اعترافات كيربي... حماس باقية ولا مشكلة لدينا بذلك

لم يتساءل كيربي، ولم يسأله أحدٌ من الصحافيين، عن ماهية الفكرة/الأيديولوجيا التي يصعب على العمل العسكري القضاء عليها، الأمر الذي يستوجب التدخل لاستجلاء غموض الناطق الأميركي. 

  • كيربي استحق ولوج موسوعة
    كيربي استحق ولوج موسوعة "غينيس" بوصفه أكبر كذّاب في العام الفارط.

استحقّ جون كيربي أكثر من "جائزة" على أدائه كمتحدث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض خلال أشهر الحرب الثلاثة على غزة، من بينها جائزة إيمي لأفضل عرض تلفزيوني في وقت الذروة، والذروة عنده كانت عندما انهار باكياً لفظاعة صور "الاغتصاب" و"بقر البطون" و"الأطفال المحرّقة أجسادهم والمقطّعة رؤوسهم" في مستوطنات الغلاف في ذلك اليوم الأغر من أكتوبر.

لكن الرجل، والحق يقال، استحق ولوج موسوعة "غينيس" من أوسع فصولها، بوصفه أكبر كذّاب في العام الفارط. كل تلك "المهارات" ستُضاف إلى سيرته الذاتية عندما يشرع في البحث عن عمل جديد بعد خروج إدارته من البيت الأبيض في كانون الثاني/يناير.

لكن مع ذلك، يسجّل للرجل أنه نطق لمرة واحدة بكلمات حق، أمس، عندما قدّم تقييماً لمسار الحرب الإسرائيلية على غزة، وهي تختتم شهرها الثالث، جاء فيه أن حماس ما زالت تتمتع بكثير من قدراتها بعد ثلاثة أشهر من الحرب، وأن العمل العسكري لن يقضي على أيديولوجيتها وفكرتها، وأن بلاده "تتقبل فكرة أن الحركة ستظل موجودة".

المسؤول عن الاتصالات الاستراتيجية في البيت الأبيض كان من حيث يدري أو لا يدري قد رسم سقفاً لما يمكن لـ"إسرائيل" وآلة الحرب الأميركية أن تنجزانه في "عدوانهما الثلاثي" على قطاع غزة: إضعاف حماس عسكرياً، كمصدر تهديد لأمن "إسرائيل"، وليس استئصالها واجتثاثها، كما تنافح قادة تل أبيب وواشنطن للقول غداة السابع من أكتوبر.

لم يتساءل كيربي، ولم يسأله أحدٌ من الصحافيين، عن ماهية الفكرة/الأيديولوجيا التي يصعب على العمل العسكري القضاء عليها، الأمر الذي يستوجب التدخل لاستجلاء غموض الناطق الأميركي. 

إنها أيها السادة فكرة "المقاومة الوطنية – الإسلامية" التي قدمت حماس نموذجاً متقدماً لها في طوفان الأقصى، والتي أخذت تتردد في جنبات كل المدن والبلدات والمخيمات الفلسطينية، وتخترق وعي و"لاوعي" جيل من الفلسطينيين يتحضّر لأخذ زمام المبادرة واستلام الراية من الأجيال التي سبقته، وهو جيل ممتد من الوطن المحاصر والمحتل إلى عوالم المنفى والشتات.

ليس متوقعاً أن يقول كيربي إن طوفان الأقصى، وبقدر ما كان "كيّاً للوعي الإسرائيلي"، كان بمنزلة الشرارة التي أشعلت سهلاً في عقول وقلوب وضمائر الفلسطينيين على اختلاف أماكن وجودهم، إذ باتوا أكثر ثقة ويقيناً بإمكانية النصر على عدوهم، وأكثر استعداداً للتضحية والابتكار والإبداع في ميادين المقاومة بأشكالها المختلفة، بعدما استعادوا التوازن، واستردوا البوصلة التي كادوا يفقدونها بعد 3 عقود عجاف من التيه في دهاليز أوسلو والتنسيق الأمني والمفاوضات العبثية.

نجدنا مجبرين على تدعيم حجج كيربي فيما ذهب إليه، فالأرجح أن فارق التوقيت وانشغالات الرجل حالت دون قراءة وتمحيص التقارير التي جاءته من الضفة الغربية بمختلف مدنها ومخيماتها وقراها بعد استشهاد العاروري، حين اتشحت بأعلام حماس، وصدحت حناجر عشرات الآلاف من أبنائها وبناتها بالهتاف للشهيد والكتائب...

