الجزائر-مالي: التدحرج نحو الأزمة
نحن إذاً أمام نذر هوة في الرؤى الاستراتيجية للدولتين ما فتئت تتسع ويزيد من اتساعها انسياق باماكو نحو سياسات من شأنها هدم بنية الأمن في مالي وفي جوارها.
تسير العلاقات الجزائرية-المالية، منذ ما يربو عن الشهر في الأقل، في نفق من الشكوك والتكهنات المتشائمة بعد موجة التوتر التي استثارتها النبرة غير الودية التي استعملت في خطابات أكثر من مسؤول مالي ضدّ الجزائر وقادت في نهاية المطاف إلى إعلان باماكو انسحابها من "اتفاق السلم والمصالحة" المبرم مع الحركات الأزوادية في 15 أيار/مايو ثم 20 حزيران/يونيو عام 2015 والمعروف بـ"اتفاق الجزائر".
والواقع أنّ نبرة تلك الخطابات، ناهيك بمضامينها التي عكفت على تصوير الجزائر بصورة المنتهك لسيادة مالي والمتدخّل في شأنها الداخلي والداعم للإرهاب، حفّزت جملة من ردود الأفعال التي طغت عليها الدهشة والاستغراب والأسف -من جهة الجزائر على الأقل- بالنظر إلى المغالطات المخجلة التي تضمنتها ومناقضتها للحقائق التاريخية الراسخة التي تبرهن كلها على عمق تضامن الجزائر مع مالي وشدّة حرصها على أمنها ووحدتها الترابية.
وتشهد الوقائع التاريخية أن الجزائر ظلت ثابتة على مواقفها تلك، رافضة التدخل الأجنبي في جارتها وحريصة على سيادتها حتى عندما فرّطت هي نفسها فيها حين استنجدت بالقوات العسكرية الفرنسية لحماية جغرافيتها من التقسيم في كانون الثاني/يناير 2013.
إنّ العوامل السابقة، بالإضافة إلى مسارعة سلطات باماكو إلى لغة وسلوك يستحثّان التوتر والـتأزّم في العلاقة مع الجزائر هو ما يعزّز نزعة الشكّ ويدخل مستقبل العلاقة بين الدولتين في خانة اللايقين في ظل استمرار حكم المجلس العسكري الانتقالي في باماكو الذي أبان بسلوكه ذاك عن حالة من النزق والعنفوان الموظّف من غير تبصّر قد تعصف بالمعادلات الأمنية والسياسية المعقدة التي كــبّدت الجزائر جهوداً تاريخية مضنية من أجل بنائها.
كل شيء بدأ بعد أن استقبل الرئيس الجزائري إمام الطريقة الكنتية لجمهورية مالي الشيخ محمود ديكو في 19 كانون الأول/ديسمبر 2023 في القصر الرئاسي. ومعلوم أنّ مشايخ الطريقة الكنتية دأبوا على القيام بزيارات دورية إلى مقرّ زاويتهم المركزيّ الموجود في "كنتة" في أدرار (جنوب غرب الجزائر).
وبحكم علو مقام مشايخ الطرق الصوفية لدى الدولة الجزائرية ودورهم غير القابل للتعويض في ترسيخ المرجعية الدينية في عموم دول المغرب العربي وغرب أفريقيا، أرست الرئاسة الجزائرية تقليد استقبالهم من طرف الرئيس في قصر المرادية خلال فترة وجودهم في الجزائر، وهو ما طبـّق مع الشيخ محمود ديكو لدى زيارته إلى كنتة.
بيد أنّ استقبال تبون لديكو هذه المرّة لم يرق لسلطات باماكو على ما يبدو فاتخذته ذريعة للتهجم على الجزائر، بدليل أنها بادرت عبر وزيرها للشؤون الخارجية والتعاون الدولي عبد الله ديوب في 20 كانون الأول/ديسمبر، أي بعد يوم واحد من لقاء تبون وديكو، إلى استدعاء السفير الجزائري لدى جمهورية مالي لتبليغه "احتجاجاً شديد اللهجة إثر الأعمال غير الودية التي ارتكبتها السلطات الجزائرية تحت غطاء عملية السلام في مالي" وأّن "هذه الأعمال تشكل تدخلاً في الشؤون الداخلية لمالي"، سلوك دفع بالجزائر إلى استدعاء سفيرها لدى باماكو للتشاور في 22 كانون الأول/ديسمبر.
أبرز ما يلفت الانتباه في خطابات باماكو ضدّ الجزائر، سواء تعلق الأمر ببيانات وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الدولي أو بيانات وزارة الإدارة الإقليمية واللامركزية أو تصريحات الوزير الأول شوغيل كوكالا مايغا، استدعاؤها "للقاءات المتكــرّرة على أعلى المستويات في الجزائر، ومن دون أدنى معلومات أو تدخل من السلطات المالية، من جهة مع أشخاص معروفين بعدائهم للحكومة المالية، ومن جهة أخرى، مع بعض الحركات الموقعة على اتفاق السلام والمصالحة في مالي، الناتج عن مسار الجزائر، والتي اختارت الجانب الإرهابي"، ناهيك باتهامات يعوزها المنطق باحتضان الجزائر لـ"فواعل إرهابية" على أراضيها.
