أين العراق في خرائط قمم التطبيع؟

التطبيع مع "إسرائيل" والقبول بها والتعاطي معها كعنصر من عناصر المنظومة الإقليمية والمجتمع الدولي يعد النقطة المحورية في "صفقة القرن".

  • أين العراق في خرائط قمم التطبيع؟
    أين العراق في خرائط قمم التطبيع؟

هناك من رأى أنَّ القمة الرباعية الأخيرة التي عُقدت في مدينة العقبة الأردنية في 25 آذار/مارس الماضي، وجمعت قادة كلٍّ من مصر والعراق والأردن والإمارات، والسعودية بمستوى أقل، تمثل استمراراً لاجتماعات ولقاءات عديدة سابقة شهدتها الأعوام الثلاثة المنصرمة في القاهرة وعمّان وبغداد وأبو ظبي، وهي تتمحور في إطارها العام الشامل حول بحث سبل تعزيز التعاون السياسي والأمني والاقتصادي بين دول تربطها قواسم جغرافية وتاريخية وثقافية مشتركة، وتواجهها تحديات سياسية وأمنية واقتصادية متشابهة، إن لم تكن متطابقة ومتماثلة في بعض الأحيان، فضلاً عن العمل على صياغة رؤى وتصورات واقعية لاحتواء مشاكل المنطقة وأزماتها، وبالتالي، تجنيبها المزيد من مزالق الفوضى والاضطراب والتصارع والاقتتال.

ولعلَّ ما ظهر من تصريحات على لسان الزعماء المشاركين، الملك الأردني عبد الله الثاني، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ورئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، وولي العهد الإماراتي محمد بن زايد، عكس بصورة أو بأخرى تلك الرؤى والتصورات التي ذهب إليها البعض في تحليله وقراءاته لقمة العقبة الأخيرة، مع التأكيد أنها لم تأِت بجديد يختلف عما بلورته وخرجت به القمم السابقة بين الأطراف المشار إليها؛ قمة القاهرة في آذار/مارس 2019، وقمة نيويورك في أيلول/سبتمبر 2019 - التي عُقدت على هامش الاجتماعات السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة - وقمة عمّان في آب/أغسطس 2020، وقمة بغداد في حزيران/يونيو 2021.

قد تبدو هذه الرؤية سطحية إلى حد كبير، ما لم تأخذ بعين الاعتبار طبيعة الأطراف المشاركة وأهدافها ودوافعها وأجنداتها وأحجامها وإمكانياتها وظروفها، فضلاً عن مجمل الأوضاع والتحركات والتحديات والملفات الإقليمية والدولية التي لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاهلها وإغفال إسقاطاتها المباشرة والثقيلة على من جلسوا وتحدثوا وتحاوروا وتباحثوا في همومهم ومشاكلهم وأزماتهم وهواجسهم ومشاريعهم المشتركة. 

النقطة المهمة والجوهرية التي يفترض الإشارة إليها هنا، تتمثل بأن القمم الثلاثية السابقة بلورت ما أُطلق عليه اسم "مشروع الشام الجديد"، كتكتل اقتصادي بين العراق ومصر والأردن، مع إمكانية ضم أطراف أخرى إليه مستقبلاً، مثل السعودية والإمارات وتركيا. 

وكان رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي من أوائل الذين طرحوا هذا المصطلح وسوقوا له. كان ذلك خلال زيارته للولايات المتحدة الأميركية في شهر آب/أغسطس 2020، حين قال لوسائل الإعلام الأميركية إنه يعتزم "الدخول في مشروع استراتيجي يحمل هذا الاسم، وهو مشروع اقتصادي على النسق الأوروبي، يجمع القاهرة ببغداد، وانضمت إليه عمّان، لتكوين تكتل إقليمي قادر على مواجهة التحديات".

ولكن الرجوع قليلاً إلى الوراء يكشف حقيقة أن فكرة المشروع ونواته تعود إلى البنك الدولي، عبر دراسة أعدها وأصدرها في شهر آذار/مارس 2014، لكن بخريطة جغرافية أوسع شملت دول بلاد الشآم؛ سوريا ولبنان والأردن وفلسطين المحتلة، إضافة إلى تركيا والعراق ومصر. 

وعند التدقيق والتعمق في طبيعة الأطروحات والمواقف والأهداف والدوافع المعلنة، نجد أن هناك أوجه شبه ونقاط التقاء غير قليلة بين مشروع "الشآم الجديد" ومشروع "الشرق الأوسط الكبير" - أو الجديد - الذي طرحه رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق شيمون بيريز بعد "مؤتمر مدريد للسلام" بين الفلسطينيين والصهاينة في العام 1991، ليأخذ المفهوم والمصطلح بعد ذلك أبعاداً أوسع، من خلال حملات التنظير والتسويق والترويج المتواصل له في مختلف المحافل السياسية والفكرية والأكاديمية والإعلامية الغربية، وحتى بعض الأوساط والمحافل العربية.

