الاقتصاد الإسرائيلي في مواجهة انقلاب نتنياهو القضائي، أيهما يصمد!
مجرد الحديث عن تعديلات قضائية ليست بمعزل عن الرغبات والاعتبارات الشخصية لأركان النظام السياسي في "إسرائيل" تفقدها الثقة، خاصةً لدى المستثمرين الأجانب.
ما زالت تداعيات وصول اليمين الإسرائيلي الفاشي إلى الحكم ورغبته إحداث انقلاب قضائي يطيح بالكوابح القضائية الناظمة لعلاقات السلطات الثلاث في دولة الاحتلال، تعصف "بالمجتمع الإسرائيلي" وتهدّد استقراره السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
فقد وجّه مئات خبراء الاقتصاد الإسرائيليون رسالة إلى رئيس وزراء الاحتلال نتنياهو محذّرين إياه من أن "الثورة القانونية" التي تقودها حكومته ستلحق ضرراً غير مسبوق بالاقتصاد الإسرائيلي. وقد أوضح أساتذة الاقتصاد، والمحافظون السابقون لـ "بنك إسرائيل" ورؤساء المجلس الاقتصادي الوطني وغيرهم، أن التغيير الذي قد يطال استقلال القضاء سيزيد بشكل كبير من احتمال إلحاق الضرر بالتصنيف الائتماني لـ "إسرائيل" وبالشركات العالمية، وهو ما بدأ فعلاً. إذ أعلنت 5 شركات تكنولوجيا إسرائيلية وعالمية عن رغبتها تحويل أموالها من حساباتها في "إسرائيل" إلى حسابات مصرفية في دول أخرى.
كما نقلت صحيفة "يديعوت أحرنوت" الإسرائيلية أن إحدى أكبر شركات الاستثمار الأميركية بعثت رسالةً للمستثمرين في التكنولوجيا الإسرائيلية ومدراء الشركات الناشئة تطالبهم بدراسة تحويل الأموال لحسابات بنوك أجنبية باعتبار أن "إسرائيل" دخلت في مرحلة جديدة تتميز بـ "الضبابية" في ظل حكومة ليس لها ضوابط، كما دعت إلى حيازة عملة "الشيكل" لاستخدامها في نفقات تشغيلية لمدة لا تزيد عن 6 أشهر فقط.
بدأت تخوّفات رجال الاقتصاد برسالة المحافظين السابقين لبنك "إسرائيل"، الموجّهة لنتنياهو وامتدت إلى استقالة عضو لجنة النقد، البروفيسور موشيه حزان، تلاها تحذير محافظ بنك "إسرائيل" الحالي البروفيسور أمير يارون إلى رئيس وزراء حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، ولا يبدو أنها ستقف عند الرسالة التي وقّعها أكثر من 270 من أعضاء هيئات التدريس في مجالات الاقتصاد والإدارة في جامعات وكليات إسرائيلية وأخرى حول العالم، محذّرين نتنياهو من الضرر المتوقّع على الاقتصاد الإسرائيلي نتيجة تنفيذ الإصلاحات المزمعة في النظام القضائي وانعكاساتها الخطرة على مستقبل هذا الاقتصاد.
كما أرسل بعض كبار الاقتصاديين الأميركيين بداية الشهر الحالي، وبعضهم من الفائزين بجائزة نوبل في الاقتصاد ورؤساء سابقون للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، رسالةً إلى نتنياهو محذّرين إياه من أن الإصلاح القانوني في "إسرائيل" سيضرّ بالديمقراطية والاقتصاد، ويبدو أن هنالك إجماعاً شبه كامل بين خبراء الاقتصاد فيما يتعلق بعواقب الانقلاب القضائي.
لكنّ نتنياهو الذي يمضي بإتلافه نحو إحداث "الثورة القضائية" غير آبه بالانتقادات، ردّ بأن الإصلاح القانوني لن يضرّ بالاقتصاد بل سيقوّيه، قائلاً إنه لا داعي "للترهيب"، مضيفاً أن "الإفراط في التشريع في "إسرائيل" يؤثّر كالرّمل في عجلات الاقتصاد، وسيعزّز الإصلاح القضائي سيادة القانون".
