الخطة البديلة... قصة حرب الجنجويد
صاحَب التطور الكمي والنوعي في قوات الدعم السريع في السنوات الأربع الماضية انتشار في كل أرجاء السودان تقريباً، إذ أصبح لهذه القوات قيادة عسكرية في كل ولاية من ولايات السودان تتمتع باستقلال كامل.
لم تكن الحرب التي نشبت في السودان وعليه في 15 نيسان/أبريل الماضي حرباً عبثية، كما يدعي قادة تحالف الحرية والتغيير وقائد الجيش السوداني، إذ يشير كثير من المعطيات والوقائع إلى أن هذه الحرب جاءت بعد إعداد طويل لقوات الدعم السريع التي تطورت قوتها العسكرية والاقتصادية كماً وكيفاً خلال أعوام الانتقال الأربعة التي تلت سقوط نظام البشير.
وتشير تلك المعطيات والوقائع إلى أن فترة سنوات الانتقال هذه تم خلالها زيادة عدد قوات الدعم السريع من 17 ألف جندي إلى أكثر من 120 ألف جندي، وتم خلال تلك الفترة كذلك رفع قدراتها القتالية عبر التدريب الذي وفرته دول وشركات أجنبية، وعبر تطوير تسليحها الذي تطور تطوراً كبيراً من خلال رعاية إقليمية عربية وصهيونية.
صاحَب هذا التطور الكمي والنوعي في قوات الدعم السريع انتشار لها في كل أرجاء السودان تقريباً، إذ أصبح لهذه القوات قيادة عسكرية في كل ولاية من ولايات السودان تتمتع باستقلال كامل عن قيادة المناطق العسكرية للجيش في الولايات.
وقد تركزت غالبية هذه القوات في العاصمة الخرطوم التي تأسس لها فيها وجود عسكري ضارب حولها وفي داخلها وداخل كل مؤسسات الدولة، بما في ذلك القصر الجمهوري والقيادة العامة للجيش ومجلس الوزراء والمطار والكثير من الوزارات، فضلاً عن تمركزها في مناطق حاكمة في مداخل مدن ولاية الخرطوم.
تشير تقديرات عسكريين مطلعين إلى أن دولة عربية أنفقت ما بين 18 إلى 20 مليار دولار لتأهيل هذه القوات وتطوير تسليحها، وتطوير نظم القيادة والاتصال ونظم التجسس، وتوفير المهام، وتحسين شروط العمل فيها، حتى باتت قادرة على استقطاب سودانيين وأفارقة وبعض الأوروبيين للعمل في صفوفها، وهذا ما تبيّن بجلاء خلال هذه الحرب.
لم يكن الاهتمام الغربي العربي بهذه القوات اهتماماً بريئاً لينتج حرباً عبثية، كما يرى حلفاء وأصدقاء الغرب المحليون من المدنيين وبعض العسكريين، إنما كان اهتماماً لتحقيق أهداف الغرب الاستراتيجية في السودان والمنطقة في ظل الصراع الدولي والإقليمي الكبير على السودان ومحيطه، بل على كل القارة الأفريقية التي تحتل موقعاً استراتيجياً في قلب العالم، وتعد مستودع الموارد الطبيعية والمواد الخام الأكبر من حيث التنوع والحجم في المعمورة.
عمل الغرب بشكل مباشر وعبر حلفائه الإقلميين والمحليين للسيطرة على السودان وإخضاعه لسلطانه، وإعادته إلى حقبة الاستعمار بوسائل ناعمة. وقد تجلّى ذلك في نفوذه القويّ الذي مكنه من فرض دستور انتقالي ظل حاكماً منذ التغيير الذي حدث عام 2019، وفرضِه فاعلين من الطبقة السياسية المرنة كحكام للفترة الانتقالية يبسط عبرهم مشروعه الاستعماري الجديد، ويعيد عبر سلطتهم هندسة أوضاع السودان بكل أوجهها، على نحو يعيد صياغة حاضره وصناعة مستقبله بعيداً من تاريخ السودان وانتمائه ودوره وهويته الحضارية.
وقد كان أبرز عنوان لهذا المشروع حذف اللغة العربية من دستور الفترة الانتقالية كلغة رسمية للدولة، وحذف تعريف السودان كدولة عربية أفريقية من الدستور نفسه، ثم استبدال المناهج الدراسية بمناهج بديلة تخدم فكرة الاستعمار الجديد، وتخدم عملية التحول القيمي اللازمة لنجاح هذه الفكرة لدى الأطفال والناشئة.
لم يكن موضوع التطبيع الذي تنافس عليه قائد الجيش ونائبه قائد الدعم السريع ورئيس حكومة تحالف الحرية والتغيير بعيداً من مصفوفة المشروع الغربي الصهويني في السودان، بل كان في قلبها.
وقد شكّلت مبادرة رئيس هذه الحكومة التي ألغى بموجبها قانون مقاطعة "إسرائيل" لعام 1958 وتوقيع حكومته على "اتفاقيات أبراهام" شاهداً على مكانة التطبيع في هذا المشروع وأهميته البالغة في أجندة المجموعات الحاكمة في تلك المرحلة وتنافسهم كمدنيين وعسكريين عليه.