ليس هذا فحسب، بل إن "الشام الجديد"، في بعض مضامينه وأبعاده غير الواضحة والضبابية، يلتقي مع ما يسمى بمشروع "صفقة القرن"، الذي أطلقه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب مطلع العام 2020، وهو خطة لتسوية القضية الفلسطينية وإنهائها لمصلحة الكيان الصهيوني، وتوظيف القدرات المالية العربية لترسيخ الوجود الصهيوني في فلسطين وتكريسه.

وإذا اعتبرنا أن الأطراف المؤسسة لمشروع "الشام الجديد" هي كلّ من مصر والأردن والعراق، فهذا يعني أن طرفين من الأطراف الثلاثة أبرما اتفاقيات تطبيع مع الكيان الصهيوني، وأقاما علاقات دبلوماسية واقتصادية وأمنية معه منذ نحو 4 عقود من الزمن، إذ إن مصر أبرمت في عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات اتفاقيات "كامب ديفيد" مع "إسرائيل" برعاية الولايات المتحدة الأميركية في 17 أيلول/سبتمبر 1978، في حين أبرم الأردن مع الكيان المحتل اتفاق "وادي عربة" في 26 تشرين الأول/أكتوبر 1994، علماً أن مثل تلك الاتفاقيات والمعاهدات لم يفلح في إلغاء أو طمس تاريخ طويل من العداء والخصومات، وحافل بالنهج الدموي الصهيوني ضد أبناء الشعب الفلسطيني، ولم يفلح كذلك في تذويب المشاعر السلبية للرأي العام المصري والأردني حيال العقيدة الصهيونية وأداتها السياسية المتمثلة بـ"إسرائيل".

وفي إطار الرؤية المستقبلية الأوسع والأشمل لمشروع "الشام الجديد"، فإن الأطراف التي يفترض أن تنضم إليه، انخرطت في واقع الأمر أو ما زالت في طور الانخراط في مشروع "صفقة القرن"، كما هو الحال مع الإمارات العربية المتحدة والبحرين وعمان والسعودية وتركيا، ناهيك بأنه يمكن أن يكون جزءاً من مجمل المشاريع المضادة لمشروع "طريق الحرير" الذي تتبناه الصين بقوة، ويعتقد أنه ينطوي على آفاق اقتصادية كبيرة وواسعة جداً لقارات العالم القديم - آسيا وأوروبا وأفريقيا - ومن ضمنها المنطقة العربية والشرق الأوسط.

وهنا، يمكن القول إنّ التطبيع مع "إسرائيل" والقبول بها والتعاطي معها كعنصر من عناصر المنظومة الإقليمية والمجتمع الدولي يعد النقطة المحورية في "صفقة القرن"، وقبله الشرق الأوسط الكبير، وكذلك الشّام الجديد، وإن لم يتم التصريح بذلك، وبوضوح وصراحة "صفقة القرن" و"الشرق الأوسط الكبير". 

وهناك قناعة راسخة لدى دوائر صناعة القرار في "تل أبيب" وواشنطن وعواصم غربية أخرى، وكذلك لدى مراكز البحث والتفكير الاستراتيجية، بأنّ العراق يمثل البوابة الأساسية والمدخل الرئيسي لكل مشاريع التطبيع وبرامجه وخطواته، ارتباطاً بموقعه وثرواته وتركيبته المجتمعية وارثه التاريخي، ولا سيما إذا عرفنا أن الوجه الآخر لأي مشروع يراد منه تقوية "إسرائيل" يتمثل بإضعاف إيران ومحاصرتها وعزلها - أو الإسلام السياسي الشيعي عموماً - ومن يرتبط بها ويتحالف معها، إن لم يكن جرّه بعيداً عنها.

كما أن بعض خطوات ومبادرات التقارب والتهدئة الأخيرة مع طهران من قبل بعض العواصم العربية، لا تتعدى كونها تكتيكات مرحلية لا تتقاطع مع الأهداف الاستراتيجية البعيدة المدى. الأمر نفسه يصدق على سوريا في ظلِّ نظامها السياسي الحالي، ويصدق على أي طرف يتبنى النهج المضاد ذاته للتوجهات والسياسات الإسرائيلية والأميركية، والسياسات الغربية على وجه العموم.