في حين دعا وزير ماليته المتطرّف سموتريتش، المعارضة "ألا تحرق البلد بالنار، فصناديق رأس المال الاستثماري والشركات العالمية لا تتأثر بالمؤتمرات الصحافية"، في إشارة إلى استمرار احتجاجات المعارضة ضد الإصلاحات المذكورة.
من جانبهم، ولتأكيد مخاوفهم من أن مواطني "إسرائيل" سيدفعون ثمن هذا الهجوم على "الديمقراطية" من جيوبهم الخاصة، يبيّن الخبراء الاقتصاديون كيف تعاملت وكالات التصنيف الائتماني مع تحركات مماثلة في المجر وبولندا وتركيا، معتبرين أن خطوات مشابهة تمثّل خطراً على الاقتصاد الإسرائيلي بسبب الضرر المحتمل على حقوق الملكية، وخوف المستثمرين من قرارات حكومية تعسفيّة وغير متوقّعة في غياب المرجعيات القضائية.
ويرى هؤلاء أن اقتصاد "إسرائيل" "مزدهر ومتنام ومحل ثقة داخلياً وخارجياً، لذا يجب حمايته بنظام قانوني غير متحيّز يخدم المصلحة العامة وفقاً لأفضل فهم اقتصادي مهني، وليس وفق اعتبارات سياسية تخدم عناصر سياسية معينة دون غيرها"، وفق تعبيرهم.
يتطلّب النمو والازدهار الاقتصادي في العالم الحديث نظاماً قانونياً مستقراً يضمن، من بين أمور أخرى، احترام حقوق الملكية، وقوانين الميزانية، وقانون البنوك المركزية، والحفاظ على المنافسة، وقواعد واضحة ومستقرة تتيح أفق تخطيط طويل المدى، مما يخلق بيئةً متعاطفة مع التنمية الاقتصادية وبالأخص الابتكار والتميّز. وبسبب "الإنجازات" التي حققتها "إسرائيل" تحوّل اقتصادها إلى وجهة مفضلة للاستثمارات الأجنبية التي ساهمت بشكل كبير في رفع مستوى المعيشة لمواطنيها، فحدثت زيادة ملحوظة في تصنيفها الائتماني وفق وكالات التصنيف الائتماني العالمية الرئيسية الثلاث: ستاندرد آند بورز، وفيتش، وموديز.
يعتمد الاقتصاد الإسرائيلي بشكل كبير على الاقتصاد العالمي والمستثمرين من الخارج خاصةً في مجال التكنولوجيا المتقدمة، لكن البيئة الاقتصادية العالمية المتغيرة وتباطؤ الاقتصاد العالمي وانخفاض توافر رأس المال هي عوامل مهمة ومؤثرة في الاقتصاد الإسرائيلي. ولا شك أن العامل الرئيسي الذي يحدد مكانة الاقتصاد الإسرائيلي في الاقتصاد العالمي هو قوة ومهنية واستقلالية النظام القانوني والالتزام الدقيق بمبدأ الفصل بين السلطات. فالتوازن في العلاقات المتبادلة بين السلطات الثلاث حسّاس للغاية، وإثارة الشكوك عالمياً حول التزام الحكومة الإسرائيلية بالحفاظ على هذا المبدأ قد يؤذي صورة "إسرائيل" أمام الراغبين في الاستثمار فيها.
وفي ظل حالة عدم اليقين السياسي والاقتصادي التي تسود مختلف أنحاء العالم وما تعانيه بعض الدول الكبيرة من أزمات سياسية واقتصادية وأمنية طاردة للاستثمار، فإن جملة الإجراءات التي تطرحها حكومة نتنياهو في مثل هذه الفترة الحساسة على وجه التحديد، تنطوي على مخاطر كبيرة لطبيعة النظام "الديمقراطي" في "إسرائيل" وصورته التي تحاول "إسرائيل" ترويجها والمحافظة عليها في العالم.