شكّل المشروع الغربي الصهيوني بعناوينه ومحاوره تلك تحدياً واستفزازاً كبيراً للمجتمع السوداني. وقد زاد من صعوبة هذا التحدي تبني حكومة تحالف الحرية والتطبيع الفكر النيوليبرالي وسعيها المحموم من أجل تأسيس بنية قاعدية له على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، وذلك عبر تبني ثقافة هذا الفكر وقيمه، وسعي الحكومة لفرض تلك الثقافة والقيم ونشرها وإحلالها بديلاً لثقافة المجتمع التاريخية وقيمه، وفاقم الأداء السياسي لهذه الحكومة وأحزابها الأوضاع في السودان، فأسقطت من خلال جهد مشترك بين المجتمع ومؤسسة الجيش في 25 تشرين الأول/أكتوبر 2021.
مثّل سقوط هذه الحكومة تراجعاً للمشروع الاستعماري الغربي الصهيوني الجديد في السودان، بعدما تمكن من السيطرة عليه بأداة السياسة، ومن خلال شركاء محليين، فعمد إلى استعادة السودان وإرجاعه إلى بيت الطاعة بأدوات سياسية ودستورية، فبادر الغرب إلى إعداد دستور انتقالي بديل يحمل في طياته مساوئ أكثر وأكبر من تلك التي حملها دستور 2019. وقد بينّا بعض تلك المساوئ في مقال بتاريخ 15 تشرين الأول/أكتوبر 2022.
أعدّ الغرب مع مسودة الدستور الانتقالي الجديد وثيقة سياسية تحت مسمى الاتفاق الإطاري، وقع عليه تحالف الحرية والتغيير والمجلس المركزي وقائدا الجيش والدعم السريع في 5 كانون الأول/ديسمبر 2022، بيد أن المجتمع بقواه الاجتماعية والسياسية رفض هذه النسخة من المشروع الغربي ممثلة بالوثيقتين السياسية والدستورية، كما رفض الجيش هذه النسخة -هنا يلزم التمييز بين موقف مؤسسة الجيش وموقف قائد الجيش- بعدما تبينت المخاطر الكبيرة لهذا المشروع على السودان، والتي أبرزها مقال سابق بتاريخ 10 كانون الأول/ديسمبر 2022.
هنا، شعر الغرب مجدداً بتعثر مشروعه، بسبب الرفض الواسع والكبير من المجتمع ومؤسسة الجيش. لهذا، لجأ إلى الخطة البديلة المتمثلة بالسيطرة على السودان من خلال الحرب التي أهّل لها قوات الدعم السريع وأعدّها لذلك عبر التخطيط والتدريب والتسليح، وعبر وسائل أخرى أسهمت في تمكين هذه القوات من السيطرة على مقاليد السلطة لساعات من صباح يوم السبت 15 نيسان/أبريل الماضي.
وقد بُنيت خطة السيطرة على أن تباغت قوات الدعم السريع قوات الجيش الموجودة معها في القيادة العامة للجيش وفي القصر الجمهوري ومجلس الوزراء والإذاعة والتلفزيون وبقية المؤسسات السيادية، وأن تقوم القوة التي تحرس قائد الدعم السريع في منزله في حي المطار بأسر كبار ضباط الجيش وكبار مسؤولي الدولة من بيوتهم في هذا الحي، وأسر قائد الجيش ورئيس وأعضاء هيئة الأركان أو تصفيتهم، ومن ثم إعلان توليه السلطة كرئيس لمجلس السيادة، وإعلان تشكيل حكومة من شركائه المدنيين.
تمكنت قوات الدعم السريع من السيطرة على معظم المؤسسات السيادية، وتمكنت من أسر بعض القادة العسكريين، لكنها لم تتمكن من أسر قائد الجيش واغتياله بعدما استبسل الحرس الجمهوري في تلك المعركة ونجح في تأمين حياته، كما نجح الجيش في تأمين رئيس هيئة الأركان وغالبية أعضاء الهيئة من الأسر أو الاغتيال، وتمكن من استرداد غالبية المواقع السيادية، ونجح في تدمير أكثر من نصف قوة الدعم السريع داخل الخرطوم البالغ عددها 80 ألف جندي، ونجح في تدمير جميع مراكزها ومقارها في كل أنحاء السودان.
وبهذا، أفشل خطة السيطرة على السلطة بقوة السلاح، وأخرج الدعم السريع من دائرة التحدي العسكري بعد استسلام غالبية قواته في الولايات بعتادها العسكري وكسر شوكتها في الخرطوم.
إزاء ذلك، سعت الولايات المتحدة لإنقاذ ما تبقى من قوة الدعم السريع، فلجأت إلى ممارسة الضغوط على قائد الجيش من أجل الدخول في هدنة تمكّن قوات التمرد من التقاط أنفاسها وإعادة جمع صفوفها وسد حاجتها من العتاد والمهام.
وقد نجحت مساعي الغرب في فرض أكثر من هدنة أخرت جداً استكمال جهود الجيش في القضاء على ما تبقى من قوات التمرد أو فرض خيار استسلامها، ولا تزال الجهود الغربية مبذولة من أجل الحيلولة دون تحقيق أهداف الجيش التي تجد تأييداً شعبياً منقطع النظير.