هذه القراءة المالية لسلوك الجزائر، بما تنطوي عليه من اتهامات ونزعة استعداء مواربة، تثير مشكلتين في الأقل:
أولاهما، هي التسرّع في إطلاق الأحكام على اللقاءات التي تجريها القيادة الجزائرية مع الأطراف الموقعة على "اتفاق الجزائر" والنظر إليها بمنظار "المؤامرة" التي تحاك ضد باماكو، مع أنّ هذه اللقاءات لا هي بالجديدة ولا هي بالسرّية.
ولقد دأبت الرئاسة والخارجية الجزائريتان على إصدار بيانات عقب كل لقاء يجمعها بالأطراف الموقعة على اتفاق "السلم والمصالحة" تتضمن فحوى المحادثات ومخرجاتها، أمر يطبق أيضاً على اللقاءات التي تجمع المسؤولين الجزائريين بالمسؤولين الماليين الرسميين. فما الذي استجد هذه المرة كي تحتج مالي؟
حري بنا التذكير في هذا السياق بأنّ الجزائر من موقعها كوسيط بين الأطراف الموقعة والراعية للاتفاق، يقع على عاتقها السهر على تنفيذ بنوده، وضمن هذا الالتزام تندرج شرعية استقبالها للأطراف الموقعة على الاتفاق.
ناهيك بهذا، فإن اتهام باماكو للحركات الأزوادية التي تستقبلها الجزائر بالإرهاب ثم اتخاذ ذلك ذريعة لنقض العهد هو بلا شكّ انقلاب في موقف باماكو ومناقضة منها لذاتها، ذلك أنّ الحركات التي تتـّهَمُ اليوم بالإرهاب هي نفسها الحركات التي اعترفت بها باماكو كمفاوض طيلة ما عرف بـ"مسار الجزائر" وهي نفسها الحركات التي أعلنت في 06 كانون الثاني/يناير رفضها التخلي عن "اتفاق الجزائر".
أما المشكلة الثانية، وهي الأخطر على العلاقات الثنائية بين البلدين وعلى بنية الأمن في إقليم الساحل برمته، فتنشأ بالأساس من تكرّر سلوك باماكو هذا ضدّ الجزائر واتخاذه منحى تصاعدياً منذ ما يفوق الشهر. إنّ هذا الوضع يسير إلى تسييد الشكّ والريبة في العلاقات بين باماكو والجزائر في ظل استمرار حكم مجلس عسكري انقلابي بات من المتعذر توقع تصرّفاته، وصارت إطالة مدة بقاء أعضائه في السلطة هاجسه الأول والمعيار الذي على أساسه يحدّد من هو صديق مالي ومن هو عدوها.
دليلنا على هذا موقفان؛ أولهما كان حين ثارت ثائرة المجلس العسكري ضدّ استقبال الجزائر للشيخ محمد ديكو الذي بدأت تميل مواقفه مؤخّراً نحو ضرورة العودة إلى الحكم المدني في مالي، وثانيهما حين أدرجوا مطلب الجزائر بـ"فرض آجال انتقالية على باماكو بطريقة أحادية" في البيان الذي نشرته وزارة الإدارة الإقليمية واللامركزية يوم 25 كانون الثاني/يناير على رأس الأسباب التي استحثت قرار انسحابهم من اتفاق الجزائر.
نحن إذاً أمام نذر هوة في الرؤى الاستراتيجية للدولتين ما فتئت تتسع ويزيد من اتساعها انسياق باماكو نحو سياسات من شأنها هدم بنية الأمن في مالي وفي جوارها.
إن التاريخ يقرئنا أن النهج العسكري لتسوية معضلة الأزواد و"تطبيع" العلاقة بينهم وبين باماكو لم يجد نفعاً بل كانت نتائجه دوماً مزيداً من الاحتراب والقتل، وعجز باماكو عن بسط نفوذها على أقاليمها الشمالية. هذا ما تنبئنا به كل الحروب التي خاضها الطرفان بين عامي 1990 و1996، والتي لم تكن لتخبو لولا الوساطة الجزائرية التي لم تتوقف منذ اتفاق تمنراست في 06 كانون الثاني/يناير 1991 المعروف باسم "الاتفاق حول وقف العداوات".
من المؤكّد أن هذ الوضع يسير بالعلاقات الجزائرية-المالية في طريق التدحرج نحو تأزّم أكبر، ففي مقابل طرف جزائري يلح على عدم التفريط في "اتفاق الجزائر" قناعة منه بحقيقة التبعية الأمنية المتبادلة ومبدأ الأمن غير القابل للتجزئة ووجوب مراعاة الانشغالات الأمنية المعقولة للأطراف المعنية، وإدراكاً منه بالمخاطر العابرة للحدود للانهيار الأمني في مالي في حال عودة الاقتتال بين الجيش والحركات الأزوادية، يقف الطرف الحاكم اليوم في مالي موقف غير الآبه بدروس التاريخ، والذي تطغى على مواقفه حسابات البقاء في السلطة، حتـى ولو كلفه الأمر المخاطرة بأمن مالي ووحدتها.