يعمل الاقتصاد الإسرائيلي في عالم تنافسي للغاية وقد يكون الضرر الذي يلحق بمكانته نتيجة لخطوة "متهورة وخاطئة"، كما يراها خبراء الاقتصاد، مدمّراً ويصعب إصلاحه. إن النتيجة التي يسعى إليها خبراء الاقتصاد الإسرائيليون من استراتيجية إدارة مخاطر متوازنة لا لبس فيها، في ضوء اعتماد الاقتصاد الإسرائيلي على الأسواق المالية العالمية والأعراف المقبولة، هي عدم تعريض مكانة الاقتصاد الإسرائيلي في أسواق رأس المال العالمية للخطر، لذا فقد عبّروا عن خشيتهم من انخفاض رغبة المستثمرين الأجانب في الاستثمار في "إسرائيل" في حال جرى إضعاف النظام القضائي.
هذا الأمر يعني، من بين أمور أخرى، زيادة تكلفة جمع الأموال للحكومة الإسرائيلية نتيجة التخفيض المحتمل في تصنيفها الائتماني، الأمر الذي قد يوجّه ضربةً قاسية لاقتصاد "إسرائيل" ومواطنيها، ويضطر الحكومة الإسرائيلية إلى دفع فوائد أعلى بكثير على القروض المستحقة عليها، الأمر الذي سيلحق ضرراً بكل مواطن ويمسّ بقدرة الحكومة على الاستثمار في دعم السكان المحتاجين في الصحة وفي التعليم وفي ميزانية الدولة بمجملها.
إن إضعاف المؤسسات المركزية والأساسية أو نظام "الضوابط والتوازنات" القائم، يمكن أن يؤدي إلى زيادة مخاطر خفض التصنيف الائتماني لـ "إسرائيل"، وقد يكون سريعاً وحاداً جداً رد فعل شركات التصنيف والمستثمرين على التغييرات المخطط لها في النظام القانوني والتي يتوقع أن تحد من المراجعة القضائية لأعمال الحكومة والكنيست، وأن تضعف الضوابط والتوازنات بين السلطات الثلاث.
تشير الأدبيات الاقتصادية باستمرار إلى أن استقلال القضاء والقيود القضائية الفعّالة على السلطة التنفيذية لها تأثير إيجابي على النمو الاقتصادي، وقد يشجّع إضعاف المراجعة القضائية للحكومة التحركات التي تمس بالاقتصاد بسبب الضرر المحتمل لحقوق الملكية وخوف المستثمرين من القرارات التعسفية وغير المتوقّعة من قبل الحكومة.
إن مجرد الحديث عن تعديلات قضائية ليست بمعزل عن الرغبات والاعتبارات الشخصية لأركان النظام السياسي في دولة الاحتلال تفقدها الثقة، خاصةً لدى المستثمرين الأجانب، بحيث يصبح طريق الانهيار سريعاً جداً. فالتغيير الذي ينقل كامل السلطات إلى السلطة التنفيذية، ويحوّل السلطة التشريعية إلى لاعب ليس لديه القدرة على التأثير في التشريع يقلب التوازنات القائمة، الهشة أصلاً، رأساً على عقب.
فثقة الاقتصاد والأداء الاقتصادي الإسرائيلي مرتبطان بمقدرة الجهاز القضائي على انتقاد الحكومة، والتحركات المقترحة لإضعاف المراجعة القضائية تزيد من مخاطر رد الفعل القاسي والمؤلم على الاقتصاد الإسرائيلي، وهي المسألة الأكثر حساسيةً بالنسبة لنتنياهو. فهل نشهد اشتداد انتقادات وتحرّكات رجال الاقتصاد وخبرائه في طريق الإطاحة بخطوات حكومة نتنياهو للانقلاب على الجهاز القضائي؟