الطريق إلى الحرب

في نظرةٍ إلى أوضاع المنطقة بصورةٍ عامةٍ خلال الأشهر القليلة الماضية، نلحظ أن مؤشرات التصعيد في ازديادٍ، فيما تنحصر مؤشرات التهدئة بالوصول إلى تسوياتٍ موضعيةٍ تمنع الانفجار أو لعلها تؤخّره إلى حين فقط. 

  • الطريق إلى الحرب
    الطريق إلى الحرب

أظهرت تطورات الحرب في أوكرانيا أنها باتت تحاكي حرباً عالميةً ثالثةً من ناحية الأهداف والنتائج، ولا سيما إذا ما أخذنا بالحسبان أبعاد الحرب الاقتصادية التي تدور بالتوازي مع الحرب العسكرية بين معسكرين عريضين، رغم عدم خلو كلا المعسكرين المتقابلين من تبايناتٍ في بعض التكتيكات والقضايا التفصيلية، بما لا يبدل في جوهر تقييمهما الإستراتيجي للحرب الدائرة، وبما يتوافق مع طبيعة العلاقات الدولية في هذه المرحلة الحساسة التي تختلف في طبيعتها عما اعتاد العالم رؤيته لعقودٍ عقب الحرب العالمية الثانية.

تدير الأطراف الدولية الكبرى مجريات الحرب الراهنة بناءً على قواعد اشتباكٍ ارتضتها ضمناً فيما بينها، أملاً في تفادي وقوع أمرين: توسع رقعة القتال العسكري إلى خارج الجغرافيا الأوكرانية، وتصاعد الاشتباك العسكري القائم إلى مرحلة الصدام النووي بين القوى النووية.

لكنَّ الحروب لا تلتزم دوماً بضوابط المتحاربين كما يعلمنا التاريخ، لا سيما حين تكون بين قوى كبرى يتحدد عليها مصيرها أو عندما تكون الآثار المترتبة على نتيجتها ذات طبيعةٍ إستراتيجية، كتحديد شكل النظام العالمي لعقودٍ مقبلة! 

لذلك، ما دامت الحرب في أوكرانيا، التي لا شواهد على قرب انتهائها، مستمرة، فإنَّه يصعب الجزم بالمدى الذي ستصل إليه، بل على العكس، تزداد مع مرور الوقت إمكانية تفجر ساحاتٍ أخرى، سواء كان في الجغرافيا المحيطة بأوكرانيا أم في ساحاتٍ أخرى بعيدةٍ قابلة للاشتعال، لا سيما في ظل عالمٍ بات أكثر تشابكاً من أي وقتٍ مضى.

تعد منطقة المشرق العربي من المناطق المشتعلة أصلاً، وإن كان ذلك بوتائر مختلفةٍ، فبرغم التقدير الخاطئ الذي شاع مطلع تسعينيات القرن الماضي، والذي خمَّن أن المنطقة تدخل مرحلة "السلام" الموهوم والازدهار المزعوم، جاءت الأحداث على امتداد السنوات الثلاثين الماضية، لتثبت قصور هذا التقدير عن إدراك الواقع الجيوسياسي وامتداداته التاريخية والحضارية لمنطقة المشرق العربي، التي تعيش مرحلةً من "الكيانية" الشاذة وغير المستقرة من عمرها، لكونها تتنافى وطبيعة البنية التاريخية والحضارية للمنطقة التي امتدت لقرونٍ من الزمن، والتي لا يزال صداها حاضراً في الوعي الجمعي لشعوب هذه المنطقة.

لهذا، تعد منطقتنا من أكثر المناطق المرشحة لتلقي ارتدادات الحرب في أوكرانيا على شكل المزيد من التصعيد الذي يمكن أن يكون محدوداً في الزمان والمكان، لكن من الوارد أيضاً أن يتوسع ليصبح انفجاراً إقليمياً، رغم محاولات جميع الأطراف الدولية والإقليمية لتفادي التصعيد، كما ظهر من مجريات العام المنصرم، إلَّا أن السياقات التاريخية وتفاعلاتها عادةً ما تفرض ذاتها على الجميع، ولطالما اقتضت الحكمة السعي للاستفادة منها والبناء عليها، كما أن الخاسر مَن يتعامى عنها أو يحاول معارضتها!

في نظرةٍ إلى أوضاع المنطقة بصورةٍ عامةٍ خلال الأشهر القليلة الماضية، نلحظ أن مؤشرات التصعيد في ازديادٍ، فيما تنحصر مؤشرات التهدئة بالوصول إلى تسوياتٍ موضعيةٍ تمنع الانفجار أو لعلها تؤخّره إلى حين فقط. 

قبل الخوض في هذه المؤشرات بشقيها، تجدر الإشارة إلى أن بعض مظاهر انفتاح حلفاء أميركا في المنطقة – ولا سيما دول الخليج منها – على المعسكر المعادي للهيمنة الغربية في المنطقة والعالم، لا يصح عدُّه مؤشراتٍ على توجهٍ أميركيٍ نحو تسوياتٍ كبرى في الإقليم والعالم.