ويدرك أصحاب مشروع التّطبيع ودعاته والمريدون له والمنتفعون منه أن الطريق ما زال طويلاً لوضع العراق على سكة المشروع، بحكم أسباب وظروف وعوامل مختلفة، لعل من بينها طبيعة الأوضاع السياسية المرتبكة والقلقة فيه، وعدم وجود سلطة مركزية قوية ونافذة، مثلما هو قائم في مصر والأردن ودول الخليج، فضلاً عن أن الثقافة المجتمعية العراقية المتأصلة على امتداد عقود من الزمن، قائمة على التعاطف مع مظلومية الشعب الفلسطيني، رغم الاختلاف المذهبي، ورغم المواقف السلبية لمختلف القوى والفصائل الفلسطينية وأغلب فئات الشعب الفلسطيني إزاء مظلومية الشعب العراقي، في ظلِّ نظام حزب البعث السابق، وتأييدها ودعمها لرئيس ذلك النظام، صدام حسين، حتى بعد إعدامه في أواخر شهر كانون الأول/ديسمبر 2006.        

وفي ما يتعلق بالظروف المحيطة ومجمل الحراك الإقليمي والدولي، من الصعب جداً النظر إلى قمة العقبة الرباعية بمعزل عن قمة شرم الشيخ الثلاثية التي سبقتها بوقت قصير جداً، وجمعت كلّاً من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وولي عهد الإمارات محمد بن زايد مع رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينت، إذ أشارت الرئاسة المصرية، في بيان لها، إلى "أن القمة بحثت تعزيز العلاقات بين الدول وأهمية التعاون والتنسيق والتشاور، بما يلبي طموحات التنمية والاستقرار في المنطقة، وأمن الطاقة، واستقرار الأسواق العالمية، إلى جانب عدد من القضايا والمستجدات الإقليمية والدولية محل الاهتمام المشترك".

ولكن الأكاديمي الإماراتي القريب من أوساط الحكم في أبو ظبي، عبد الخالق عبد الله، صرح بأنَّ "قمة شرم الشيخ التي جمعت قادة مصر والإمارات وإسرائيل هي الأولى من نوعها بين أبرز شركاء أميركا في المنطقة، ورسالتها تتوجه إلى الشريك الأميركي، وإلى الخصم الإيراني المصمم على تهديد جواره الجغرافي"، مضيفاً: "رسالة القمة لواشنطن هي: هل أنتِ معنا أو مع إيران؟ هل ستقف أميركا مع شركائها أو ستنحاز إلى طهران وستندفع إلى اتفاق معها بأي ثمن؟".  

جوهر القضية، إذاً، هو كيفية تحجيم إيران واضعافها ودفع خطرها عن "إسرائيل" ودول المنطقة السائرة في طريق التطبيع، وهو ما طرحه بعض كبار ساسة المنطقة بصورة أوضح في مؤتمر النقب السداسي الذي استضافته "إسرائيل" مؤخراً، بمشاركة وزراء خارجية كل من الولايات المتحدة ومصر والإمارات والمغرب والبحرين إلى جانب "إسرائيل". وبحسب هيئة البث الإسرائيلية، "ناقش وزراء خارجية الدول المشاركة في قمة النقب في سديه بوكير قضايا مختلفة، في مقدمتها التهديد النووي الإيراني".  

ولا تبتعد حمّى القمم المتلاحقة، وبحضور "إسرائيل" المباشر أو غير المباشر ودورها المحرك، عن الزيارات والجولات المتبادلة لكبار زعماء المنطقة، كزيارة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان للإمارات منتصف شهر شباط/فبراير الماضي بدعوة رسمية من ولي العهد الإماراتي، بعد قطيعة وخصام دام بضعة أعوام، وقبل ذلك زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بينت للإمارات في 12 كانون الأول/ديسمبر 2021، في أول زيارة لمسؤول إسرائيلي رفيع المستوى إلى أبو ظبي.

كما أن زيارة الرئيس السوري بشار الأسد الأخيرة للإمارات لا تخرج عن سياق مجمل الحراك المتعدد الجوانب والاتجاهات، الذي قد يهدف في جزء منه إلى العثور على صيغ مقبولة لإخراج بعض الأنظمة التي تورطت في صراعات وحروب عبثية من المأزق والمستنقعات التي سقطت فيها، كما هو الأمر بالنسبة إلى المملكة العربية السعودية والإمارات في حربهما على اليمن، والتي دخلت عامها الثامن من دون جدوى. 

هكذا، إنَّ قمة العقبة الرباعية، بمدخلاتها ومخرجاتها، لا يمكن أن تنفصل عما سبقها وما تلاها وما سيليها من حراك، ولن تكون القمم ولقاءات الكبار واجتماعاتهم المسار الوحيد لجرِّ العراق إلى سكّة التطبيع. وإذا غادر الكاظمي منصبه، ربما سنشهد من يحلّ محلّه ويشغل مقعده في أي قمم أخرى، سواء في شرم الشيخ أو العقبة أو أبو ظبي، لكن كلَّ المسارات سوف تكون وعرة وشائكة ومتعثرة.