السودان.. خلافات العسكر تعيد الشارع إلى المشهد

بدلاً من إنهاء المرحلة الانتقالية في السودان وتنفيذ الاتفاق النهائي على تسليم السلطة للمدنيين، استحدث في المشهد خلاف داخل المكون العسكري يتعلق بدمج قوات الدعم السريع.

  • السودان.. خلافات العسكر تعيد الشارع إلى المشهد
    السودان.. خلافات العسكر تعيد الشارع إلى المشهد

عاد المشهد السياسي في السودان ليراوح موقعه من دون أن يبرحه، محكوماً بإعلان اتفاق، ثم تأجيله، ثم تحديد موعد جديد، ثم استدارة لبحث التفاصيل المتفق عليها، ليصطدم الشارع السوداني بقرار تعطيل الوصول.

وما بين هذا وذاك، يُمرر الجنرالات رسائلهم، حتى بات المشهد السوداني بكل مكوناته واقفاً على بوابات العسكر الذين كلما أعلنوا ابتعادهم عن السياسة توغلوا فيها أكثر.

كوصيٍّ على المشهد، أطل رئيس مجلس السيادة السوداني، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، بكامل زيه العسكري في 26 آذار/مارس الماضي في ولاية شمال كردفان، معلناً أن بلاده تعتزم بناء جيش لا يتدخل في السياسة، قائلاً: "نريد بناء قوات مسلحة بعيداً من السياسة والمشاركة في أي أعمال داخلية ما لم تطلب الحكومة".

لم تكن المرة الأولى التي يعلن فيها البرهان ابتعاد الجيش عن السياسة، لكنها المرة الأولى التي يعلن فيها أن الجميع يتحدثون في السياسة، بما في ذلك الجيش وقوات الدعم السريع التي بدت المقصودة ببيت القصيد. 

محددات خطاب البرهان بدت محكومة بمحددين؛ الأول أن الخطاب استبق موعد الاتفاق النهائي لنقل السلطة إلى المدنيين، وهو 1 نيسان/أبريل الجاري، الذي تم تأجيله إلى 6 نيسان/أبريل، ثم أُعلن تأجيله إلى أجل غير مسمى.

أما المحدد الثاني الذي يبدو أكثر أهمية لخطاب البرهان ورسائله، فهو الرد على إطلالة نائب رئيس مجلس السيادة السوداني وقائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو "حميدتي"، الذي ظهر في مؤتمر لتطوير ولاية الخرطوم في 21 آذار/مارس 2023 بمظهر مدني على غير العادة، وكان يرتدي الزي السوادني التقليدي، مُعلناً بداية عهد جديد يقود إلى السلام والاستقرار والتنمية، وخطة إستراتيجية عشرية ممتدة حتى العام 2033 لتطوير ولاية الخرطوم.

المفارقة أنَّ خطاب حميدتي -المكتوب- لم يأتِ على أي ذكر للجيش والعسكر وقوات الدعم السريع إطلاقاً، مكتفياً بالحديث عن التطوير والتنمية والاستقرار، وهو ما أقلق البرهان، ولا سيما عند حديثه عن خطة تنمية عشرية بلباس مدني، ما يعني أنه ينوي البقاء في المشهد السوداني ولن يبرحه.

لا يبدو أنَّ المشهد السوداني سيغادر مربع الخلاف والتنافس بين البرهان وحميدتي، فاللقاءات التي رعاها الجيش بين الرجلين لم تصمد، وإن كانت قد عطّلت التراشق، فإنها نقلته إلى مرحلة من التسويف والتأجيل وتمرير الرسائل ومغازلة الشارع السوداني، في رهان كلا الرجلين على أنَّ الوقت قد يضمن لهما حشد أكبر قدر ممكن من المدنيين في الصراع الدائر بينهما، لكنَّه رهان محكوم بحسابات الشارع السوداني الذي بات يتململ بعد تكرار إرجاء الاتفاق النهائي.

لم يعد المشهد السوداني - المختصر مؤخراً بين البرهان وحميدتي - يحتمل مزيداً من التأجيل أو الذهاب إلى استحداث اتفاقات جديدة. وقد كان يُفترض باتفاق 5 كانون الأول/ديسمبر الماضي، وهو اتفاق الإطار المبدئي بين المدنيين والعسكريين الذي نص على تأليف حكومة مدنية وإبعاد الجيش عن السياسة، أن ينقل المشهد السوداني بسلاسة، وخصوصاً أنَّ الاتفاق اشتمل على البنود كافة، بما فيها العدالة الانتقالية والإصلاح العسكري والأمني وتكوين جيش واحد ودمج قوات الدعم السريع، لكنه كان اتفاقاً ملغوماً عندما وقع الجيش السوداني كطرف، ووقعت قوات الدعم السريع كطرف آخر، بخلاف ما كان يحدث في الاتفاقات السابقة التي تكتفي بتوقع عسكريٍ واحد يمثل كل المكوّن العسكري السوداني.