ومن هذه المظاهر: المؤشرات الخجولة على انفتاحٍ سعوديٍ حيال إيران، وانفتاحٍ آخر سعودي إماراتي حيال سوريا، وتلك الاتفاقيات الإستراتيجية السعودية مع الصين حديثاً، والانحياز السعودي الإماراتي إلى جانب روسيا في معركة أسعار الطاقة داخل "أوبك".

هذه المظاهر تأتي في سياق حساباتٍ ذاتيةٍ لهذه الدول، وذلك ضمن توسع هامش المناورة لديها في ظل تراجع القبضة الأميركية على دول الشرق في هذه الحقبة.

أما بالنسبة إلى المؤشرات التي يمكن التعويل عليها لاستقراء وضع منطقتنا، فنجد أن جلها يرجح الذهاب إلى المزيد من التصعيد، أقلُّه لصعوبة التوصل إلى تسوياتٍ قابلةٍ للحياة بين قوى المقاومة الفاعلة في المنطقة والأميركي وحلفائه الغربيين، وذلك في خضم التحولات العميقة على مستوى التوازنات الدولية على وقع الحرب في أوكرانيا، إضافة إلى التبدُّل المستمر في موازين القوى الحاكمة في الإقليم لغير مصلحة الأميركي والكيان المؤقت.

في ظروف كهذه، تذهب الأطراف إلى محاولة تغيير حقائق على الأرض لمصلحتها أو تحقيق مكاسب ملموسةٍ تتماشى والتبدلات في التوازنات القائمة، فيما يمكن أن يلجأ الخصم إلى زيادة الضغوط لثني الطرف المقابل عن السعي إلى الاستفادة من التوازنات المستجدة، فكيف يصير الأمر إذا ما وضعنا في الحسبان الكيان المؤقت الذي لا يمكن تجاهل آثار وجوده واستمراريته على الاستقرار في عموم منطقتنا؟

من هنا، جاء التصعيد الأميركي الأوروبي ضد إيران، إذ اختفى تقريباً من التداول الحديث عن العودة إلى الاتفاق النووي، وحل محله تصعيدٌ أوروبيٌ غير مسبوقٍ، فقد أقر البرلمان الأوروبي، مطلع هذا العام، قراراً يطالب مجلس الاتحاد الأوروبي بوضع حرس الثورة الإيراني في "قائمة الجماعات الإرهابية"، ويدعو إلى فرض عقوباتٍ على مرشد الجمهورية الإسلامية السيد علي خامنئي ورئيس الجمهورية إبراهيم رئيسي مع عائلتيهما.

جاء هذا القرار في سياق مواكبة أحداث الشغب التي عاشتها إيران خلال الأشهر القليلة الماضية، والتي كانت مدعومةً غربياً بهدف زعزعة النظام الإيراني بالحد الأدنى أو إسقاطه بالحد الأقصى، ناهيك بارتفاع منسوب الأعمال العدائية الإسرائيلية ضد إيران، التي كان آخرها استهداف قاعدة أصفهان الجوية في وسط البلاد بطائراتٍ مُسيَّرةٍ؛ تلك الأعمال العدائية التي يبدو أنها مستمرةٌ في المرحلة القادمة على أقل تقدير.

أما في الداخل الفلسطيني - ساحة الاشتباك الرئيسة - فقد جاء صعود اليمين الصهيوني الأكثر تطرفاً إلى سدَّة الحكم ليزيد من تعقيد المشهد، فمع صحة القراءة القائلة بكون حكومة الاحتلال الحالية نتاج تفاعلاتٍ داخلية في الكيان المؤقت، إلَّا أنَّه لا يصح استبعاد تأثير المستجِدات الفلسطينية والإقليمية في تلك التفاعلات عند قراءة مجمل المشهد الصهيوني.

لهذا، يمكن رصد رؤيتين متضاربتين تحكمان الطبقة السياسية في الكيان المؤقت بشكلٍ عامٍ، تقول إحداها بوجوب الحذر في طريقة التعاطي مع الحراك المقاوم المستجد في الضفَّة والقدس، خشية تطور هذا الحراك إلى انتفاضةٍ ثالثةٍ مكتملة الأركان، مع إمكانية خروج الأوضاع عن السيطرة، ودخول جبهاتٍ وساحاتٍ أخرى فلسطينيةٍ وإقليميةٍ على خط المواجهة، ما يضع الكيان المؤقت في مأزقٍ حقيقيٍ، وذلك بسبب تبدُّل موازين القوى لغير مصلحة "جيش" الاحتلال في مواجهة قوى محور المقاومة ودوله. 

أما الرؤية الثانية، التي تتسم بالقصور وبرعونة متبنيها، فتجد في تفكك النظام العربي وانشغال العالم بقضاياه فرصةً سانحةً لتغيير الوقائع على الأرض، بدايةً من سحب الجنسية والإقامة من الأسرى الفلسطينيين من داخل الخط الأخضر، وصولاً إلى تسريع الخطوات العملية التي تفضي إلى هدم المسجد الأقصى وتهجير فلسطينيي القدس والضفَّة وضم أراضيهما. تتبنى هذه الرؤية الرعناء أحزاب اليمين الصهيوني الأكثر تطرفاً، والتي تسيطر على مفاصل حكومة الاحتلال الحالية.

