التوتر بين نتنياهو و "الجيش" الإسرائيلي: صراع سياسي أم تحوّل بنيوي؟
الصراع بين نتنياهو والمؤسسة العسكرية لا يُعدّ مجرد خلاف على مسؤوليات أو أدوار، بل هو انعكاس لتحوّلات أعمق في النظام الإسرائيلي.
تعيش "إسرائيل" على وقع صراع متصاعد بين المؤسسة العسكرية والمستوى السياسي بقيادة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، صراع يعكس أزمات بنيوية في النظام الإسرائيلي تتعلق بتوازن القوى بين المؤسسات المدنية والعسكرية. تُعد هذه الخلافات امتداداً لمحاولات الحكومة اليمينية بقيادة نتنياهو تقليص نفوذ "الجيش" الذي طالما كان يُنظر إليه كإحدى القوى التي يمكنها التوازن مع السلطة التنفيذية.
أحد أبرز محاور الخلاف يكمن في تداعيات الإخفاق الأمني في السابع من أكتوبر، حين فشلت أجهزة الأمن و "الجيش" في التنبؤ أو التصدي للهجمات التي شنّتها حركة حماس.
رئيس الأركان هرتسي هليفي أقرّ علناً بمسؤوليته عن هذه الإخفاقات، ما جعله هدفاً لانتقادات شديدة من الحكومة وأوساط سياسية عديدة. في المقابل، استغل نتنياهو هذه الأحداث لتوجيه اللوم نحو المؤسسة العسكرية، في محاولة واضحة لإبعاد المسؤولية السياسية عنه.
تسارعت هذه التطورات مع إعلان نائب رئيس الأركان، اللواء أمير برعام، نيته الاستقالة في شباط/ فبراير المقبل، بعد تمديد خدمته لستة أشهر بسبب الحرب. أشار برعام في رسالة مسرّبة إلى أن دوره بات محدوداً مع انخفاض شدة الحرب، ما يعكس انتقاداً ضمنياً لرئيس الأركان هليفي. هذه الاستقالة المتوقعة، إلى جانب الدعوات المتزايدة لاستقالة هليفي، تُضعف من تماسك المؤسسة العسكرية وتُعزز فرص الحكومة في التدخل في شؤونها.
التوتر بين "الجيش" والحكومة تفاقم بسبب التنافس على التعيينات القيادية. فقد رفض وزير الدفاع إسرائيل كاتس، الذي عُيّن مؤخراً خلفاً ليوآف غالانت، التصديق على قائمة ترقيات قدمها هرتسي هليفي. هذا الرفض لم يكن مجرد إجراء إداري، بل عكس رغبة الحكومة في التحكم بتوجهات القيادة العسكرية المستقبلية.
كما برزت الخلافات علناً مع تصريحات الناطق باسم "الجيش"، العميد دانيال هغاري، والتي عُدّت انتقاداً مبطناً لمكتب وزير الدفاع. هذا الصدام كشف عن حجم الاحتقان بين المؤسستين وعن نية الحكومة تطويع "الجيش" لخدمة أجندتها السياسية.
على المستوى الدولي، لعبت الولايات المتحدة خلال إدارة الرئيس جو بايدن دوراً داعماً لاستقلالية "الجيش" الإسرائيلي. فقد طالبت واشنطن بتحقيقات شفافة حول إخفاقات السابع من أكتوبر، مع التشديد على ضرورة الحفاظ على مهنية المؤسسة العسكرية، إلا أن انتخاب دونالد ترامب رئيساً يُنذر بتغيّر هذه الديناميكية. يُعرف ترامب بعلاقته الوثيقة بنتنياهو ودعمه المطلق للحكومات اليمينية الإسرائيلية، ما قد يوفر للأخير غطاءً سياسياً لمواصلة جهوده للسيطرة على "الجيش".
في ظل هذه الظروف، تبدو العلاقة بين "الجيش" والمستوى السياسي ماضية في مسار متوتر، مع احتمالية استمرار نتنياهو في إحكام قبضته على المؤسسة العسكرية. استقالة برعام وضغوط استقالة هليفي تُعد إشارات واضحة على تراجع قدرة "الجيش" على مقاومة التدخلات السياسية.
ورغم ذلك، فإن المؤسسة العسكرية لا تزال تحظى بدعم شعبي ودولي قوي، ما قد يمنحها بعض القدرة على مواجهة التحديات الداخلية. لكن تسييس "الجيش"، إذا استمر، قد يؤدي إلى تآكل استقلاليته، ما يُهدد قدرة "إسرائيل" على الحفاظ على توازنها المؤسسي في وقت تتزايد التحديات الأمنية والإقليمية.
الصراع بين نتنياهو والمؤسسة العسكرية لا يُعدّ مجرد خلاف على مسؤوليات أو أدوار، بل هو انعكاس لتحوّلات أعمق في النظام الإسرائيلي. محاولات تسييس "الجيش" وتقويض استقلاليته قد تؤدي إلى إضعاف واحدة من أهم ركائز النظام الأمني والسياسي، ناهيك بالمخاطر الكبيرة على استقرار "إسرائيل" الداخلي وقدرتها على مواجهة التحديات الأمنية المتزايدة.
ومع تصاعد التدخلات السياسية، تصبح المؤسسة العسكرية أمام اختبار مصيري: إما الحفاظ على استقلاليتها ومهنيتها أو التماهي مع أجندات سياسية قد تُضعف مكانتها داخلياً وخارجياً، ويخل بتوازن النظام السياسي برمته، الأمر الذي يُدخل "إسرائيل" في دائرة أوسع من الأزمات المؤسسية والدستورية.
تبدو الكفة مائلة لصالح نتنياهو في المدى القريب، نظراً للأدوات السياسية المتاحة له، ودعمه الداخلي والدولي المتوقع من إدارة ترامب. إلا أن تسييس "الجيش" بما يحمل في طياته من مخاطر استراتيجية قد تؤدي إلى أزمات أكبر على المدى الطويل، يستدعي مزيداً من المتابعة لتطورات تلك العلاقة بين المستويين السياسي والعسكري في "إسرائيل" وانعكاس ذلك على استقرار الدولة ومؤسساتها ومجتمعها، كون هذا الصراع من الصعب حسمه على المدى القريب.