السلطة الفلسطينية.. من رفض التطبيع إلى توظيفه!

في "نقلتها" الجديدة من رفض التطبيع إلى توظيفه، تجد السلطة الفلسطينية دعماً من أقرب حلفائها، فهذه المقاربة تنسجم مع طروحات عمان والقاهرة، وتُطرب واشنطن وبروكسل، وتلقى قبولاً في بكين وموسكو، ولا تواجه بمقاومة جدية من فرقاء محور الممانعة.

  • السلطة الفلسطينية.. من رفض التطبيع إلى توظيفه!
    السلطة الفلسطينية.. من رفض التطبيع إلى توظيفه!

لا ندري بعد ما الأسباب و"المراجعات" التي قادت السلطة الفلسطينية إلى الانتقال من رفض مسارات التطبيع "الإبراهيمية" إلى محاولة التكيف معها (ومثيلاتها) وتوظيفها، لكننا نعرف تمام المعرفة أن هذه النقلة حصلت، وأنها باتت ركناً ركيناً في حسابات السلطة ورهاناتها، حتى إننا كتبنا قبل 3 أسابيع، في هذا الموقع بالذات، مقالاً تحت عنوان "السلطة إذ تنتقل إلى خط الهجوم... أي رهانات وحسابات؟"، محذرين من تداعيات "صفقة القرن 2" التي يعمل بايدن على إنجازها بين السعودية و"إسرائيل"، بوصفها أحد مصادر "يقظة السلطة"، واستقوائها على خصوم الداخل من فصائل وظاهرات مقاومة جديدة. 

هنا، يمكننا من باب التحليل السياسي وأدواته أن نفترض جملة من الأسباب و"المراجعات" التي حدت بالسلطة إلى استحداث هذه "النقلة"، علماً أن أوساطاً منها لم تكن راضية في الأساس عن الحملة الفلسطينية على المسار "الإبراهيمي"، وبعضها الآخر آثر التمييز بين التطبيع والمطبعين، فلا تتأثر علاقة السلطة بالفاعل وتكتفي بنقد الفعل، ودائماً من باب "سجل يا تاريخ". 

الفرضية الأولى تقول إنَّ السلطة خاضت غمار مواجهة لأعوام ثلاثة تقريباً على "جبهات التماس الإبراهيمية" من دون جدوى. لم يتوقف قطاع التطبيع في أولى محطتيه: أبو ظبي والمنامة، بل مر بالخرطوم والرباط، وما زالت تنتظره محطات جديدة، عربية وإسلامية، فيما علاقات الدول المطبعة، بعالميها العربي والإسلامي، لم تتأثر قيد أنملة، وكل ما انتهى إليه الأمر هو فتور في علاقات المنظمة والسلطة مع هذه الأطراف، من دون أن تترتب عليها أي عواقب أو عقابيل. 

الفرضية الثانية تقول إن المحطة التالية لقطار التطبيع ليست كسابقاتها، فهي بوزن السعودية وموقعها ومكانتها في الساحات العربية والإسلامية والعالمية، وليس من السهل على أي طرف، كالسلطة مثلاً، أن يستعدي المملكة، ولا سيما أن الأخيرة وضعت لائحة طويلة وصعبة من الشروط والمتطلبات لاستقبال قطار التطبيع في عاصمتها.

ومن بين هذه الشروط والمطالب ما يتعلق بالفلسطينيين وسلطتهم، وهي من النوع الذي لا تطمح السلطة في أحسن حالاتها إلى ما هو أكبر منه وأبعد منه. الخشية من صدام بقوّةٍ من حجم السعودية والرغبة في تفاديه، والرهان على قدرة الرياض على إتمام "صفقة ما" فلسطينياً، تمكّن السلطة، وتعزز نفوذها، وتوسع من نطاق سيطرتها ووظائفها، تقف في صدارة العوامل التي تفسر هذا الانتقال من رفض التطبيع إلى محاولة توظيفه والرهان عليه والتعلق به كما يتعلق الغريق بقشة. 

والحقيقة أنها "قشّة" لا أكثر ولا أقل، فكل التقديرات والمعطيات تشير إلى أن التفكير الأميركي – الإسرائيلي ينحصر في رزمة تسهيلات يمكن أن تُمنح للسلطة فتمنع انهيارها، استجابةً للشق الفلسطيني من الشروط السعودية للتطبيع لا أكثر ولا أقل، فالحديث هنا لا يدور عن "مبادرة سلام عربية" ولا عن "حل دولتين"، والمؤكد أن فكرة دولة فلسطينية على حدود 67 وعاصمتها "القدس الشرقية" ليست على جدول أعمال أحد، حتى بعد تسمية السفير السعودي في رام الله وتسليم أوراق اعتماده قنصلاً عاماً في القدس. 