لكن يبقى القاسم المشترك بين كلتا الرؤيتين، أنَّهما تلحظان التحولات الإقليمية والدولية المستجدة، فيما تختلفان في زاوية النظر إلى تلك التحولات، وفي التكتيك المناسب للاستفادة منها.

يسود تقديرٌ دوليٌ وإقليميٌ بأن الرؤية الثانية التي تتبناها الأحزاب المسيطرة في حكومة الاحتلال، من شأنها تفجير الأوضاع في الضفَّة والقدس ورفع مخاطر اندلاع حربٍ جديدةٍ في المنطقة يمكن أن تتطور إلى حربٍ إقليميةٍ.

من هنا جاء الحراك الدبلوماسي المكثَّف الذي شهدته المنطقة والأراضي المحتلة في الفترة الأخيرة، فكانت زيارات الموفدين الأميركيين رفيعي المستوى للأراضي المحتلة الفلسطينية والمنطقة، التي تزامنت مع حراكٍ سياسيٍ على أعلى المستويات من قيادات الأردن ومصر والسلطة الفلسطينية، في محاولةٍ للسيطرة على الحراك المتصاعد في الضفَّة والقدس ومنعه من أن يتطور إلى انتفاضةٍ ثالثةٍ مكتملةٍ.

 تعد هذه الزيارات أحد مؤشرات التهدئة في المنطقة، لكن كما ذُكر سابقاً، فإنَّه يمكن وضعها ضمن خانة التسويات الموضعية والمرحلية التي تسعى لتخدير الأوضاع ومنع انفجار المنطقة، فهل فعلاً تملك مساعي التخدير هذه فرصاً واقعيةً للنجاح؟

يمكن هنا استحضار ما جاء في خطاب أمين عام "حزب الله" في 16 شباط/فبراير، إذ أعاد السيد حسن نصر الله طرح الخيار العسكري كخيارٍ جديٍ في حال استمر الأميركي بدفع لبنان إلى الانهيار والفوضى وعرقلة استخراجه الغاز، علماً أن "حزب الله" كان قد سحب الخيار العسكري من التداول قبل أسابيع قليلةٍ فقط، في إثر تسويةٍ موضعيةٍ أخرى تم بموجبها ترسيم الحدود البحرية اللبنانية مع الكيان المؤقت بوساطةٍ أميركية.

إن الأميركي يسعى في هذه المرحلة إلى تفادي الخيارات العسكرية، التي بات يحسب لها الحساب وفق موازين القوى المستجدة، فيما يواصل حربه على القوى الحية في المنطقة عبر الحصار وأدواته الاقتصادية التي ما زال يملك اليد العليا فيها.

لقد فشلت سابقاً محاولات التسويات المرحلية والحلول الجزئية وغير العادلة ومساعي تخدير شعوب المنطقة في حفظ الهدوء ومنع التصعيد، وكان ذلك في ظل توازناتٍ دوليةٍ وإقليميةٍ جامدةٍ إلى حدٍ بعيدٍ، وفي ظل أوضاعٍ عالميةٍ مستقرةٍ نسبياً، فكيف عساه يكون الحال خلال السيولة التي يعيشها النظام الدولي حالياً، في غمرة صعود أقطابٍ دوليةٍ جديدةٍ وتراجعٍ مطردٍ للهيمنة الأميركية، وفي مرحلةٍ تبدَّلت فيها موازين القوى الحاكمة إقليمياً، ولم يتم بعد اختبار حدود تبدُّلها ميدانياً؟

تقودنا الواقعية، مدعومةً بالشواهد، إلى القول إن احتمالات التصعيد العسكري في المنطقة تتفوق على احتمالات الهدوء في المدى المنظور، بصرف النظر عن رغبة الأطراف الإقليمية والأميركي في تفادي التصعيد العسكري، ناهيك بأن البعض يرى في هذه المرحلة من التحولات العالمية الكبرى، وإعادة رسم ملامح النظام العالمي، فرصةً سانحةً – ربما لن تتكرر لعقودٍ – أمام قوى المقاومة العربية والإسلامية لإعادة تشكيل المنطقة بصورةٍ تضعها على طريق الخروج من حالة "الكيانية" التي فرضها الاستعمار عليها، والتي لن يحصل استقرار فعلي ولا تنمية حقيقية في المنطقة من دون الخروج منها.

الخطوة الأولى على هذا الطريق تبدأ من أرض المحشر، من هناك؛ من بيت المقدس، ومن اقتلاع الكيان المؤقت؛ ذاك السبب الرئيس لعدم الاستقرار وبث الفرقة في المنطقة، أو على أقل تقديرٍ، إلحاق هزيمةٍ عسكريةٍ غير قابلةٍ للتأويل بـ"جيش" الاحتلال، وسيتكفَّل ذلك بتفكُّك الكيان المؤقت. ولعل موازين القوى المستجدة تتيح لقوى المقاومة إلحاق هزيمةٍ كهذه بالمحتل.