مثلما قفزت خلافات البرهان وحميدتي وحساباتهم عن اتفاق الخامس من كانون الأول/ديسمبر الماضي، فإنها قفزت عن موعد الأول من نيسان/أبريل الجاري، ثم قفزت عن الموعد المتفق عليه في السادس من نيسان/أبريل، ويبدو أنهما مستمران في القفز والالتفاف والتأجيل والتعطيل. 

وبدلاً من إنهاء المرحلة الانتقالية وتنفيذ الاتفاق النهائي على تسليم السلطة إلى المدنيين، استحدث في المشهد خلاف داخل المكون العسكري يتعلَّق بدمج قوات الدعم السريع. وعندما تم الاتفاق على دمج تلك القوات في الجيش السوداني، وشُكلت لجان فنية لبحث كل التفاصيل، بما فيها الجداول الزمنية، عاد الخلاف على المدة اللازمة للدمج بين من يرى ضرورة الدمج خلال عامين، وهي رؤية الجيش السوادني، ومن يرى أنها تمتد حتى 10 سنوات، وهي رؤية قوات الدعم السريع. 

هكذا تحوَّل الأمر، وسُحب المشهد السياسي في السودان، واختصر من اتفاق عام على تسليم العسكر للسلطة والذهاب إلى حكومة مدنية إلى استدارة لبحث تفاصيل عملية وآلية دمج قوات الدعم السريع التي لم يكن وجودها وحضورها قبل 25 تشرين الأول/أكتوبر 2021 مشكلة أو معضلة سياسية تحتاج إلى اتفاق. 

وعندما كان المدنيون يثيرون المسألة معترضين على تجاوزات قوات الدعم السريع، كان البرهان يتصدى لهم، معلناً بأن "الجيش والدعم السريع شيء واحد"، بل إنه لم يكن هناك اتفاق ولا موقع ولا مسمى لمنصب نائب رئيس مجلس السيادة، وهو ما استحدثه البرهان ووضع قائد قوات الدعم السريع حميدتي فيه.

ولكن عندما اختلفا، أخرج البرهان قضية دمج قوات الدعم السريع من جرابه، ملوحاً بها عند اقتراب موعد استحقاق كل اتفاق يتوصل إليه الفرقاء في السودان.

يبدو أنَّ البرهان ماضٍ إلى أبعد من التلويح بتعطيل أيِّ اتفاق سياسي كاحتجاج على ضرورة دمج قوات الدعم السريع قبل أيّ شيء. وقد جاء أحدث تطور في تعاطيه مع مقتضيات المشهد عقب تأجيل موعد الاتفاق للمرة الثانية بذهابه لتمرير رسائل غير مسبوقة تتعلق باستعراض القوة العسكرية وتأكيد كامل السيطرة على الجيش، وأنه لا يمانع التلويح بالقوة إذا اقتضى الأمر ذلك، بعدما كان يراهن على عامل الوقت، وهو ما بدا في نشر الجيش السوداني قواته ومدرعاته وجنوده بكامل عتادهم العسكري قبل يوم واحد من موعد تنفيذ الاتفاق المؤجل، وتحديداً في 5 نيسان/أبريل الجاري.

وقد تحوَّلت الخرطوم إلى ما يشبه الثكنة العسكرية، لا بفعل انتشار الجيش السوداني فحسب، بل أيضاً بعد تحريك قوات الدعم السريع نحو 60 ألفاً من عناصرها في الخرطوم، فبدا سيناريو الاشتباك العسكري متوقعاً وأقرب من أي اتفاق سياسي ممكن.

لا يبدو أن المشهد السياسي في السودان سيبقى معلقاً على أبواب العسكر، ومرهوناً بخلاف البرهان وحميدتي، كما لا تبدو رواية التأجيل المتكرّر للاتفاقيات للبحث في التفاصيل مقنعة للشارع السوداني، الذي يبدو أن له أيضاً رأيه وموقفه، بعد فشل كل من البرهان وحميدتي في استمالته وحسمه لمصلحته.

بعدما مرّ موعد التأجيل الثاني للاتفاق في 6 نيسان/أبريل الجاري من دون اتفاق، حسم الشارع السوداني أمره، معلناً موقفه الذي يتوقع أن يتدحرج لرفض كل اللقاءات والاتفاقيات التي جمعت البرهان وحميدتي، فخرج آلاف المتظاهرين إلى الشوارع في الخرطوم مرددين هتافات رافضة للعسكر، ومطالبين بحكومة مدنية كاملة، ما يعني أن الكلمة في الأيام المقبلة ستكون للشارع السوداني.