كيف نفهم ردود عمليات المقاومة وانعكاساتها على الكيان الصهيوني؟
علينا أن نرى أن المواقف، التي تقول "إن إسرائيل هُزمت أمنياً، أو إن المنظومة الأمنية مخترَقة"، وأن ندرك أنها لا تعبّر، بالضرورة، عن حقيقة موضوعية، وإنما تتضمّن نقداً، يحمل في طياته أكثر من هدف واحد.
خصوصية العملية المزدوجة في القدس المحتملة
استفاق "الشاباك"، صباح الأربعاء الماضي، 23/11/2022، على عملية مزدوجة في القدس المحتلة، تضمّنت وضع عبوات ناسفة في مكانين متباينين، وتفجيرهما عن بعد، من دون ان تأخذ أي منظمة المسؤولية عن ذلك. وأسفر الحادث المزدوج عن مقتل إسرائيلي واحد على الفور، بالإضافة إلى موت أحد الجرحى بعد أيام، لتكون الحصيلة قتيلين وإصابة 18 شخصاً آخَرَ إصابات متعددة.
كانت الصدمة كبيرة، ولاسيما أن قوى "الأمن" الإسرائيلية لم تعثر على خيط للوصول إلى المنفّذ أو المنفّذين، ولم يتبنَّ أي تنظيم مسؤوليته عن العملية. وتباينت التقييمات بين عملية نفذها شخص واحد، أو أن وراء العملية تنظيماً جديداً، أو أن حماس والجهاد هما اللتان توجّهان هذه العمليات عن بعد.
عامي إيلون، رئيس جهاز الشاباك الأسبق، قال، في اليوم ذاته لراديو "أف أم 103"، إن "نوع العملية، وطريقة إعداد العبوات الناسفة، وطريقة تنفيذها، تشير إلى أنها ليست عملاً فردياً، كما هي العمليات الفردية للمقاومة في الفترة الأخيرة، وإنما يقف وراءها تنظيم، قد يكون حماس أو غيره". أمّا الباحث في مركز أبحاث الأمن القومي inss، د. كوبي ميخائيل، فقال إن "الخشية الكبيرة هي أن تكون حماس وراء هذه العملية، لأن ذلك يعني أن حماس تأخذ فترة من الراحة في قطاع غزة، وتنقل نشاطها إلى الضفة الغربية، وإلى القدس بالذات. وهو مؤشر خطير جداً".
من هنا، يمكن فهم قرار الأجهزة الأمنية منع نشر أي معلومة جديدة عن العملية والتحقيقات الجارية لمعرفة الجهة التي تقف وراءها، لمدة 30 يوماً، وقد يتم تمديدها أيضاً.
ما يميز هذه العملية من تلك العمليات التي سبقتها، هو ما يخيف الجهات الأمنية الإسرائيلية. ومن هذه الميزات:
1. أنها حدثت في القدس، أو يسمى "العاصمة".
2. مجهولة هوية الفاعل، إذ لم يأخذ أي تنظيم مسؤوليته عنها، قد تكون حماس، وربما يكون تنظيماً جديداً! كما يشكّ الإسرائيليون.
3. حدوث التفجير عن بعد، وهو أمر جديد في عمليات المقاومة.
4. كون العملية مزدوجة، ونوعية، الأمر الذي يشير إلى إمكان وجود خلية، وليس شخصاً واحداً.
5. هذه العملية تُعيد إلى الأذهان تلك العمليات التي شهدتها القدس المحتلة، عشية الانتفاضة الثانية وخلالها، ولاسيما أن سكان القدس يتمتعون بحرية الحركة داخلها، وهم موجودون في كل مكان وزمان فيها.
تتباين ردود الفعل الإسرائيلية، وتتباين مستويات الخوف، عندما يُقتل مدني مقارنة بمقتل جندي، أو مستوطن في المناطق المحتلة عام 1967. وتتباين التقييمات والإجراءات والردود عندما تكون العملية في القدس المحتلة، أو في المستوطنات، أو "تل أبيب".
كيف نفهم الردود والمواقف الإسرائيلية؟
إحدى أهم نقاط الضعف في التفكير السياسي -الأمني الإسرائيلي هو أن الإسرائيليين رسموا، في أذهانهم، صورة نمطية للعربي بصورة عامة، وللفلسطيني بصورة خاصة، تتلاءم مع خطابهم، سياسياً وإعلامياً، أمام أنفسهم والعالم، وأخذوا يفسّرون المواقف والسلوك للعرب وفق نمطية استعمارية فوقية وعقلية صهيونية لا علاقة لهما بالواقع العربي، ولا بالعقلية العربية الفلسطينية، وهنا مكمن أخطائهم وضعفهم عند التطبيق.