لقد أرادوا إخراج حماس من غزة، فإذ بها تدخل الضفة الغربية برغم أنف الاحتلال والتنسيق الأمني، ومن أوسع أبوابها. لقد جاء فشلهم "مزدوجاً ومدوياً"، فحماس لم تخرج من غزة، وما زالت تتوفر على مقدرات كبيرة، كما قال كيربي. وقد دخلت الضفة التي لم تغادرها أصلاً، ولكن دخول الفاتحين هذه المرة، فكانوا كالمنبت، لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى. أما حماس، فباقية وتتمدد، وسيُبنى على الشيء مقتضاه، شاء من شاء وأبى من أبى، وتصريحات كيربي "حنجلة"، "والرقص أوله جنجلة"، كما تعلمون.

كل شيء تفعله "إسرائيل" ينتهي إلى نقيضه... اجتاحت قطاع غزة بعد "ضربة القرن"، فتلقنت دروساً في الصمود والثبات والبسالة والإبداع المقاوم. استباحت الضفة الغربية عن بكرة أبيها، فرفرت رايات حماس على بعد أمتار قلائل من "المقاطعة" ومعاقل "التنسيق الأمني" وتحت أنظار وأسماع "الجيش الذي قُهر في 7 أكتوبر" وقطعان المستوطنين وميليشياتهم.

لقد ظنّوا أنهم باستهدافهم القائد الحمساوي – القسامي سيقطعون رأس حماس أو أحد رؤوسها الكبيرة، ونسوا أن أجيالاً من الفلسطينيين تربت على قصائد محمود درويش الذي غادرهم بجسده، فيما روحه ما زالت ترفرف فوق رؤوسهم في الساحات والميادين والأنفاق والخنادق: "وحبوب سنبلة تجف ستملأ الوادي سنابل"...

لقد ارتضوا بالتقاط صورة من الضاحية الجنوبية واقتناص لحظة ألم وحزن على فراق القائد الشهيد وصحبه، لكن حساباتهم كالعادة كانت قصيرة النظر، فلم يتنبهوا إلى حقيقة أن دماء الشهداء ستملأ سهول فلسطين ووديانها وجبالها، بالسنابل، وأن كل جيل من القادة يأتي يبني على ما انتهى إليه من سبقه، ولا يبدأ من نقطة الصفر، وأن كل جيل جديد من الفلسطينيين يكون أكثر استمساكاً بحقوقه وهويته، وبأساً وصلابة في مقاومته، وإبداعاً وابتكاراً في طرق تفكيره وإدارته للصراع مع عدو وجودي وضع بنفسه المعادلة قبل الطوفان وبعده: نحن أو هم.

قتلوا الجعبري والعيّاش، فجاءهم الضيف ومروان عيسى. قتلوا الرنتيسي فجاءهم يحيى السنوار... دخلوا إلى بيروت عام 1982، فخرجوا من الجنوب بلا قيد ولا شرط في 2000. أنهوا التهديد الذي شكلته منظمة التحرير من لبنان، فجاءهم تهديد أكبر مع صعود المقاومة الوطنية وحزب الله... استباحوا الضفة بعد اغتيال ياسر عرفات وفي أيامه الأخيرة، فخرجت إليهم من كل مدينة ومخيم الكتائب والسرايا و"الأسود من عرينها"، وبات يتعين عليهم احتلال الضفة مرة واحدة على الأقل، في كل أسبوع، من أجل "إزالة التهديد".

اعتمدوا العملاء والمتعاونين من بدايات احتلالهم، فكانت النتيجة سقوط هؤلاء تحت أقدام المنتفضين والمقاومين والشرفاء من أبناء شعب فلسطين في القرى والمدن وأبناء العشائر، تماماً مثلما سقطت دويلة الشريط الحدودي العميلة، وأُلقي برموزها في سلال القمامة، وطاردتهم لعنات شعبهم جيلاً بعد جيل.

قلة من هؤلاء الغزاة فقط بدأت تدرك أن "حرب المئة عام" التي شنّت على الشعب الفلسطيني لم تفتّ في عضده، وأن رايات المقاومة والحرية والكرامة والاستقلال والتحرير تنتقل شامخة من جيل إلى جيل، وأن شعب فلسطين على أتم الاستعداد لخوض "حروب المئة عام القادمة"، إن تطلب الأمر، حتى وإن تخللتها معارك بين الحروب، وتسويات وتهدئات بين الحروب كذلك.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.