الفرضية الثالثة تقول إنَّ واشنطن لا تمتلك (حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً) خطة استراتيجية لحل شامل ونهائي للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. كل ما تحتويه جعب الموفدين الأميركيين للمنطقة لا يتخطى معادلة "التهدئة/الأمن مقابل الاقتصاد/التسهيلات"، وحزمة من إجراءات بناء الثقة، تقوم أساساً على تمكين السلطة من استعادة دورها الأمني وتفعيل التنسيق والوكالة الأمنيين نظير تسهيلات اقتصادية هنا وترتيبات انتقاليه هناك. 

الإدارة الأميركية في سنيها الثلاث الأولى وضعت نُصب عينيها هدفاً رئيساً واحداً: إقناع الأردن والسلطة بالالتحاق بـ"المسار الإبراهيمي"، فمقاطعتهما "مسار النقب" لم يقدم ولم يؤخر، وهما متضررتان من البقاء خارجه...

وقد نجحت واشنطن في إعادة دمج الأردن بهذا المسار من بوابة أمنية: "العقبة – شرم الشيخ"، واقتصادية: "صفقة الماء مقابل الكهرباء"، فيما يجري العمل حثيثاً لاستلحاق السلطة بهذا المسار عبر بوابة التسهيلات الاقتصادية والترتيبات الأمنية، وستقدم العلاقة المتميزة بين عمان وأبو ظبي لرام الله بوصفها تجسيداً لمنطق التمييز بين الفعل والفاعل، فعمان التي تضررت من "صفقة القرن 1" وذيولها المتمثلة بـ"المسار الإبراهيمي" تحتفظ في الوقت عينه بأفضل العلاقات وأكثرها حميمية مع أبو ظبي والمنامة، وليس ثمة سبب واحد يدعو إلى الاعتقاد بأن ما يصح لعمان لا يصح لرام الله. 

الفرضية الرابعة تقول إن السلطة تخوض منذ عام تقريباً معركة حياتها على جبهتين؛ الأولى، جبهة أقصى اليمين الإسرائيلي الذي لا يرى مصلحة لـ"إسرائيل" في وجودها وبقائها، ويفضل عليها "روابط مدن عميلة" تتبع الإدارة المدنية الاحتلالية... والأخرى جبهة المقاومة الجديدة والمتنامية في الضفة الغربية التي ترى فيها السلطة تهديداً وعبئاً لا ذخراً وسنداً...

إن التهديدين، على اختلاف مصادرهما ومن دون الوقوع في شرك المقارنة، ينظران بقلق إلى محاولة واشنطن إتمام "صفقة القرن 2" بين الرياض و"تل أبيب". الطرف الأول يخشى أن تحد الصفقة من أحلامه التوسعية السوداء، والفريق الآخر يعتبرها طعنة في ظهر المشروع الوطني المقاوم... السلطة اختارت السير في ظلال المملكة وتحت جناحها، حتى وهي تخطو بحذر نحو تطبيع محتمل مع "دولة" الاحتلال والاستيطان والعنصرية. 

في "نقلتها" الجديدة من رفض التطبيع إلى توظيفه، تجد السلطة تشجيعاً ودعماً من أقرب حلفائها في الساحتين العربية والدولية، فهذه المقاربة تنسجم مع طروحات عمان والقاهرة، وتُطرب واشنطن وبروكسل، وتلقى قبولاً في بكين وموسكو، ولا تواجه بمقاومة جدية من فرقاء محور الممانعة الذي تتجه أطرافٌ منه، وبقوة، نحو الانفتاح على المملكة (اتفاق بكين وقمة جدة وحضور الأسد وزيارة وفد حماس للسعودية في رمضان الفائت)، فهذه الأطراف ستظل على موقفها الرافض للتطبيع، ولكنها ستفضل التمييز بين الفعل والفاعل، وستظل حريصة على أفضل العلاقات مع الرياض. 

هي صفحة طويت في سياسات السلطة وممارساتها حيال مسألة حساسة وشائكة كالتطبيع مع "إسرائيل"، لتفتح صفحة أخرى بدلاً منها، لا مكان فيها لمعارك مع المطبعين الجدد، بل ربما تسجل بداية لمصالحات مع المطبعين القدامى.