في المقابل، عندما يحاول العربي أن يحلّل الفكر الصهيوني، مواقفَ ونهجاً سياسياً ومُمارَسةً، بعقلية عربية، فإنه يقع في الأخطاء ذاتها. مثال على ذلك، عندما يرى العربي أن الانتقادات التي يوجّهها إعلاميون واستراتيجيون وسياسيون إسرائيليون بحق قياداتهم الرسمية، السياسية والأمنية، أو اتهامهم بالإخفاق أو التقصير أو الفشل أو الجبن، هي اعتراف بالهزيمة أو الارتباك، فإن هذا العربي لا يأخذ في الاعتبار وجود صراعات على السلطة وطابع الحكم ورؤية الحل المستقبلي، والمصالح المتناقضة بين فئات المستوطنين، وأن المجتمع الاستيطاني يتميز بطريقة تفكير متباينة عن المجتمع الأصيل، وأن تباين الأصول الثقافية والعقائدية في المجتمعات الاستيطانية تجعلها تفكر بطريقة مغايرة، وتفرض عليها قوانين تسمح بالنقد الجارح، شرطاً أساسياً لجذب المستوطنين. وإن أرادوا توحيد منهجهم فإنهم يبحثون عن العدو المشترك، فيجدون أنفسهم في قوالب جامدة، لا فائدة فيها.
المستوطنون أقوياء وتجمعهم الأهداف الاستيطانية المشتركة ما دام عدوهم ضعيفاً ومشرذماً. لكنهم ضعفاء، ويستعدون للرحيل، حين يتّحد أهل البلاد الأصليون في مواجهة الاستيطان؛ ضعفاء حين ينقطع عنهم الدعم السياسي والاستثمارات الخارجية.
خلال مقابلة له مع "القناة الـ12" الإسرائيلية، قبل أسبوعين، كرّر بنيامين نتنياهو موقف بن غوريون، عندما سُئل: كم عاماً يمكن أن تعيش "إسرائيل"؟ فرد بن غوريون قائلاً: "ما دام الغرب هو الأقوى، فإسرائيل قادرة على أن تستمر". ويبدو أن هذه هي قناعة نتنياهو أيضاً.
المستوطنون بصورة عامة، والصهاينة بصورة خاصة، لا يحتملون أي حصار يمكن أن يحتمله أهل البلاد الأصليون. لو حوصر الكيان الاستيطاني الصهيوني عاماً واحداً، كما حوصرت غزة أو سوريا أو لبنان أو إيران، لَما بقي فيه نصف سكانه الحاليين، وهذا ما حدث مع نظام الآبرتهايد في جنوب أفريقيا، لأن المستوطن الذي هاجر من بلاده ليبحث عن حياة أفضل، ويبحث عن ربح، كيف يعيش في بلاد الآخرين إذا لم تتوافر له الرفاهية والربح والأمن الشخصي؟ ولنا في المهاجرين العرب وغيرهم إلى الغرب، من أميركا وكندا وأستراليا، أمثلة على ذلك.
بناءً عليه، لا يجوز لنا أن نذهب بعيداً في تفسير انتقاداتهم لأنفسهم على أنها اعتراف بالهزيمة، لأن مفهوم الهزيمة لديهم متباين عن مفهوم الهزيمة لدينا، ولأن مفهوم الانتصار لديهم متباين عن مفهوم الانتصار لدينا، ولأن مساحة الاختلاف والانتقاد لديهم أوسع من المساحة المتاحة للمختلفين لدينا.
ويكفي أن نشير هنا إلى مشروع "انتصار إسرائيل" الذي يعمل عليه مركز أبحاث "منتدى الشرق الأوسط" في واشنطن، والذي يعرّف الانتصار على أنه "استسلام العدو واعترافه بأنه غير قادر على تغيير الواقع". وهذا التعريف هو أبعد وأعمق كثيراً من انتصار عسكري أو حتى سياسي، حتى لو تم تصنيفه انتصاراً استراتيجياً.
الخوف الدائم لدى المستوطنين
كي نفهم حالات الخوف الشديد لدى المستوطنين من كل عملية فدائية، مقارنة بقدراتهم العسكرية الكبيرة، لا بد من أن نفهم في أيّ حالة عبثية يعيشها هؤلاء المستوطنون.
بالإضافة إلى ذلك، عندما نحاول قراءة مواقفهم الرسمية مقارنة بمواقفهم غير الرسمية، علينا أن نأخذ في الاعتبار ديناميكية اتخاذ القرار لديهم، سياسياً وأمنياً، وهي ديناميكية متباينة عن تلك المعروفة في المجتمعات السياسية العربية.
