعار "الجميع مقابل الجميع"، بالإضافة إلى التزام إسرائيلي يستند إلى ضمانات دولية بوقف القتال، كما تُطالب المقاومة، سيقضي تماماً على الهدف الثاني، وهو "إنهاء حكم حماس في غزة".
ومن المثير للدهشة أن هذا بالضبط ما يقوله جميع أعضاء النخب السياسية والأمنية الإسرائيلية، تقريباً من دون فروق واضحة بينهم؛ رئيس الوزراء ووزير الحرب وعضو مجلس الوزراء بيني غانتس، ورئيس الأركان وكبار الضباط والمتحدث باسم "الجيش" الإسرائيلي.
في نهاية المطاف، يريد المجتمع الإسرائيلي بشدة أن يصدق هذه الشعارات، لكن المشكلة هي أن لديه تجربة طويلة، ويعلم أنه في نهاية المطاف لا توجد فرصة لنتنياهو لاستمرار التلاعب. ولا أجد أدل على هذا الشعور سوى ما كتبه الصحفي المعروف ناحوم برنياع في صحيفة "يديعوت أحرونوت" يوم أمس، إذ ختم مقاله قائلاً: "إن الدخول إلى خانيونس ليس خطة للانتصار، بل للانتقام ولن يكون هناك انتصار، فلنخفض سقف التوقعات ونركز جهودنا على الأسرى".
والواقع أن حكومة الاحتلال وكابينت الحرب في وضع لا يحسدون عليه، فكل قرار سيكون له ثمن سياسي وشعبي باهظ، ولا يبدو وجود فرصة اتخاذ قرار يوائم بين الهدفين اللذين تزداد صعوبة الجمع بينهما مع مرور كل يوم من أيام القتال.
ومن الواضح أن المعضلة الإسرائيلية مركبة وتتعلق بترتيب الأولويات، فإذا ذَهَبَت إلى "القضاء على حماس ثم استعادة الأسرى"، فإن هذا يعني التخلي عن الأسرى، وإذا قالت بـ "استعادة الأسرى ثم القضاء على حماس"، فإن هذا يعني بالضرورة التخلي عن القضاء على الحماس.
زد على ذلك أن الحكومة الإسرائيلية التي طرحت شعار "معاً ننتصر" منذ بداية حربها على غزة، لا يبدو أنها قادرة على جمع أهم ركنين في هذه الحرب؛ رئيس الوزراء ووزير حربه، معاً في مؤتمر صحفي مشترك، حيث رفض غالانت أن يظهر مع نتنياهو قبل يومين وعقد كلٌ منهما مؤتمره الصحفي منفرداً.
ربما نشهد في الأيام القليلة القادمة كسراً للمعادلة "الهدنة مقابل الصفقة"، وربما تُضطر "إسرائيل" للموافقة على أيام هُدن لا يكون فيها إفراج عن أسرى إسرائيليين، وربما تبرر ذلك بالقول إنها "تريد أن تمنح حماس الوقت لاستكمال حصر أسماء وفئات هؤلاء، خاصة وأنها لا تملك كل الأسرى الإسرائيليين في يدها".
وربما تبدو "إسرائيل" أسيرة أهدافها الكبيرة التي وضعتها مع بدء هذه الحرب، لكنها في الواقع تريد للعالم وللوسطاء تحديداً أن يكونوا هم كذلك أسرى هذه الأهداف وهذه التهديدات التي تريد من خلالها الضغط لرفع سقف ما تُنجزه في التسويات، في ملف الأسرى وغيره، وصولاً إلى وقف إطلاق نار ثابت دائم.