إذا أردت أن تفهم المواقف الإسرائيلية فعليك أن تفكر وفق عقليتهم والعوامل المؤثرة لديهم في اتخاذ القرار، وهي متباينة تماماً عن العوامل المؤثرة في اتخاذ القرار العربي.
العوامل المؤثرة في اتخاذ القرارات؟
في نهاية الأمر، لا يصدر قرار استراتيجي، سياسي أو أمني أو حتى اقتصادي، إلّا بموافقة رئيس الحكومة، لكنه يتأثّر بعوامل وعناصر متعددة خلال عملية صياغة القرار. فمن الجهات المؤثرة:
1. الجيش وقائد الأركان، بصورة خاصة، إذا كان القرار عسكرياً.
2. مراكز الأبحاث الاستراتيجية.
3. الموساد.
4. الشاباك.
5. ميزان القوى في الحكومة نفسها، بالإضافة إلى ميزان القوى بين الحكومة والمعارضة.
6. العلاقة بالحركة الصهيونية العالمية.
7. العلاقة بالبيت الأبيض والكونغرس، والعلاقة بالغرب، بصورة عامة.
8. في نهاية الأمر، الموقف الشعبي، وهو مهمّ جداً، موقف الناخب الإسرائيلي، الذي يتأثر بالإعلام، ويؤثّر فيه كما يؤثر في الموقف الحكومي وموقف المعارضة، على حد سواء. هذا العامل المؤثّر، على سبيل المثال، غائب تماماً خلال عملية اتخاذ القرار العربي.
من هنا، علينا أن نرى المواقف التي تقول إن "إسرائيل" هُزمت أمنياً، أو أن المنظومة الأمنية مخترَقة، أو أن الشرطة لا تقوم بواجباتها... إلخ، وأن نعرف أنها لا تعبّر، بالضرورة، عن حقيقة موضوعية، وإنما يكمن فيها نقد يحمل في طياته أكثر من هدف واحد، مثلاً:
1. اتهام السلطة الحاكمة بالتقصير من أجل إسقاطها وتغييرها بسلطة أخرى، واتهام الشرطة بالتقصير من أجل تغيير القائد العام للشرطة بآخر، يتجاوب مع طموحات من ينتقد.
2. ما يميّز المجتمع الاستيطاني الصهيوني أنه يسعى للكمال، وفق عقيدته التوراتية، ولا يقتنع إلّا بالتفوق المطلق على أعدائه، أبناء البلاد الأصليين. وهو يعتقد أن أيّ ضعف أو تراجع أو اعتراف بحقوق شعب البلاد، سيؤدي إلى تدمير المشروع الاستيطاني بالكامل. ودائماً يجب أن تبقى الإصبعُ على الزناد
3. الاتهام بالتقصير أو بالارتباك أو بالهزيمة، هو نتاج الشعور بفائض القوة غير المستخدمة. ويطمح المنتقدون إلى أن تقوم الحكومة الجديدة باستخدام هذه القوة من أجل الوصول إلى الأهداف، وهي تتمثل بالقضاء التام على طموحات العدو أو الشعب الأصلي.
المقولة الرائجة هي أن "ما لم يتم تحقيقه بالقوة سيتم تحقيقه بمزيد من القوة". وبالتالي، لا بدّ من استخدامها. وهذه المقولة مستندة إلى مقولة توراتية تقول: "اضربْه اضربْه حتى يقول: آمنت".
الشعور بفائض القوة هو شعور إسرائيلي عامّ في ظل التشرذم الفلسطيني الداخلي، وهرولة الأنظمة العربية إلى التطبيع واسترضاء "إسرائيل"، وفي ظل الصراعات العربية الداخلية التي لا تُبقي مجالاً أمام الإسرائيلي إلّا أن يشعر بالانتصار والتفوق. لكنّ هذا الشعور الذاتي بالتفوق والانتصار لا ينسجم مع الواقع على الأرض، بسبب وجود مقاومة عربية شعبية لهذا التطبيع، بدت واضحة في رفض الشعوب العربية مقابلة الصحافة الإسرائيلية في قطر خلال أيام المونديال، ومقاومة شعبية فلسطينية، صغيرة العدد والإمكانات، ومع ذلك لا يستطيعون الانتصار عليها.
هذا الشعور بفائض القوة، مع الاصطدام بواقع عدم القدرة على الانتصار، يُعيده الإعلامي والاستراتيجي الصهيوني، وحتى "المواطن" العادي، إلى تقصير ذاتي من المسؤولين السياسيين والأمنيين. لذلك، نجدهم متهمين بالتقصير، وبالجبن، وبالارتباك، وما إلى ذلك.
إذا أردت ان تفهم ماذا يريد عدوّك، ففكّر بعقليته هو! بعقيدته وثقافته ومصالحه ورؤيته. وليس بعقليتك!